رقائقٌ على حافةِ الجغرافيا السياسية: كَيفَ يُربِكُ قرارُ ترامب سباقَ الذكاءِ الاصطناعي مع الصين

أعاد قرارُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب فَتح باب بَيعِ رقائق الذكاء الاصطناعي المُتقدِّمة إلى الصين خلطَ أوراق المنافسة التكنولوجية العالمية، وأثارَ تساؤلاتٍ عميقة حول مستقبل التفوُّق الأميركي. وبين الحسابات التجارية والمخاوف الأمنية، يَتَكَشَّفُ صراعٌ تتجاوزُ رهاناته حدودَ الأسواق إلى قلبِ الجغرافيا السياسية.

رقائق “إنفيديا”: تريدها الصين لتعزيز قدرتها على التفوّق في مجال الحوسبة الرقمية؟

ألاسدير فيليبس-روبنز*

أثارَ قرارُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب السماح ببيع رقائق الذكاء الاصطناعي المُتقدِّمة إلى الصين، بما في ذلك رقائق “H200 من شركة “إنفيديا”، موجةً واسعة من القلق داخل الأوساط السياسية والأمنية الأميركية. فقد وصف كريس ماكغواير، المسؤول السابق في وزارة الخارجية، الخطوة بأنها “لحظةٌ مفصلية في سياسة التكنولوجيا الأميركية”، فيما حذّرَ راش دوشي، المستشار السابق لشؤون الصين في مجلس الأمن القومي، من أنَّ تفوُّقَ الصين في مجالَي الهندسة وتوليد الطاقة يجعلُ من تصدير هذه الرقائق عاملًا حاسمًا في سباقِ الذكاء الاصطناعي العالمي.

ويُنظَرُ إلى قرار السماح ببيع رقائق “H200 بوصفه تحوُّلًا جوهريًا في النهج الأميركي، غير أنَّ أثره الفعلي سيظلُّ مرهونًا بما ستُقرّره الإدارة لاحقًا. فالسؤال الأهم—والذي لم يُحسَم بعد—يتعلّقُ بحجم الصادرات المسموح بها. إذ إنَّ فتحَ الباب أمام الصين لشراء ملايين الرقائق قد يؤدّي إلى إعادة رسم موازين المنافسة في سباق الذكاء الاصطناعي، في حين أنَّ تقييدَ الكميات وتحويل كل شحنة إلى أداةِ ضغطٍ تفاوضي من شأنه أن يحدَّ من التداعيات الاستراتيجية للقرار.

وفي حال اختارت إدارة ترامب المسار الثاني، فإنها ستكونُ بصدد تكرارِ النهج الذي اتبعته سابقًا في صادرات تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى الشرق الأوسط: إعلانٌ سياسي كبير يعقبهُ تدفُّقٌ تدريجي ومدروس للصادرات. مثل هذا السيناريو قد يُتيحُ لواشنطن تعزيز حصة “إنفيديا” داخل السوق الصينية من دون التفريط بالتفوُّق الأميركي الشامل في مجال الحوسبة المُتقدِّمة. ومع ذلك، يبقى بَيعُ أيّ كمية من رقائق “H200 محفوفًا بالمخاطر، سواء من حيث استعداء حلفاءٍ رئيسيين أو من حيث تقديم تنازلاتٍ تكنولوجية من دونِ مُقابِلٍ سياسي واضح من بكين. ويبدو أنَّ ترامب قد أعلن عن ذلك من دون أن يُحقّقَ أيَّ مكاسب من الصين في المقابل. ولكن كما هو الحال غالبًا مع ترامب، قد يكونُ الواقعُ أقلَّ حدّةٍ مما توحي به الضجة الإعلامية الأوَّلية.

شرائح “H200” المرغوبة

طُرِحَت رقائق “H200  في آذار (مارس) 2024 بوصفها المُنتج الأبرز لشركة “إنفيديا” ضمن جيل “هوبر” من معالجات الذكاء الاصطناعي. ورُغمَ أنَّ الشركة انتقلت لاحقًا إلى الجيل الأحدث “بلاكويل”، فإنَّ رقائق “H200 ما تزال تُمثّلُ العمود الفقري للبنية الحاسوبية المُستخدَمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها على نطاق واسع. وتعتمدُ كبرى تجمُّعات الحوسبة المُتقدّمة في العالم حتى اليوم على “H200 وسابقتها “H100، وهو ما يعكس مكانتهما العملية في السوق، بصرف النظر عن كونهما لم تعودا الأحدث تقنيًا.

وبرُغمِ مرور أكثر من عام على إطلاقها، لا تزال “H200 تتفوّقُ بنحو 30 في المئة على أقوى رقاقة صينية مُتاحة حاليًا، وهي “Ascend 910C التي تُطوّرها وتُنتجها شركة “هواوي”. ويعكسُ هذا الفارق عُمقَ الفجوة القائمة في قدرات الحوسبة، لا سيما في التطبيقات كثيفة المُتطلِّبات التي تقوم عليها نماذج الذكاء الاصطناعي المُتقدّمة.

ولا تشيرُ المؤشّرات الحالية إلى أنَّ الصين قادرةٌ على سدِّ هذه الفجوة في المدى القريب. فوفق تقديرات “هواوي” نفسها، لن تتمكّنَ الشركة من إنتاجِ رقاقةٍ تُضاهي أداء “H200 قبل أواخر العام 2027، فضلًا عن أنها ستظلُّ عاجزةً عن مجاراة الطاقة الإنتاجية الهائلة التي تتمتّعُ بها “إنفيديا”. وتشير التقديرات العامة إلى أنَّ الشركات الأميركية ستنتج في العام 2025 ما لا يقل عن عشرين ضعفًا من رقائق الذكاء الاصطناعي—بعد احتساب الأداء الفعلي—مُقارنةً بنظيراتها الصينية، على أن تتسعَ هذه الفجوة إلى نحو خمسين ضعفًا بحلول العام 2026.

في هذا السياق، يُصبحُ السماحُ ببيع رقائق “H200 للصين عاملًا بالغ التأثير في طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي. فعلى الرُغم من القيود المفروضة على الوصول إلى الرقائق الأميركية، واصلَ المُطوِّرون الصينيون تحقيقَ تقدُّمٍ ملحوظ في بناء نماذج مُتقدِّمة، ونجحوا في اقتناصِ حصصٍ متزايدة من السوق العالمية. غير أنَّ هؤلاء المُطوّرين يشيرون باستمرار إلى أنَّ محدودية الوصول إلى رقائق الحوسبة المُتقدِّمة تُشكّلُ العائقَ الأساسي أمامَ تسريعِ هذا التقدُّم.

وتَكشفُ التقاريرُ أنَّ شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى، وفي مقدمتها “علي بابا” و”تينسنت”، تُكثّفُ ضغوطها على الحكومة الصينية لضمان الحصول على وارداتٍ مستقبلية من رقائق “H200، في محاولةٍ لتجاوز اختناق الحوسبة الذي يُقيّدُ توسّعها في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.

هذا، بطبيعة الحال، هو الرهان الذي يُعوِّلُ عليه مستشارو ترامب. فهم يجادلون بأنَّ فتحَ السوق الصينية أمام رقائق “إنفيديا” سيؤدي إلى سحب الطلب من الشركات الصينية المُصَنِّعة للرقائق، ما يحرمها من الإيرادات ومن “حلقات التغذية الراجعة” الضرورية للبحث والتطوير، ويُقوّضُ قدرتها على تحسين منتجاتها واجتذاب مزيد من العملاء عالميًا. غير أنَّ هذا الرهان يصطدمُ بواقعٍ مغاير؛ فالصين ماضية منذ سنوات في بناءِ سلسلةِ توريد محلية للذكاء الاصطناعي، واستراتيجيتها للتوطين سبقت القيود الأميركية على تصدير الرقائق بوقتٍ طويل. وقد أوضحت الحكومة الصينية بالفعل أنها ستُلزِمُ العملاء المحليين بمواصلة استخدام منتجات “هواوي”، على أن تُستكمَلَ الفجوات التي تعجزُ الشركات الصينية عن تلبيتها عبر المنتجات الأجنبية عند الضرورة.

ولذلك، لا يبدو مُستَغرَبًا أن يرى كثيرون في واشنطن خطرًا مباشرًا على صناعة الذكاء الاصطناعي الأميركية. فقد وصف مستشار الأمن القومي السابق، جايك سوليفان، القرار في حديثٍ إلى صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه “جنوني”، مُضيفًا: “نحنُ نتخلّى حرفيًا عن ميزتنا. قادة الصين لا يُصَدِّقون حظّهم”. ويزدادُ هذا الانتقاد حدّةً مع غيابِ أيِّ مكسبٍ سياسي واضح في المقابل؛ إذ إنَّ ترامب كان قد حصل، خلال لقائه الرئيس الصيني شي جين بينغ في تشرين الأول (أكتوبر)، على هدنةٍ تجارية من دون تقديم تنازلات في ملف الرقائق. ومن ثم، يبدو الانتظارُ لأسابيع قبل السماح ببيعها لاحقًا قرارًا يفتقرُ إلى منطقٍ استراتيجي واضح.

قطرةٌ لا فيضان

ومع ذلك، وبرُغم ما يثيره القرار من ارتباكٍ استراتيجي، فإنه لا يعني بالضرورة أُفولَ الهيمنة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي. فالعاملُ الحاسم هنا لا يتمثّل في نوعية الرقائق التي قد تتمكّن الصين من شرائها بقدر ما يتمثّل في الكمية التي تستطيع تجميعها فعليًا. ولا يزال أمام إدارة ترامب هامشٌ واسعٌ للتحكُّم في هذا المُتغيّر عبر تحديد حجم الصادرات.

وتكتسبُ مسألة الكمية أهمية قصوى لأنَّ الذكاء الاصطناعي الحديث شديد النهم لقوة الحوسبة. فبناءُ نماذج رائدة جديدة يتطلّب قواعد ضخمة من رقائق الذكاء الاصطناعي؛ إذ تستخدم أكبر النماذج اليوم عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، من أحدث الرقائق. كما إنَّ هذه القدرة الحاسوبية ضرورية لتشغيل الخدمات على نطاق واسع، ولإجراء الأبحاث على البنى المعمارية الجديدة وأساليب التدريب المتقدّمة. ويكفي التذكير بأنَّ شركة “أوبِن إي آي” (OpenAI)  خصّصت في العام 2024 معظم طاقتها الحاسوبية للأبحاث، لا لتدريب النماذج العامة أو تشغيلها تجاريًا.

وفي هذا الإطار، يتمتع التفوُّق الوطني في قوة الحوسبة بعوائد تراكمية واضحة: فالمزيد من الرقائق يتيح تطوير منتجات ذكاء اصطناعي أفضل، والمنتجات الأفضل تولّدُ إيراداتٍ أعلى، وهذه الإيرادات بدورها يُعادُ استثمارها في البحث والتطوير، بما يعزز الفجوة التكنولوجية في المدى الطويل.

المسألة الحاسمة لا تتعلّقُ بمبدَإِ بيع رقائق “H200 للصين بقدر ما تتعلّق بحجم ما سيُسمَحُ ببيعه. فالفارق بين السماح ببيع مئات الآلاف من هذه الرقائق، أو فتح الباب أمام بيع ملايين منها، كفيل بإحداث تحوُّل جوهري في ميزان سباق الحوسبة الذكية. ويتوقع “معهد التقدُّم” (The Institute for Progress)  أنه في حالِ غيابِ أيِّ قيودٍ فعلية على الصادرات، قد تتجاوز مشتريات الصين مليوني رقاقة خلال العام المقبل وحده. مثل هذا السيناريو من شأنه أن يُقلّصَ تفوُّق الولايات المتحدة في مجال الحوسبة المتقدِّمة من أكثر من عشرة أضعاف إلى نطاق يتراوح بين 1.2 وخمسة أضعاف فقط، وهو ما قد يتيح لشركات الذكاء الاصطناعي الصينية التفوُّق على منافسيها الأميركيين في بعض المجالات.

في المقابل، فإنَّ الاكتفاءَ بالسماح ببيع بضع مئات الآلاف من الرقائق سيمنح الشركات الصينية دفعةً ملموسة، لكنه على الأرجح سيُبقي الفجوة الحاسوبية لصالح الولايات المتحدة واسعة بما يكفي للحفاظ على تفوُّقها الاستراتيجي.

ويُشيرُ بعضُ المؤشّرات إلى أنَّ الإدارة الأميركية لا تعتزمُ فتحَ الصادرات على مصراعَيها. فقد شدّدَ إعلانُ ترامب الأوَّلي على أنَّ بيعَ الرقائق سيقتصرُ على “عملاءٍ مُعتَمَدين” ووفق “شروطٍ” تهدفُ إلى حماية الأمن القومي. ورُغمَ أنَّ تحديدَ هوية هؤلاء العملاء قد لا يكون ذا أثرٍ عملي كبير—نظرًا لصعوبة منع إعادة توزيع الرقائق داخل الصين—فإنَّ صيغةَ الإعلان تُوحي بأنَّ واشنطن ستعتمدُ نظامَ تراخيص فردية، بدل رفع القيود المفروضة على الصادرات بشكلٍ شامل.

ويعني الإبقاء على شرط الترخيص أنَّ الإدارة ستحتفظ بقدرةٍ مباشرة على التحكُّم في حجم المبيعات وتوقيتها. فبموجب قوانين مراقبة الصادرات، تستطيع وزارة التجارة تحديد عدد الرقائق المشمولة بكل ترخيص، وتعيين مدة صلاحيته، وفرض الشروط التي تراها مناسبة، بل وحتى إلغاء الترخيص بقرارٍ إداري عند الحاجة. وبدل الموافقة على كمياتٍ كبيرة دفعةً واحدة، يمكن للوزارة تأجيل منح كل ترخيص وربطه بتقدُّمٍ تحرزه بكين في ملفاتٍ أخرى تهمُّ إدارة ترامب، مثل شحنات المعادن الأرضية النادرة أو ترتيبات التعاون التجاري.

سبقَ لإدارة ترامب أن لجأت إلى تكتيك “الإعلان الكبير والتنفيذ البطيء” في ملفِّ صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الشرق الأوسط. ففي أيار (مايو)، وخلال جولته في السعودية والإمارات، قدّم ترامب وعودًا بشراكاتٍ واسعة النطاق في مجال أشباه الموصلات، قُدّرت بملايين الرقائق المُتقدِّمة من إنتاج “إنفيديا”. غير أنَّ ترجمة هذه الوعود إلى واقع استغرقت وقتًا أطول بكثير؛ إذ مرت ستة أشهر قبل صدور أولى الموافقات الرسمية على الشحنات المُخَصَّصة للشركات السعودية والإماراتية، وحتى عند صدورها، لم توافق وزارة التجارة إلّا على نحو 35 ألف رقاقة فقط من أحدث منتجات “إنفيديا”، وهو رقمٌ يقلُّ كثيرًا عمّا جرى الترويج له في البداية.

وبحسب ما تداوله مسؤولون مُطَّلعون، فإنَّ هذا التأخير لم يكن تقنيًا بقدر ما كان سياسيًا، إذ ضغط وزير التجارة، هوارد لوتنيك، على القيادات الإماراتية للوفاء بالتزاماتها الاستثمارية داخل الولايات المتحدة قبل إعطاءِ الضوء الأخضر للصادرات، إلى جانب مخاوف أمنية ساهمت في إبطاء وتيرة الموافقات.

ومن المرجح أن يتكرّرَ سيناريو مُشابِه في ما يخص شحنات “H200 إلى الصين. فعملية الترخيص ستتطلّب مفاوضات مُعقَّدة بين البيت الأبيض ووزارة التجارة من جهة، وشركة “إنفيديا” والمُشترين الصينيين—وربما الحكومة الصينية نفسها—من جهة أخرى. كما إنَّ أربع وزارات أميركية، هي التجارة والخارجية والطاقة والدفاع، تملكُ صلاحية إبداء الرأي في منح التراخيص، ما يضيف طبقة إضافية من التعقيد البيروقراطي. وفي هذا السياق، قد يُشكّلُ أيُّ تصعيدٍ أو استفزازٍ صيني ذريعةً كافية لتعليق الشحنات أو تأجيلها، فيما يُتَوَقَّعُ أن يُساهِمَ ضغط الكونغرس بدوره في إبطاء العملية.

أما على الجانب الصيني، فبرُغم وجود عددٍ كبير من المشترين المُحتَمَلين، تلوح بوادرُ احتكاكٍ من جانب الحكومة. ففي اليوم التالي لإعلان ترامب، أفادت صحيفة “فايننشال تايمز” بأنَّ وزارة أمن الدولة الصينية تدرُسُ إلزامَ الشركات الراغبة في شراءِ الرقائق الأميركية بتقديمِ تفسيراتٍ لعدم قدرتها على تلبية احتياجاتها عبر منتجات “هواوي” المحلية. ورُغمَ أنَّ العديد من الشركات الصينية مُرَشَّحة للحصول على الموافقة—لا سيما أنَّ بكين سعت إلى اقتناء هذه الرقائق لسنوات—فإنَّ السلطات ستعمل في الوقت ذاته على ضمان استمرار الطلب على رقائق “هواوي”، ودفع مسار التوطين قدمًا، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى مزيدٍ من التأخيرات.

وفوق ذلك، فإنَّ جُزءًا من رقائق “H200 التي قد تصل إلى الصين لن يُضيفَ بالضرورة قدرة حاسوبية جديدة، بل سيحلُّ محلَّ قنوات وصول قائمة بالفعل. فالصين تمتلك مخزونًا مُعتبَرًا من رقائق “إنفيديا”، يعودُ جُزءٌ منه إلى وارداتٍ سابقة لتشديد قواعد مراقبة الصادرات الأميركية في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. كما تُهرَّب كميات أكبر من الرقائق إلى البلاد سنويًا عبر مسارات غير رسمية. وتشير تقارير أخرى إلى أنَّ بعضَ الشركات الصينية استطاع الوصول إلى رقائق محظورة عبر مراكز بيانات ضخمة في دول مجاورة، مثل ماليزيا، التي شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في واردات الرقائق خلال العام الماضي. وفي حال انتهت مبيعات “H200 إلى نطاق مئات الآلاف المحدودة، فمن المرجح أن تحلَّ نسبةٌ كبيرة منها محلَّ الرقائق التي كان المطوِّرون الصينيون سيحصلون عليها عبر التهريب أو الوصول غير المباشر على أيِّ حال.

إغضاب الحلفاء

ومع ذلك، يظلُّ لقرار ترامب وزنٌ استراتيجي كبير يتجاوزُ أثره المباشر على سوق الرقائق. فمن شأن هذه الخطوة أن تُضعِفَ قدرة واشنطن على إقناعِ دولٍ أخرى بتبنّي قيودٍ مُماثلة على تصدير تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى الصين. وعلى مدى سنوات، مارست الولايات المتحدة ضغوطًا مُكَثَّفة على حلفائها—ومن بينهم اليابان وهولندا وتايوان—لدفعهم إلى تحمّل خسائر اقتصادية وتوتّرات ديبلوماسية مع بكين، انطلاقًا من سردية مفادها أنَّ القيود التكنولوجية تخدمُ أمنًا قوميًّا مُشتركًا. وإذا خلصت واشنطن اليوم إلى أنَّ بَيعَ الرقائق المُتقدِّمة للصين يصبُّ في مصلحتها الخاصة، فمن الطبيعي أن يتساءلَ هؤلاء الحلفاء عن جدوى استمرارهم في تحمُّلِ كلفة سياسات تقييدية لم تعد الولايات المتحدة نفسها مُلتَزِمة بها.

وتزدادُ خطورة هذا التحوُّل لأنَّ أيَّ استراتيجية فعّالة للحفاظ على التفوُّق الأميركي في صناعة الرقائق لا يمكن أن تقومَ من دون تعاونٍ وثيق مع الحلفاء. فإذا كانت إدارة ترامب تسعى إلى إضعاف شركات تصنيع الرقائق الصينية عبر السماح لشركة “إنفيديا” باستعادة عملائها في الصين، فإنَّ نجاحَ هذا النهج يظلُّ مشروطًا بتشديد القيود على تصدير معدّات تصنيع الرقائق إلى تلك الشركات. وتُمثّلُ توصية “لجنة الصين المختارة” في مجلس النواب الأميركي بحظر جميع مبيعات معدات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية العميقة نقطة انطلاق منطقية في هذا الاتجاه؛ إذ تُعَدُّ هذه المعدات—المحظورة حاليًا على شريحة محدودة من الشركات الصينية—عنق زجاجة أساسيًا في إنتاج الرقائق المُتقدّمة. غير أنَّ تنفيذ مثل هذا الحظر يصطدم بعقبة سياسية واضحة، إذ إنَّ هذه المعدات تنتجها شركة “ASML الهولندية، وقد تتردّدُ حكومتها في تشديد القيود استجابةً لطلب إدارةٍ أميركية تُظهِرُ سياسةً مُتقلّبة تجاه الصين وعداءً صريحًا للمشروع الأوروبي.

ويبقى احتمالٌ آخر مطروحًا، وإن كان أقل وضوحًا: فبدل المضي في استراتيجية هجومية تهدف إلى تقويض صناعة الرقائق الصينية، قد يسعى ترامب إلى تقارُبٍ أوسع مع بكين، يقوم على إعادة ترتيب النظام الاقتصادي العالمي عبر تفاهمات بين القوى الكبرى. غير أنَّ المتشددين في واشنطن، الذين يخشون أسوأ السيناريوهات، والمطوِّرين الصينيين، الذين يأملون في تدفُّقٍ غير محدود لرقائق “H200، يجدر بهم أن يستحضروا درسًا تكرّر مع كثيرين دخلوا في شراكاتٍ تجارية مع ترامب من قبل: فالبيانات الصحافية المليئة بالوعود الكبيرة لا تعني بالضرورة أنَّ ما يُعلَنُ سيتجسّدُ كاملًا عند لحظة التنفيذ أو توقيع العقود.

  • ألاسدير فيليبس-روبِنز هو زميلٌ في برنامج التكنولوجيا والشؤون الدولية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، حيث يركز بحثه على التكنولوجيا الناشئة والأمن القومي.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى