من عامٍ مضى إلى عامٍ مجهول

كابي طبراني*

مع عامٍ يرحل مُثقَلًا بالأزمات وآخرٍ يَطُلُّ بلا ضمانات، يقفُ العالم على تخومِ مرحلةٍ لم يَعُد فيها الاقتصادُ مُجرَّدَ أداةٍ للرخاء، بل صارَ وجهًا آخر من وجوه الصراع. لقد انقلبت الأسواقُ من ساحاتِ تبادُلٍ وتكامُلٍ إلى ميادين نفوذٍ وضغط، تُدارُ فيها العلاقات الدولية بميزان القوّة، وتُقاسُ فيها المصالح بمدى القدرة على المَنعِ والسماح، والقَطعِ والوَصل. وما كانَ يُبَشَّرُ به يومًا بوصفه عَولَمة السلام، صار اليوم عَولَمةَ الحذر، وعالمَ الشكِّ المُتبادَل.

لم تنتهِ العَولَمة، لكنها تبدّلت جوهريًا. فالتجارةُ مُستَمِرّة، غير أنّها مُسَيَّسة، والاستثمارُ قائم، غير أنّه مُقَيَّدٌ بالخوفِ من الغد، والاعتمادُ المُتَبادَل لم يَعُد صمّامَ أمان، بل صارَ مَوضِعَ رَيبة. لقد أدرَكَت الدول، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، أنَّ مَن يملكُ مفاصل الاقتصاد العالمي—المال، الطاقة، التكنولوجيا، الغذاء، والممرّات البحرية—يملكُ القدرةَ على التأثير بدونِ أن يطلقَ رصاصةً واحدة.

الولايات المتحدة، التي شيّدت لعقودٍ نظامًا اقتصاديًا عالميًا يدورُ في فلكها، اكتشفت في السنوات الأخيرة أنَّ هذا النظام لم يَعُد حكرًا عليها. فالأدواتُ التي استُخدِمَت طويلًا للضغطِ على الخصوم، باتت تُستَعمَلُ اليوم في الاتجاهِ المُعاكِس. والصين، التي تعلّمت من التجربة، أعادت ترتيب أوراقها، وبنت منظوماتها البديلة، من الطاقة إلى الصناعة إلى التكنولوجيا، ساعيةً إلى تقليص انكشافها وتعظيم قدرتها على الرد. أما أوروبا، فبين رغبتها في لعبِ دورٍ مستقل، واعتمادها الأمني والاقتصادي على غيرها، لا تزال تتلمّسُ طريقها في عالمٍ لم يَعُد يرحمُ التردُّد.

وفي هذا المشهد الدولي المُحتَدِم، تتقدّمُ قوى متوسّطة، في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، وقد أدركت أنّها ليست مجرّدَ مسارح لصراعات الكبار، بل تمتلكُ أوراقًا يُمكِنُ توظيفها: معادن نادرة، أسواق ناشئة، ممرّات لوجستية، وقدرة على ترجيح كفّة من دون الانخراط الكامل في المحاور. إنّه عالمٌ لم تَعُد فيه القطبية ثُنائية صلبة، بل شبكةً مُتداخِلة من المصالح والمخاطر.

وفي هذا السياق، لا يجوزُ للعالم العربي أن يظنَّ نفسه خارج اللعبة. فلبنان، الذي خبرَ بألمٍ كيف يُمكنُ للمال أن يتحوَّلَ إلى سلاح، وللنظام المصرفي أن يُصبِحَ قَيدًا، ليس إلّا مثالًا صارخًا على كيف يُسحَقُ الضعفاء حين تُدارُ الاقتصادات بلا رحمة. لقد وجد نفسه، من دونِ قرارٍ سيادي واضح، عالقًا بين أنظمةٍ مالية عالمية مُتشدِّدة، وغيابِ قدرةٍ داخلية على المناورة، فكان الثمنُ انهيارًا لا يحتاج إلى قذائف.

أما الخليج العربي، فقد قرأ التحوُّلات بعينٍ أكثر براغماتية. أدركَ أنَّ الطاقة لم تَعُد مجرَّد سلعة، بل ورقةٌ استراتيجية، وأنّ المَوقِعَ لم يَعُد جغرافيًا فحسب، بل عقدة وَصلٍ في عالمٍ مُتشابِك. فاختارَ أن يُنَوِّع، لا أن ينحاز، وأن يُوازِن، لا أن يُستتبَع. بنى شراكاتٍ مع الشرق والغرب، واستثمر في الموانئ، والطاقة المُتجدّدة، والتكنولوجيا، مُدرِكًا أنَّ الاستقلالَ في هذا الزمن لا يُنالُ بالعزلة، بل بتعدُّدِ الخيارات. ومع ذلك، فإنَّ الخليج ليس في مأمن: فكُلَّما ارتفعت قيمة أوراقه، ازدادت شهيّة القوى الكبرى لاختبارِ صلابته.

وفي المغرب العربي، يتجلّى المشهد على نحوٍ آخر. فالدولُ هناك تقفُ عند تماسٍّ مباشر مع أوروبا، وتُستَدعى إلى لعب دور الجسر الصناعي والغذائي والطاقي. المغرب يسعى إلى تثبيت موقعه في سلاسل القيمة؛ الجزائر تُوظّفُ الغاز كورقةِ نفوذ، وتونس وليبيا تكشفان هشاشة الاقتصادات حين تُترَكُ مَكشوفةً أمامَ عواصف الخارج. إنّها منطقةٌ تُدرِكُ اليوم، مُتأخِّرة أو مُبكِرة، أنَّ السيادة الاقتصادية ليست شعارًا يُرفَع، بل قدرة تُبنى، ومخاطر تُدار.

غير أنّ الخطرَ الأكبر لا يكمن في تعدُّدِ مراكز القوّة، بل في غيابِ القواعد الناظمة. فكلُّ دولة، وقد شعرت بالتهديد، تميلُ إلى الانكفاء، وبناء أسوارٍ من الدعم والحماية والتقييد حول اقتصادها. وهكذا تتكاثر الحواجز، وتتفتّت الأسواق، ويُصبِحُ العالمُ أقلَّ كفاءة وأكثر توتُّرًا. إنَّ منطقَ “الكُلّ ضدّ الكُلّ” قد يُوفِّرُ أمانًا مؤقتًا، لكنه يُنتِجُ فوضى طويلة الأمد.

لقد علّمنا التاريخ أنّ القوّة، حين تُمارَس بلا ضابط، تَفقُدُ مشروعيتها وتُسرِّعُ أفولها. وفي زمن السلاح النووي، لم يتحقّق حدٌّ أدنى من الاستقرار إلّا حين فُرِضَت قواعدُ الردع وضُبِطَت المغامرة. واليوم، في زمن السلاح الاقتصادي، يحتاجُ العالم إلى وَعيٍ مُماثِل: وعي يقرُّ بأنَّ الأسواقَ لا يُمكنُ أن تكونَ ساحةَ حربٍ دائمة، وأنَّ تحويلَ كلّ علاقة اقتصادية إلى ورقةِ ضغط، سيقودُ حتمًا إلى تفكُّكِ النظام الذي يستفيدُ منه الجميع، ولو بدرجاتٍ مُتفاوِتة.

ومع قربِ انبلاجِ عامٍ جديد، لا يبدو العالم في هيئةِ المُنتَصر ولا الُمنكَسِر، بل في صورةِ مَن يقفُ عند حدّ السيف: خطوةٌ إلى الأمام قد تفتح باب الحكمة، وخطوةٌ إلى الخلف قد تُغرِقُ الجميع في فوضى لا رابحَ فيها. لقد تعلّمنا، أو كان ينبغي لنا أن نتعلّم أنّ القوة، حين تنفلت من عقال العقل، تُفقِدُ أصحابها توازنهم قبل أن تُلحِقُ الأذى بخصومهم .وأنّ الأسواق حين تُدارُ بمنطقِ الحرب تُنهي ما تبقّى من معنى للشراكة والإنسانية.

إنّ دخول العام 2026 ليس مجرَّدَ انتقالٍ في التقويم، بل امتحانٌ في الوعي والمسؤولية. فإمّا أن تُدرِكَ الأمم أنَّ الاقتصاد، مهما عَظُم، لا يصلحُ أن يكونَ سلاحًا دائمًا، وإمّا أن تمضي في سباق استنزافٍ طويل، تُراكِمُ فيه الخسائر تحت وَهمِ السيطرة. وبين هذا وذاك، يبقى الأمل معقودًا على أن يكونَ العامُ الجديد بدايةَ مُراجَعَة لا مَوسِمَ مُواجَهة، وبدايةَ تعقُّلٍ لا ذريعةً جديدة للتصعيد.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى