غزّة عندَ مُنعَطَفٍ حاسِم: سلامٌ يَقتَرِب أم وِصايَةٌ تَتَرَسَّخ؟
يُشَكِّلُ قرارُ مجلس الأمن الدولي رقم 2803 مُنعَطفًا حاسمًا في مسار الصراع على غزة، إذ يفتحُ البابَ أمامَ فُرصةٍ نادرة لإعادة بناءِ المسارِ السياسي الفلسطيني، لكنه يطرحُ في الوقت نفسه مَخاطرَ تَحَوُّل الإدارة الانتقالية إلى وصايةٍ طويلة الأمد. وبين الاحتمالَين، يتحدّدُ مستقبل غزة وفق قدرة الأطراف الإقليمية—وفي مقدمتها مصر—على توجيه المرحلة المقبلة نحو تسويةٍ عادلة ومستدامة.

عمرو حمزاوي*
اعتمد مجلس الأمن الدولي، يوم الاثنين الفائت (17/11/2025)، القرار رقم 2803 الذي يُعلِنُ دعمه لخطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في غزة. ويَطرَحُ القرارُ إطارًا سياسيًا يَربُطُ بين التوصُّلِ إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار وبين ترتيباتٍ انتقالية لإدارةِ القطاع، تشملُ خطواتٍ تدريجية للانسحاب العسكري الإسرائيلي وآلياتٍ للتعامُلِ مع ملفِّ نزع سلاح حركة “حماس”. كما يتضمّنُ النصُّ إشارةً، وإن جاءت بصيغةٍ غير حاسمة، إلى حقِّ الفلسطينيين في دولةٍ مستقلة ضمن الحل النهائي. هذه الإشارة تُضفي على القرارِ بُعدًا استراتيجيًا يدفعُ القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، إلى لعبِ دورٍ أكثر فاعلية في تَوجِيهِ غزة نحو مسارٍ سياسيٍّ قابلٍ للاستمرار، بدلًا من تركها غارقة في التفاصيل الأمنية والإدارية والخدماتية.
وفي سياقٍ مُتَّصِل، يُعَامِل القرارُ خطة ترامب باعتبارها خارطةَ طريقٍ مُلزِمة تهدُفُ إلى نقلِ غزة من واقع الصراع والانهيار الإنساني إلى مرحلةٍ انتقالية تُشرِفُ عليها قوّةُ استقرارٍ دولية ومجلسُ سلام مُتَعدّد الأطراف. ويُوَضّحُ النصُّ أنَّ هذه المرحلة تُشكّلُ قناةً مُنَظَّمة لإعادة الإعمار وضمان توفير الخدمات الأساسية. كما يُكلّفُ المجلس والقوة الدولية بمهامٍ أساسية تشملُ تأمين تدفّق المساعدات الإنسانية، وإدارة المعابر الحدودية، وتطبيق الإجراءات الأمنية اللازمة للحيلولة دون العودة إلى دوامة العنف.
غير أنَّ الخطرَ الأكبر يَكمُنُ في أن تتحوّلَ المرحلة الانتقالية بسهولةٍ إلى شكلٍ من أشكالِ الوصاية طويلة الأمد. ولتفادي هذا السيناريو، لا بُدَّ من تصميمِ آلياتِ المرحلة ومُكوِّناتها بما يضمَنُ مُشاركةً فلسطينية حقيقية في إدارة شؤون الحياة اليومية، مع تحديدِ أُطُرٍ زمنية واضحة لكلِّ خطوة، بما في ذلك الانسحاب العسكري الإسرائيلي من دون تَقسيمِ القطاع، ومُعالجة ملف سلاح “حماس” والفصائل الأخرى. كما ينبغي أن تُصاغَ شروطُ التمديد المُحتَمل لهذه المرحلة بحيثُ لا يكون قرارًا إسرائيليًا أو أميركيًا منفردًا، بل مُرتَبطًا أيضًا بموافقةٍ فلسطينية وإقليمية تضمَن عدم انزلاق غزة إلى نظامِ إدارةٍ خارجية دائمة.
وفي هذا السياق، يبرُزُ الدور الحيوي لمصر. فهي ليست مجرّد دولة جارة لغزة، بل فاعلٌ إقليمي يمتلكُ القدرة والخبرة وشبكة العلاقات التي تُتيحُ له توجيه العملية الانتقالية بحيثُ تصبحُ جُزءًا من مسارٍ يهدفُ إلى تمكين الفلسطينيين بدل تهميشهم، وإلى الوصول إلى تسويةٍ دائمة بدل تكريس سيطرةٍ خارجية مُستمرّة. وقد أظهرت القاهرة، خلال السنوات الماضية، أنَّ استقرارَ غزة واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم السياسية والأمنية يشكّلان عنصرًا أساسيًا في أمنها القومي، وشرطًا ضروريًا للحيلولة دون تفتيت القضية الفلسطينية.
ويمنح القرار مصر، ومعها الدول العربية والفلسطينيون، سلسلةً من الفُرَص لمُمارسةِ نفوذٍ فعّال إذا أحسنوا إدارتها. من أبرز هذه الفُرَص إنشاءُ إطارٍ دولي واضحٍ لإعادة الإعمار، يضمنُ للمرّة الأولى تدفُّقَ الموارد وفق أولويات مُحدَّدة وتحت إشرافٍ دولي يهدفُ إلى الحدِّ من الفساد ومنع تسييس المساعدات، ووضع حدٍّ لاستخدام إسرائيل للتجويع كسلاح. وعلى مصر أن تعملَ لضمان مشاركة عربية رسمية في الإشراف على المرحلة الانتقالية، من خلالِ تمثيلٍ واضحٍ في مجلس السلام وفي الهيئات الرقابية الأخرى، بما يمنع القوى الدولية من الانفراد باتخاذ القرارات المصيرية المتعلّقة بمستقبل غزة. كذلك يتعيّن على القاهرة الدفع نحو تحديد سقف زمني واضح للتفويض الدولي، بحيثُ يكونُ قابلًا للتمديد فقط بموافقة فلسطينية وبناءً على تقييمٍ إقليمي ودولي مُحايد، الأمر الذي يحدّ من احتمالات تحوّل الإدارة الدولية إلى نظامٍ دائمٍ بحُكم الأمر الواقع.
يُوفّرُ القرار كذلك آليةً تربُطُ بين الانسحاب الإسرائيلي وخطوات أمنية قابلة للقياس، من بينها نزع السلاح الدائم من “حماس” والفصائل الفلسطينية الأخرى في غزة. ويُعَدُّ هذا التطوُّر نقطةً مفصلية، إذ ينقل مسار الانسحاب من إطار المساومات التكتيكية إلى إطارٍ عملي يخضع لتقييماتٍ دورية. ويفتحُ ذلك المجال أمام الفلسطينيين والدول العربية والمجتمع الدولي لفَرضِ ضغطٍ مُنَظَّم على إسرائيل للالتزام بتعهداتها، بالتوازي مع مراقبةٍ دقيقة لمسألة السلاح داخل القطاع.
وفي بُعدٍ آخر، يفتح القرارُ نافذةً سياسية لإعادة بناء المؤسّسات المدنية والأمنية الفلسطينية عبر نهجٍ تدرُّجي متكامل، يسمح بإدارة فلسطينية مباشرة للمهمات الأمنية والإدارية والخدمية تحت إشرافٍ دولي محدود وزمني، وبما يضمن أن تتحوَّلَ المؤسسات الفلسطينية إلى طرفٍ فاعل لا مُتلقٍّ سلبي للتوجيهات. ويمكن لمصر أن تقودَ برنامجًا واسعًا لبناء القدرات الفلسطينية في هذه المجالات، بما يُمكّنُ الكوادر المحلية من تولّي إدارة الملفات الأساسية بكفاءةٍ منذ الأسابيع الأولى للمرحلة الانتقالية، ويُسهِمُ في تسريع الانتقال من إدارة دولية مؤقتة إلى إدارةٍ فلسطينية كاملة.
ومع ذلك، يحمل القرار جملةً من التحدّيات التي تستطيع مصر وشركاؤها الإقليميون الاضطلاع بدور محوري في التعامل معها. فمن بين أبرز هذه التحديات ملف نزع سلاح “حماس” والفصائل الأخرى، وهو ملفٌّ لا يمكن التعامل معه كمسألةٍ فنية تُحسَمُ بقرارات فوقية، بل كعمليةٍ سياسية وأمنية مُعقَّدة تتطلّبُ رؤيةً تدريجية، وضمانات تحظى بقبولٍ فلسطيني، إضافةً إلى حوافز اقتصادية وسياسية تُسهِم في إضفاءِ معنى فعلي للتحوّل من السلطة الفصائلية إلى الحكم المؤسّسي، ومن العمل المسلّح إلى أدوات التفاوض السلمي.
يُمكِنُ للتدابير الأوّلية للحدّ من انتشار السلاح أن تُوقِفَ إنتاجَ الأسلحة الثقيلة ومنع تهريبها واستخدامها، على أن تتبعها خطواتٌ أكثر تقدّمًا تشملُ ترتيباتٍ لتخزين السلاح تحت إشرافٍ مُشتَرَك دولي وعربي وفلسطيني. وقد تتزامن هذه الإجراءات مع مساراتٍ للمصالحة السياسية والمجتمعية، تُتيحُ دَمجَ المجموعات المسلحة داخل مؤسّسات الأمن أو الأجهزة الخدمية التابعة للسلطة الفلسطينية. ويُفتَرَضُ أن يجري كلُّ ذلك ضمنَ إطارٍ يمنعُ تحوُّلَ أيِّ فراغٍ أمني إلى حالةٍ من الفوضى أو إلى فرصةٍ لظهور جماعاتٍ مسلّحة جديدة، وهو ما يجعلُ الدور المصري، بحُكمِ خبرته ووزنه الإقليمي، عنصرًا أساسيًا في ضمان التماسُك وتنفيذ الخطوات بشكلٍ تدريجي ومدروس. ويمكن للقاهرة أن تؤدي دور الضامن والوسيط في ضبط التوازن الدقيق بين الانسحاب الإسرائيلي التدريجي وآليات نزع سلاح “حماس” والفصائل الأخرى، مع ضمان أن يجري تنسيقُ كلّ خطوة ومراقبتها وربطها بحوافز ملموسة للفلسطينيين والمجتمعات المحلية.
وتبرُزُ مُعضِلةٌ أُخرى تتعلّق بتشكيل قوة الاستقرار الدولية؛ فالكثيرُ من الدول لا تُبدي استعدادًا لنشر قوات برية في بيئةٍ شديدة التعقيد، ما يُهدِّدُ بنشوءِ قوة غير قادرة على تنفيذ مهامها. يُضافُ إلى ذلك الانقسام الدولي، الذي عكسه امتناع روسيا والصين عن التصويت في مجلس الأمن الدولي، وهو انقسامٌ قد يُضعِفُ الإجماعَ المطلوب لإنجاحِ مسار الانتقال. وفي هذا السياق، يمكن لمصر أن تعملَ مع دول الشرق الأوسط—مثل الأردن وقطر والسعودية وتركيا—إلى جانب الاتحاد الأوروبي، لتهيئة بيئة إقليمية ودولية داعمة لتشكيل قوة برية من دولٍ ذات غالبية مسلمة تكون قادرة على العمل بفاعلية على الأرض.
أما التحدّي الأخير، فيكمن في احتمال بطء إعادة بناء المؤسّسات الفلسطينية، بما قد يُحوِّلُ التفويضَ الدولي المؤقت إلى صيغةٍ شبه دائمة بحكم الواقع. ومن ثمّ، يتعيّن على مصر والدول العربية حماية الشرعية السياسية الفلسطينية من التآكل خلال المرحلة الانتقالية، وضمان أن تكون المؤسّسات الفلسطينية—سواء أُصلِحت أو أُعيد توحيدها—شريكًا حقيقيًا في صنع القرار، وأن تأخذ عودة السلطة الفلسطينية أو أي هيئة فلسطينية موحَّدة طابعًا سياسيًا فعليًا لا مجرّد غطاء رمزي لإدارة دولية. كما ينبغي على مصر أن تعملَ على تأمين دعم المجتمع الدولي للإصلاحات الداخلية الفلسطينية بالتوازي مع التقدّم على المسار السياسي، بما يُعزّز ثقة الفلسطينيين في مؤسّساتهم المُجدَّدة أو المُعاد هيكلتها. والأهم أن تذكّر القاهرة العالم باستمرار بأنَّ الهدف النهائي ليس إدارة غزة، بل الوصول إلى تسوية عادلة وشاملة تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
يمثل قرار مجلس الأمن رقم 2803 لحظة فاصلة على مفترق طرق سياسي بالغ الحساسية: أحد المسارات يفتح الباب أمام تسوية طويلة الأمد تُنهي الصراع، وتُعيد إعمار غزة، وتضع الأسس الفعلية لقيام الدولة الفلسطينية؛ فيما يقود المسار الآخر إلى إدارة انتقالية مفتوحة بلا أفق، تُفرغ حق الفلسطينيين في تقرير المصير من مضمونه، وتدفع غزة نحو صراعات بين سلطات متنافسة وترتيبات أمنية متعارضة. ويمنح القرار فرصة حقيقية لالتقاط خيط المسار الأول، باعتباره خطوة أولى واقعية نحو سلام عادل وشامل. وفي هذا السياق، سيظلُّ الدور المصري عاملًا حاسمًا في توجيه الأطراف كافة نحو هذا الاتجاه، وتحصين المسار السياسي من أيِّ انتكاساتٍ محتملة.
- عمرو حمزاوي هو زميل أول ومدير برنامج الشرق الأوسط في كارنيغي. تركز أبحاثه وكتاباته على الحوكمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والهشاشة الاجتماعية، والأدوار المختلفة للحكومات والمجتمعات المدنية في المنطقة. كان سابقًا أستاذًا مشاركًا للعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وأستاذًا ممارسًا في السياسات العامة في الجامعة الأميركية بالقاهرة.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.