بَعدَ تَفَكُّكِ “محور المقاومة”، الشِيعةُ في امتحانِ المَصيرِ الإقليمي
بينما تُجمِعُ القراءاتُ السائدة على أنَّ نفوذَ إيران ومحورها يتراجَعُ بعد الضربات الأخيرة في غزة ولبنان وسوريا وطهران، تُظهِرُ الوقائع أنَّ المشهدَ أكثر تعقيدًا. فخلف انهيار الذراع العسكرية للمحور، تتشكّلُ تحوُّلاتٌ أعمق في الهوية الشيعية ودورها السياسي الإقليمي—تحوُّلاتٌ قد تُعيدُ صياغةَ مستقبل الشرق الأوسط بأسره.

ماريا فانتابي ووالي (فالي) نصر*
سادت خلال الأشهر الماضية قناعةٌ بأنَّ الضربات الأميركية والإسرائيلية على إيران، وما رافقها من تفكيكٍ لميليشيات طهران وحلفائها في غزة ولبنان وسوريا، شكّلت ضربةً قاصمة لنفوذ الجمهورية الإسلامية في الشرق الأوسط. غير أنَّ هذا التقييم يبدو قاصرًا عن فَهمِ طبيعةِ “محور المقاومة” نفسه، وعن إدراكِ قدرة طهران —التاريخية والمُتَجدِّدة— على إعادة تشكيل شبكاتها الإقليمية كُلَّما بدت على وشك الانهيار.
فمنذ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، استغلّت إيران الفراغَ الأمني والسياسي لبناءِ منظومةٍ عابرة للحدود تجمع بين العقيدة والولاء السياسي والسلاح. امتدَّ هذا المحور من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، ليصبح —كما حذّر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني آنذاك— أشبهَ بـ”هلالٍ شيعي” يُعيدُ رَسمَ موازين القوة في المنطقة. وبحلول العام 2014، بات الحديث عن أربع عواصم عربية واقعة تحت النفوذ الإيراني جُزءًا من التحليل السياسي السائد.
اليوم، يبدو هذا المحور عسكريًا في أضعفِ حالاته: مهندسوه في طهران تقدّموا في العمر، ووكلاؤهم في المنطقة تلقّوا ضربات موجعة أنهكت صفوفهم. وزاد التقارب الحذر بين إيران والسعودية خلال العامين الماضيين —بعد سنواتٍ من التنافُس على تأجيج الانقسام الطائفي— من انتشار الانطباع بأنَّ لحظةَ الصدام المذهبي الواسع قد انقضت، وأنَّ الشرق الأوسط يتجه نحو مرحلةٍ جديدة أقل صخبًا.
لكن حتى مع تراجُع تأثير “محور المقاومة”، تبقى الهوية الشيعية —السياسية والدينية— عنصرًا صلبًا لا يسهل زعزعته. فشبكة الوكلاء والأذرع التي بنتها إيران ساعدتها بلا شك على توسيع حضورها في العالم العربي، إلّا أنَّ قدرةَ المحور على الصمود ارتكزت أيضًا إلى عناصر أعمق: قوّةُ المُعتَقد، وتماسُك المجتمعات المحلية، والروابط العائلية الممتدة عبر الحدود. ومن هنا تبرزُ مسألةُ مَوقعِ الشيعة ووضعهم في الإقليم كعاملٍ حاسمٍ في أيِّ تصوُّرٍ عربي أو أميركي لإعادة بناء الاستقرار في الشرق الأوسط بعد الحرب المُدمّرة بين إسرائيل و”حماس”. وعليه، فإنَّ أيَّ مشروعٍ للسلام يتجاهَلُ دمجَ الشيعة —داخل إيران وخارجها— في هيكل النظام الإقليمي الجديد، سيكون مشروعًا قاصرًا منذ البداية.
فالخطة المطروحة اليوم لنزع سلاح “حزب الله” من دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، أو تأمين إعادة إعمار للمناطق الشيعية التي دُمِّرَ جُزءٌ كبير منها، أو توفير خدمات بديلة من تلك التي كان الحزب يُقدّمها، أو إشراك الشيعة بوزنٍ أكبر في إدارة الدولة — كل ذلك لا يُقدّمُ لهذه الطائفة سوى مزيدٍ من التهميش. وإذا مضت إسرائيل فعلًا في تهديدها بغزو لبنان، فإنَّ الأمرَ سيُنظَرُ إليه داخل الطائفة الشيعية كخطرٍ وجودي، ما سيدفعها إلى الاحتماء بالمقاومة. ومع صعود الحكم السنّي في سوريا، وضغوط الجيش الأميركي على الميليشيات الشيعية في العراق، قد يتحوّلُ إحساسُ الشيعة بالحصار إلى شعورٍ إقليمي مُشترك. وحين تُستبعَدُ هذه الجماعات من مشاريع بناء الدولة أو المساعي الديبلوماسية، فمن الطبيعي أن تعودَ إلى الطائفية كوسيلةٍ للبقاء، ما يفتح الباب أمام اضطراباتٍ أوسع. وبغيابِ دورٍ فاعلٍ للشيعة في النظام الإقليمي الجديد، يُصبِحُ احتواءُ النفوذ الإيراني مهمّةً شبه مستحيلة.
قفزة إيمان
رُغمَ أنَّ الشيعة لا يُشَكّلون سوى 15 إلى 20 في المئة من المسلمين في العالم، إلّا أنهم يمّثلون نحو نصف سكان الشرق الأوسط المسلمين (إذا أضفنا إيران). وهم يشكلون الأغلبية في إيران والعراق والبحرين، وحوالي 35% في اليمن، كما إنهم يشكلون بين 27 إلى 31% من عدد سكان لبنان. ومع ذلك، ظلّت المنطقة طوال القرن العشرين تُعرَّف بوجهها السنّي. وعندما وقعت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بدا وكأنها إيذانٌ بمرحلةٍ جديدة قد ينهضُ فيها الشيعة سياسيًا، على نحوٍ أثارَ ردودَ فعلٍ قلقة في العالم السنّي. ثم جاءت الحرب العراقيةـالإيرانية بين العامين 1980 و1988، لتُكرِّس خطوط التصدُّع الطائفي وتُرسِّخُ بدورها روابط عابرة للحدود بين الشيعة، إذ فرّ أبو مهدي المهندس —الذي سيصبح لاحقًا أحد أبرز قادة الميليشيات الشيعية في العراق— من بلاده خلال الحرب، ليقاتل إلى جانب نظرائه الإيرانيين ضد نظام صدام حسين.
توسّعت الروابط الشيعية العابرة للحدود بشكلٍ لافت بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. فقد أسهم سقوط نظام صدام حسين في إحياءِ الهوية الدينية، مع تزايد أعداد الزائرين إلى الأضرحة الشيعية في العراق وإيران وسوريا، وإلى مراكز التعليم الديني التاريخية في النجف وقم. وفي الوقت نفسه، ظهرت قوى سياسية وعسكرية شيعية لملء الفراغ السياسي الذي تركه انهيار الدولة العراقية. وفي منتصف العقد الأول من الألفية، استعانَ الحرس الثوري الإسلامي الإيراني بحلفائه العراقيين، مثل أبو مهدي المهندس، وبمقاتلين من “حزب الله” اللبناني مثل علي موسى دقدوق وعماد مغنية، لتنسيق جهود الميليشيات الشيعية التي رفضت نزع سلاحها أو الانخراط في العملية السياسية التي رعتها الولايات المتحدة.
ومع اندلاع موجة “الربيع العربي” في العام 2011، ازدادَ النفوذ الإيراني في العالم العربي، إذ تحوَّلَت الحروبُ الأهلية في سوريا واليمن تدريجًا إلى صراعاتٍ ذات طابع طائفي. فالنظام السوري، رغم انتمائه العلوي المختلف عقائديًا عن الشيعة، وجد نفسه أمام تهديدٍ سنّي دفعه إلى الارتماء أكثر في أحضان إيران و”حزب الله”. وفي العام 2013، حشدت طهران و”حزب الله” مقاتلين شيعة من أفغانستان والعراق وباكستان للقتال إلى جانب قوات النظام السوري ضد الفصائل السنّية المدعومة إقليميًا. وبعدَ عامٍ واحد فقط، اتَّحَدَ الحرس الثوري الإيراني مع الميليشيات الشيعية العراقية لشنِّ حربٍ شاملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) السنّي، حيث برز قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس”، كمُهندسٍ رئيس للمعارك من بغداد إلى حلب.
وفي اليمن، انضمَّ الحوثيون —الذين يدينون بالمذهب الزيدي— إلى المحور الإيراني في مواجهة القوى السنّية المدعومة من دول الخليج.
وانضمَّ كبارُ رجال الدين الشيعة، إلى جانب شرائح واسعة من الطبقة الوسطى في بغداد وبيروت، إلى التأييد الشعبي الواسع للحرب ضد “داعش”. فخوفُ هذه النُخَب من النزعة الطائفية الدموية للتنظيم جعل الصراع يبدو كمعركةٍ وجودية للطائفة بأكملها. وفي حزيران (يونيو) 2014، ومع اقتراب “داعش” من بغداد، أصدر المرجع الأعلى علي السيستاني —المعروف بتحفّظه تجاه مساعي إيران لتجنيد شيعة المنطقة لصالح مشاريعها العسكرية— فتوى تحثُّ الشبابَ العراقي على الانضمام إلى القوات الميليشياوية الناشئة تحت إشراف سليماني.
وقد تُرجِمَت الانتصاراتُ على “داعش” إلى مكاسب سياسية واضحة: دعمٌ أكبر للحُكمِ الشيعي في العراق، تعزيزٌ لجهود الحوثيين في اليمن، وإسنادٌ للنظام السوري المُنهَك. كما ساعدت تلك التطورات على ربط المعارك التي تخوضها “حماس” و”الجهاد الإسلامي” ضد إسرائيل بالخطاب الجامع لـ”محور المقاومة”. وبفضل تلك النجاحات، تمكّنت إيران من مدِّ خطوط نفوذها عبر المتوسط والبحر الأحمر، لتُشَكِّل ما بات يُعرَف بـ”حلقة النار” حول إسرائيل.
تعميق الانقسامات
لكنَّ الانتصارَ النهائي على تنظيم “داعش” عام 2019 مَهَّدَ الطريق لبدء أفول محور إيران الإقليمي. فمع انحسارِ التهديد الوجودي للتنظيم، تراجَعَ اندفاعُ آلاف الشبان الشيعة الذين كانوا قد التحقوا بالميليشيات خلال سنوات الحرب، وتضاءلت شرعية هذه القوات بوصفها “درع الطائفة”. كذلك، أصبح كبار رجال الدين أكثر حذرًا في الربط بين الواجب الديني والمشروع العسكري الإيراني. ومن النجف، أطلق المرجع الأعلى علي السيستاني رسائل مُتتابِعة تُبعده عن حملات المحور وتُدينُ ممارسات الميليشيات، مُؤكِّدًا أنَّ القوة الحقيقية للشيعة في العراق لا تُبنى بالسلاح، بل عبر الدولة ومؤسّساتها.
كانت الميليشيات الشيعية قد تمدّدت خلال الحرب ضد “داعش” لتُسَيطِر على مساحاتٍ واسعة من العراق، أحيانًا على حساب الجيش والشرطة، وأقامت شبكاتٍ اقتصادية مُوازية عزّزت استقلاليتها عن الحكومة المركزية. إلّا أنَّ صورتها كحاميةٍ للشيعة اهتزّت بقوة بعد تورّطها في قمع الاحتجاجات الشعبية المُناهِضة للفساد، ما جعلَ قطاعات واسعة من الجمهور الشيعي نفسه تُعيد النظر في جدوى نفوذها. ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 2020، حين قتلت غارة أميركية كُلًّا من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وهو ما شكّل خسارة استراتيجية كبيرة للمحور. وبعدها بعامٍ واحد، مُنيت الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران بانتكاسةٍ انتخابية واضحة في العراق، إذ تراجع تمثيلها من 48 مقعدًا في 2018 إلى 17 فقط في انتخابات 2021.
وعندما شنّت “حماس” هجومها الكبير على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بدا المشهدُ لأوّلِ وَهلة استعراضًا لقوة المحور، لكنه سرعان ما كشف هشاشته. حاولت المجموعات الشيعية في المنطقة التعبئة دعمًا لغزة، لكن الغارات الإسرائيلية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 وجّهت ضربة غير مسبوقة لـ”حزب الله”، عبر تفجير منظومات اتصالاته (البايجر واللاسلكي) وتحويلها إلى أدوات قتل، ما أدى إلى مقتل 42 من مسؤوليه ومقاتليه وإصابة الآلاف، قبل أن يُستهدفَ عددٌ كبير من قادته، وينتهي الأمر باغتيال أمينه العام حسن نصر الله نفسه. وبعد شهر فقط، كانت سوريا بدورها تشهد سقوط نظام بشار الأسد أمام قوات معارضة مدعومة من تركيا، في انهيارٍ عسكري وسياسي يُعَدُّ من أكبر الضربات التي يتعرّضُ لها المحور منذ تأسيسه.
عندما شنّت إسرائيل والولايات المتحدة ضربتهما العسكرية المباشرة على إيران في حزيران (يونيو)، لم يتحرّك حلفاءُ طهران الشيعة للدفاع عنها. فالإيرانيون أنفسهم، وقد انشغل قادتهم بالأزمة الداخلية، لم يروا جدوى في استدعاء التضامن العابر للحدود كما جرت العادة، ووجّهوا نداءهم هذه المرة إلى الشعب الإيراني للدفاع عن الوطن. وفي المقابل، كان الحلفاء الشيعة في العراق ولبنان قد تخلّوا بالفعل عن خطاب الهوية العابرة للحدود، واتجهوا إلى خطابٍ قومي صرف يَعكِسُ أولوياتهم المحلية.
وبدلًا من أن تقودَ طهران هذا المحور كما اعتادت، باتت تبدو وكأنها تُسايِرُ التحوُّلات الجارية بين وكلائها. فما كان ذات يوم منظومة نفوذ مركزية مترابطة، أخذ يتحوّلُ إلى شبكة مجموعات متقاربة في الفكر والمصالح، لكنها تعمل باستقلاليةٍ أكبر. ففي العراق، تُشجِّعُ طهران حلفاءها على خلع البزة العسكرية والانخراط الكامل في السياسة. وفي لبنان، يواجه “حزب الله” ضغوطًا غير مسبوقة من إسرائيل والولايات المتحدة قد تدفعه إلى قبول خطوات نحو نزع السلاح لتجنُّبِ حربٍ أوسع أو صدامٍ داخلي. أما في داخل إيران، فقد أضعفت التغيرات الاجتماعية —من صعود النزعة القومية إلى تخفيف القيود الدينية وتراجع تطبيق الحجاب— موقع البلاد كمرجعية روحية عابرة للحدود.
يُضافُ إلى ذلك عامل الشيخوخة الذي يطال الجيل الذي أشرف على صعود الشيعة سياسيًا وعسكريًا في الإقليم. فقيادات الثورة الإيرانية المخضرمة تتقدّم في العمر، والمرشد الأعلى علي خامنئي يبلغ 86 عامًا. وفي العراق، يصل المرجع الأعلى علي السيستاني —مهندس الإحياء الديني الشيعي المعاصر— إلى 95 عامًا ويُعاني المرض. وبالنظر إلى التنافس التاريخي بين النجف وقم على زعامة الحوزات، فإنَّ التحوُّلات الأخيرة تُشير إلى أنَّ النجف، أكثر من قم أو طهران، باتت المركز الروحي الأهم. ومع رحيل السيستاني، من المرجّح أن يكون خليفته في العراق، وليس خليفة خامنئي في إيران، هو مَن سيُحدِّدُ الاتجاهات الدينية للطائفة الشيعية في المرحلة المقبلة.
مخاطر خَفيَّة
ومع ذلك، فإنَّ تراجُع القدرات العسكرية للمحور الشيعي في الشرق الأوسط لا يعني انحسار الهوية الدينية للشيعة أو ضعف شعورهم بالانتماء إلى مجتمعٍ عابرٍ للحدود. ففي كل عام، يزداد عدد الزائرين الشيعة للمدن المقدسة في العراق، رُغمَ التقلّبات السياسية والعسكرية التي يواجهونها. وقد شهد شهر آب (أغسطس) الماضي حضورًا غير مسبوق، إذ شارك نحو 21 مليون مؤمن في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء.
وبينما تنكفئ إيران وتتزايد الضغوط على الميليشيات الشيعية لنزع سلاحها، يُخيِّمُ على الشيعة هاجسُ التهميش والعنف. فسوريا، التي شكّلت يومًا ركيزةً أساسية للمحور، بات يحكمها اليوم مقاتلون سنّة —من قدامى محاربي “داعش” وفصائل أخرى قاتلت “حزب الله” خلال الحرب— ويحظى النظام الجديد فيها بدعم تركيا والسعودية، ويسعى إلى تسويةٍ مع إسرائيل. ويخشى الشيعة في لبنان والعراق أن تُترجَمَ إعادة تموضع دمشق إلى دعمٍ للسنّة في بلديهما، بما يُعيدُ رسم موازين القوى لمصلحتهم.
وأمام هذا الشعور بالتهديد والحصار، قد يميلُ الشيعة أكثر إلى التشبُّث بهويتهم الجمعية. وقد بدأت الأقليتان الدرزية والعلوية في سوريا بالفعل بإبداءِ مُقاومة لسلطة دمشق. ولتفادي انزلاق المنطقة نحو جولاتٍ جديدة من الحروب الأهلية، وانهيار الدولة، وعودة التطرُّف—وهي الظروف نفسها التي مهّدت سابقًا لصعود “محور المقاومة”— يصبح لزامًا أن تُبنى ترتيبات الحكم في لبنان وسوريا على قواعد تضمن المساواة الحقيقية بين الطوائف. فاستبعادُ أيِّ مكوّن، وفي مقدمتهم الشيعة، سيُعيدُ فتح الباب أمام ارتماء المُهَمَّشين في أحضان طهران، وما يستتبعه ذلك من دعمٍ عسكري ومالي قد يُطلقُ دورةً جديدة من النزاعات.
في العراق، حيث لا تزال عملية تشكيل الحكومة والمفاوضات الشيعية الداخلية مستمرة، لا بدَّ من تشجيع القيادات الشيعية المعتدلة. ويتطلب ذلك إصلاحات دستورية لتفكيك شبكات المحسوبية التي يديرها مسلّحون تحوَّلوا إلى سياسيين (وهو نظام لا يزال يمنحهم مقاعد في البرلمانات والمجالس المحلية). وقد مارست السياسة الأميركية الأخيرة ضغوطًا كبيرة على الحكومة العراقية للنأي بنفسها عن إيران. يجب على واشنطن تجنُّب إجبار بغداد على اتخاذ مثل هذا الخيار الصعب، لأنَّ ذلك قد يُقوّضُ مكانة القادة الشيعة المعتدلين ويُفشِل جهودهم للحد من النفوذ التخريبي للمسلحين الذين تحوّلوا إلى سياسيين، وعزل العراق عن الصراع بين إيران وإسرائيل.
وعلى امتداد المنطقة، يرتبطُ تجنُّب موجات العنف المقبلة بضمان شعور الشيعة بأنَّ لهم مستقبلًا سياسيًا في أوطانهم —مكانة وطنية تُغنيهم عن الارتباط بإيديولوجيات عابرة للحدود— إلى جانب توفير مسارات اقتصادية مستقلة عن شبكات الدعم التي تؤمّنها الميليشيات. ففي لبنان، مثلًا، لن يكونَ تفكيكُ “حزب الله” أو نزع سلاحه كافيًا لإرساء الاستقرار. فالحزب شغل لعقود دور “الدولة” بالنسبة إلى الطائفة الشيعية، مؤمّنًا الأمن وفرص العمل والخدمات الاجتماعية. ومع تراجع دوره اليوم، يصبح من الضروري ابتكار أطر أخرى تتيح للشيعة المشاركة الطبيعية في الحياة السياسية والاقتصادية.
وتحتاجُ الحكومات في لبنان وسوريا والعراق —بدعمٍ من الولايات المتحدة والدول العربية— إلى خلق وظائف من الفئة المتوسطة داخل القطاع الخاص تستوعب آلاف الشبان الشيعة، فتُخفّف من اعتمادهم على وظائف القطاع العام الخاضع لنفوذ الجماعات المسلحة. ففي البلدين، يشكّل الشيعة من الطبقة الوسطى كتلة اجتماعية جاهزة للاستفادة من الفرص الاقتصادية التي تتطلع واشنطن وشركاؤها الخليجيون إلى ضخّها في المنطقة بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية. ومن دون هذه المسارات، يبقى احتمال انجذاب الأجيال الشابة إلى التطرف قائمًا، وربما أكثر إلحاحًا من أيِّ وقت مضى.
بينما تستثمر السعودية ودول الخليج في تعزيز قيام دول مركزية قوية في لبنان وسوريا قادرة على الحد من النفوذ الإيراني، ينبغي ألّا تتحوّل هذه الجهود إلى عائقٍ أمام مسار التطبيع مع طهران. فقد ساعد التقارب السعودي–الإيراني على إبقاء الخليج بمنأى عن الانفجارات الإقليمية، ومن الضروري الحفاظ على هذا الاستقرار عبر دعم خطط إعادة بناء الدولة في لبنان والعراق برؤية اقتصادية تمنح المناطق الشيعية مستقبلًا واضحًا. وعلى السعودية والإمارات أيضًا ضمان صمود اتفاقيات وقف النار مع الحوثيين ودفع العملية الديبلوماسية نحو إنهاء حرب اليمن نهائيًا. ولتفادي عودة إيران لاعبًا مُفسِدًا في الإقليم، يتعيّن على دول الخليج التخلّي عن النظرة التي تختزل شيعة المنطقة في كونهم امتدادًا لطهران، والتعامل معهم كمواطنين كاملي الحقوق داخل دولهم.
إعادة الإعمار تتطلَّبُ المصالحة
إذا كانت الولايات المتحدة تطمحُ إلى إطفاء نيران الصراع في الشرق الأوسط، وترغَبُ في رؤيةِ عراقٍ مُستقر ومُزدهر بعيدًا من الهيمنة الإيرانية، فعليها أن تضمنَ دمج الجماعات الشيعية في الهياكل الوطنية والإقليمية الجديدة التي تعمل على صياغتها. ففي لبنان، لا يمكن فصل مشروع نزع سلاح “حزب الله” عن خطة متكاملة لإعمار المناطق الشيعية وتعزيز تمثيلهم السياسي. كما يتوجب على واشنطن حماية وقف إطلاق النار القائم بين الحزب وإسرائيل؛ إذ إنَّ أيَّ اجتياحٍ أو احتلالٍ جديد سيُواجَهُ بمقاومة حتمية، كما حدث بين 1982 و2000، ما قد يُنعِشُ ما تبقّى من “محور المقاومة”.
وعلى الولايات المتحدة كذلك دعم المساعي العربية لتطبيع العلاقات مع إيران، وهو ما يستلزم فتح قنوات مباشرة مع طهران نفسها. فخلافًا لما يوحي به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا تَعتَبرُ إيران نفسها مهزومة بعد حرب الأيام الاثني عشر في حزيران (يونيو). بل ترى أنَّ الضربات الصاروخية التي وجّهتها إلى إسرائيل أحدثت ضررًا كافيًا لردع كلٍّ من واشنطن وتل أبيب عن خوضِ جولةٍ جديدة من المواجهة. كما بات واضحًا اليوم أنَّ تلك الضربات لم تُنهِ القدرات النووية الإيرانية، ولا قلّصَت طموحات طهران في هذا المجال.
يعتمدُ استقرارُ الشرق الأوسط على قدرة إيران على الانخراط ديبلوماسيًا واقتصاديًا مع العالم العربي، غير أنَّ العواصم العربية تتعامل بحذرٍ مع طهران، خصوصًا في ظلِّ احتمال امتلاكها سلاحًا نوويًا. كما إنَّ أيَّ عودةٍ للعلاقات مع البحرين، أو تطوير للتعاون الاقتصادي مع بقية دول الخليج، سيبقى مشروطًا بإحرازِ تقدُّمٍ ملموس في المسار النووي. ولهذا، ستجد واشنطن نفسها، عاجلًا أو آجلًا، مُضطرّة لإعادة تركيز جهدها على صياغةِ اتفاقٍ نووي جديد مع إيران.
لكن ترك المشرق العربي أسير الانقسام لن يفضي إلى أيِّ استقرار. فمن دون دمج المجتمعات الشيعية —التي شكّلت يومًا العمود الفقري لـ”محور المقاومة”— في الحياة السياسية والاجتماعية لدول المنطقة، سيظلّ خطرُ الانهيار والصراع قائمًا. كما ينبغي على إيران أن تُدرِكَ أنَّ مكاسبها ستكون أكبر عبر الانفتاح الاقتصادي والديبلوماسي، بدلًا من العودة إلى الأنشطة العسكرية التخريبية. ورُغمَ تراجع نفوذ الجماعات الشيعية المسلّحة، فإنَّ استبعادها من الشراكة الوطنية لن يؤدّي إلّا إلى جعلها هدفًا سهلًا لمحاولات طهران المستقبلية لإحياء شبكاتها الوكيلة، بما يقوِّضُ أيَّ رؤيةٍ حقيقية لسلامٍ إقليمي مُستدام.
- ماريا فانتابي هي رئيسة برنامج البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا في معهد الشؤون الدولية في روما.
- والي (فالي) نصر هو أستاذ ماجد خضوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، ومؤلف كتاب “استراتيجية إيران الكبرى: تاريخ سياسي”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفِّيرز” الأميركية.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.