أَعطِنا يا ربّ أَن نستاهلها

هنري زغيب*

الكاهنةُ الصامتة التي ودَّعت ابنَها بِـهَيبَة العرَّافة الـمَهيبة في أَزمنةِ الميثولوجيا الإِغريقية…

الأُمُّ التي جلسَت إِلى نعش ابنها بأَلمٍ كَتومِ رهيبٍ لا تعادلُه إِلَّا جبهةُ قمم الجبال تقاومُ أَصعبَ العواصف الهائجة وأَعتاها، ثم تنكسر العواصف وتبقى مرفوعةَ الهَيبةِ قممُ الجبال…

السيدةُ التي، كما آلاف المواكب بعد اليوم، لن تدخُل لبنان من مطاره إِلَّا بمرورها في الجادَّة الكبرى التي تفتتح لبنان حاملةً اسم العبقري الخالد زياد الرحباني…

هذه الظاهرةُ الفريدةُ التي بدأَتْ مغنِّيةً في كورس الإِذاعة اللبنانية، وأَصبحَت فنانةً واعدةً، ثم نجمةَ “المملكة الرحبانية” فدنيا لبنان، ساطعةً إِلى كل العالم حتى باتت منذ أَكثرَ من نصف قرن أَيقونة لبنان في العالَم…

هذه الخالدةُ، وهي بعدُ بيننا، يقالُ فيها ويُكتَبُ ما لا يُحَدُّ، فـ”لا تتعب الأَشعار ولا تتعب الريشة”…

منذ صدَحَ صوتُها ذاتَ ليلةٍ مباركةٍ من 1957 على أَدراج بعلبك، أَشرقَتْ شمسٌ لبنانيةٌ من سُكون الأَعمدة والهياكل.

صوتُها الذي يأْتيك من كلّ مكان حتى يُحَيِّرك كيف تستقبله…

الصوتُ الذي ينسيك معه أَنك أَنت، كي لا تفوتك لحظة من انسكابه…

الصوتُ الذي ظلَّ ينضحُ شعرًا حتى بات يُمنَّاهُ لقصائدهم جميعُ الشعراء…

هذا الصوتُ، في عصرنا وكلِّ عصرٍ سيأْتي، عنوانٌ آخر للبنان.

من الأَوطان مَا يمكن تعريفُها بِاسْمٍ واحدٍ، أَو ربما بأَكثر. نحن؟ نختصر. نقول: “لبنان” فيجيبُ السامع: “يعني لبنان فيروز”!

منذ إِطلالتها الأُولى، قبل أَكثرَ من ثلاثة أَرباع القرن (1947)، بدأَت “مُتَوَّجَةً بالمجد” كما قال لي منصور الرحباني في أُولى جلساتي إِليه لوضْع كتابي “طريق النحل – في رحاب الأَخوين رحباني”. وأَكمَلَ: “إِضافةً إِلى جمالِ صوتها الفريد وموهبتِها الخارقة، هي ظاهرةٌ لن تـتكرَّر: صوتُها مميَّز، إِطلاقةُ صوتها ممـيَّـزة، وكلُّ ما جاء في هذا الصوت، من خوارقَ ومما خلْفَ صوتِها من صَقْلٍ وتجارب، جعل منه رمزًا من رموز هذا العصر. تأَثَّر به الناس، حتى الشعراءُ في لبنان والعالم العربي، لأَنه لم يكُن مجرَّد صوتٍ وحسب”.

منذ الـمَطالع هتَف سعيد عقل: “هذه سفيرتُـنا إِلى النجوم”، وباحَ نزار قباني: “قصيدتي بصوتها اكتسَت حُلَّةً أُخرى من الشعر”.

الصبيَّةُ الخجولُ التي سمعَها حليم الرومي ذات يومٍ في الإِذاعة اللبنانية واستدعاها ذاتَ يومٍ آخرَ إِلى مكتبه وكان فيه شابٌّ ناحلٌ ساهمُ العينين، ليقول لها: “يا بنتي، أُعرِّفُكِ بالعازف والملحِّن عاصي الرحباني، تدرَّبي معه وسيعطيكِ من أَلحانه”، هل كانت تَحدُسُ إِلى أَين هذا العبقريُّ الفذُّ سيوصِلُ صوتَها الفذَّ وموهبتَها الخارقة؟

ويكتمل سعدُ القدَر يومَ تزوَّجت نهاد حداد (فيروز) بعاصي الرحباني (23 كانون الثاني” يناير 1955).. يقول منصور: “جاءَت فيروز ذاتُ الحضورِ الآسِر والصوتِ المفرد، فانضمَّت إِلينا. أَصبحنا ثلاثة. وراح صوتُها يخترقُ الحواجز العاطفية، ويُرَسِّب في لاوعي سامعيه الأَفكارَ التي يحملُها”.

صوتها… هو الذي تَشربُهُ روحُك قبل أَن يتقطَّر في سمعك. فهو ليس مجرَّد “صوت يغنِّي”، لأَننا، حين نقول “فيروز”، لا نقتصر على الصوت وحسْب. نقول “فيروز” لنعني خمسًا من الصفات نادرًا ما تنْجمع في موهبة.

  1. الصوت: ويكفي أَنه أَلْهَمَ شعرًا كبارَ شعراء العصر.
  2. الإِحساس: وهو ساطع لديها حين تؤَدِّي أُغنيةً أَو مشهدًا مسرحيًّا. ومشاهدو مسرحية “پترا” في عمَّان (قصر المؤْتمرات –

صيف 1977) يذكُرون كيف أَنها، كمَلِكة “پترا”، حين علِمَت بأَن الجنود الرومان خطَفوا ابنتَها الصغيرة الأَميرة پترا، وراحت تغنّي لها: “يا عصفورة الجنوب، يا زغيرِه، اغفريلي”، انهمرَت دمعتُها، وكانت تأْتزر بمنديلٍ ذي حبة لؤْلؤ، فبدا كأَنَّ على وجهها لؤْلؤَتين: أُولى على جبينها، والأُخرى على خدِّها.

  1. اللفظ السليم ومخارج الحروف: خصوصًا في الفُصحى، وهي أَتقنَتْ اللفظ منذ مطالعها إِذ درَّبها محمد فليفل (مكتشفُها الأَول) على التجويد القرآني، فأَجادَتْه وبات لفْظُها في غناء القصائد تامًّا ممتازًا فلا تَلْحَن. ومن إِتقانها اللفظَ السليم، ضبطَت مخارج الحروف بالصيغة السليمة.
  2. المضمون: لم يقتصر صوتُها على غناء قصائدَ وأَلحان، بل حمَل صوتُها، غناءً ومسرحًا، قيَمًا فكرية وحضارية وجمالية ووطنية جعل منها أَوسمة خالدة في الوجدان الشعبي والذاكرة الجماعية.
  3. الأَداء: هنا نعبُر من الإِحساس في أَداء أَغانيها إِلى حضورها المسرحي (“الآسِر”، بتعبير منصور الرحباني) ما جعلَها تُؤَدِّي أَدوارَها المسرحية في إِدهاشِ أَكثر الممثِّلات احترافًا على المسرح أَو أَمام الكاميرا. فهي أَدَّت دور “الملكة زنوبيا” و”ملكة پترا” ببراعة ما أَدَّت بيَّاعة البندورة في “الشخص”، أَو “غربة” ابنة مدلج الثائرة في “جبال الصوَّان”، أَو “هالة” البنت البريئة الآتية إِلى “عيد الوجّ التاني” في “هالة والملك”، أَو الصبيَّة “عطر الليل” رسولة الأَمير إِلى شعب لبنان في مسرحية “فخر الدين”.

هذه الفرادة في الصوت والحضور، هي التي جعلتْها تحمل الإِرث الرحباني وتُوصلُه إِلى آخر الدنيا، وهو ما لم يكن ممكنًا أَن يُعطى سواها بتلك المسؤُولية الرَسولية العليا.

أَعطِنا، يا رب، أَن نستاهل فيروز.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى