بَين التَفَكُّكِ وإعادةِ البِناء: كَيفَ يُواجِهُ الشرعُ إرثَ الحَربِ ومَخاوُف الأقليات؟
تَدخُلُ سوريا، بعد ما يقرب من العام، مرحلةَ ما بعد الأسد وَسطَ آمالٍ كبيرة وتحدّياتٍ أكبر، فيما يُحاوِلُ الرئيس المؤقت أحمد الشرع إعادةَ لملمة دولة أنهكتها الحرب والانقسامات. غير أنَّ تصاعُدَ العُنفِ الطائفي وفَشَلَ المُصالحة مع الأقلّيات يُهدِّدان بتقويضِ الأساس الذي يبني عليه مشروعه السياسي الجديد.

سيدانت كيشور*
تَوَجَّهَ السوريون الشهر الماضي إلى صناديق الاقتراع في استحقاقٍ انتخابي وُصِفَ بأنه خطوةٌ نحو بدايةٍ جديدة. فقد أدلى ملايين الناخبين بأصواتهم لاختيارِ مجلسِ شعبٍ جديد مُؤلَّف من 210 مقاعد، في أول انتخاباتٍ برلمانية تشهدها البلاد منذ سقوط الديكتاتور السابق بشار الأسد. مثّلت هذه اللحظة محطّةً مفصلية في مسار عودة الدولة السورية إلى المشهد السياسي، ولو بملامح هشّة، بعد سنواتٍ طويلة من الحرب الأهلية والانقسام الطائفي.
الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي يتولّى إدارة المرحلة الانتقالية، قدّمَ الانتخابات باعتبارها حجر الأساس لنظامٍ سياسي مختلف—نظامٌ يسعى إلى رأبِ الصدع بين مُكوِّنات المُجتَمَعِ السوري واستعادةِ حضور البلاد على الساحة الدولية. غير أنَّ هذا التفاؤل يظلُّ مُثقَلًا بسؤالٍ جوهري: هل يستطيعُ الشرع بالفعل أداء دور القائد المُوَحِّد؟
منذ أن قادَ “هيئة تحرير الشام”—المُنبثقة سابقًا عن تنظيم “القاعدة”—في الهجوم الخاطف الذي أطاح الأسد أواخر العام 2024، بدا الشرع عاجزًا عن ترسيخِ سلطته بصورةٍ كاملة. فالدولةُ الخارجة من أتونِ صراعٍ عرقي وطائفي ما تزالُ تُواجِهُ تحدّياتٍ ضخمة، مع استمرارِ حوادث العنف الطائفي التي تلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الأمني. وتبقى الميليشيات المُنتَشِرة في شمال البلاد وجنوبها، المؤلّفة في معظمها من جماعاتٍ عرقية ودينية مختلفة، شديدة الحذر تجاه الشرع، نتيجة فشل حكومته في حماية الأقليات من الاعتداءات المُتَكرِّرة.
هذا الشكّ المُتنامي يُقوّضُ صورةَ الشرع كزعيمٍ قادرٍ على قيادة سوريا نحو مرحلة ما بعد الأسد. وفي محاولةٍ منه لاحتواءِ التوتُّر، سعى إلى إبرامِ تفاهُماتٍ مع عددٍ من الميليشيات لدَمجِ عناصرها في الجيش السوري الجديد وفي جهاز الأمن العام، وهو قوة الشرطة الوطنية التابعة لوزارة الداخلية. إلّا أنَّ هذه الصفقات بقيت عاجزةً عن إرساءِ سلامٍ مُستدام، فالقضايا الأعمق—من مظالم طائفية متجذّرة، إلى غياب العدالة الانتقالية وضعف الانضباط داخل المؤسسات الأمنية—لا تزالُ بلا حلولٍ حقيقية.
الصراعُ الطائفي
يُمثّلُ تفاقُم العنف الطائفي وفشل الحكومة في احتواءِ الجماعات المسلّحة المُستقلة تهديدًا مباشرًا لاستقرار سوريا في المدى القريب. فالمشهدُ الأمني مُتخَمٌ بتحدّياتٍ مُتزامنة: تمرُّدٌ شبه متواصل على الساحل؛ مواجهة مفتوحة مع قوات سوريا الديموقراطية الكردية (قسد) المدعومة أميركيًا في الشمال الشرقي؛ توتّراتٌ حادة في الجنوب ذي الغالبية الدرزية، حيث تتكرّر الاشتباكات بين القوات الحكومية والميليشيات المحلية؛ فضلًا عن التهديد المُتجدّد الذي يُشكّله تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وحتى الآن، لم تتمكّن حكومة الشرع من معالجة هذه الملفّات سوى بقدرٍ محدود.
تسارعت وتيرةُ العُنفِ الطائفي منذ آذار (مارس) الفائت، حين اندلعت اشتباكاتٌ بين بقايا قوات النظام السابق وعناصر الحكومة الجديدة على طول الساحل السوري. ففي السادس من آذار (مارس)، شنّت مجموعاتٌ موالية للأسد هجومًا مُنَسَّقًا استهدف قوات الحكومة ومدنيين من الطائفة السُنّية في محافظتَي اللاذقية وطرطوس. وقد شارك في الهجوم ضباطٌ سابقون من الفرقة الرابعة—المعروفة بولائها لماهر الأسد، شقيق الرئيس السابق—إلى جانب “لواء درع الساحل” بقيادة مقتدى فتيحة الموالي للأسد، وخلايا علوية متمرّدة أخرى، ما سمح لهم بالسيطرة على عدد من المواقع الحكومية.
أشعلَ هذا الهجومُ عملياتَ انتقامٍ واسعة نفّذتها قواتٌ حكومية يغلب عليها الطابع السُنّي، وأسفرت عن مقتل نحو 1400 شخص، معظمهم من المدنيين العلويين. وينتمي العلويون، وهم فرع من الطائفة الشيعية، إلى الجماعة التي تمتّعت بنفوذٍ واسع خلال حكم عائلة الأسد. وكانت لجنةٌ أممية شُكِّلت للتحقيق في الأحداث قد سجّلت نمطًا مُقلقًا من “الفرز الطائفي”؛ إذ وثّقت حالاتٍ جرى فيها تحديد الرجال على أساس انتمائهم للعلويين أولًا، ثم فصلهم عن النساء والأطفال قبل اقتيادهم خارج القرى وإعدامهم رميًا بالرصاص.
تُظهر هذه المجازر بوضوح أنَّ البلاد تشهدُ اتساعًا في دائرة العنف الطائفي الذي يقوده مُتَشَدِّدون سُنّة يسعون إلى معاقبة الطائفة العلوية برمّتها على جرائم نُسبت إلى النظام السابق—اتجاهٌ يُنذِرُ بانفجارٍ جديد قد يُقوّضُ أيَّ محاولاتٍ لبناء دولة ما بعد الأسد.
لا تزال الحكومة السورية تكافح لتثبيت نفوذها في المناطق التي تقطنها الأقليات، حيث تتشابك الولاءات المحلية مع صراعات إقليمية معقّدة. فعقب سيطرة فصائل المعارضة على حلب في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، فتح “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا جبهة جديدة ضد “قسد” في الشمال. وترى أنقرة في “قسد” امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، المُصنّف لديها كتنظيمٍ إرهابي، ما جعل المواجهة تحمل أبعادًا إقليمية تتجاوز حدود الصراع السوري.
في أواخر كانون الثاني (يناير)، شرعت حكومة الشرع في دمجِ وحداتٍ من “الجيش الوطني” ضمن تشكيلات “الجيش السوري الجديد”، قبل أن تتوصّلَ لاحقًا إلى اتفاقٍ أوَّلي مع “قسد” لوقف الأعمال العدائية في شمال شرقي البلاد. ونصّ الاتفاقُ على ضماناتٍ دستورية للأكراد ودمج مؤسساتهم المدنية والعسكرية ضمن بنية الدولة السورية. غير أنَّ التنفيذ تعثّر سريعًا، وبقيت الاشتباكات المتقطعة بين الطرفين مؤشرًا واضحًا إلى هشاشة التفاهمات.
على المنوال نفسه، حاولَ الشرع إرساءَ ترتيباتٍ أمنية مع أبرز الميليشيات الدرزية في جنوب سوريا. ففي نيسان (أبريل)، أبرمت الحكومة اتفاقًا مع فصائل درزية رئيسة في السويداء يقضي بدمجِ مقاتليها ضمن الأجهزة الأمنية وبنشر وحداتٍ مشتركة من جهاز الأمن العام. لكن هذا التفاهُم لم يصمد طويلًا أمام التوتّرات المُتصاعدة. ففي أواخر الشهر نفسه، انفجرت أعمالُ عنفٍ عنيفة إثر استهداف مُتطرّفين إسلاميين تجمّعاتٍ درزية في بلدة أشرفية صحنايا بريف دمشق، بعد تداول تسجيلٍ صوتي مُفبرَك نُسِبَ إلى أحد الزعماء الدروز يُسيءُ فيه إلى النبي محمد. سرعان ما امتدَّ العنف إلى طريق دمشق–السويداء، مخلّفًا أكثر من مئة قتيل رُغمَ الجهود المتواصلة لاحتواء الأزمة.
وجاءَ اندلاعُ موجةٍ جديدة من الاقتتال الطائفي بين الدروز والبدو في تموز (يوليو) 2025 ليُعمّق الشرخ ويُقوّضُ محاولات الحكومة للمصالحة مع المجتمع الدرزي. فقد بدأت الاشتباكات بعد اختطاف تاجر درزي على يد مسلّحين من البدو على الطريق الدولي، ما فجّر سلسلةً من عمليات الخطف المُضادة والاشتباكات الواسعة. واتُّهمت القوات الحكومية، المُنتشرة لضبط الوضع، بالانحياز إلى العشائر البدوية وبارتكاب انتهاكات بحق المدنيين الدروز، شملت إعدامات ميدانية وعمليات نهب. وردّت الفصائل الدرزية بهجماتٍ على قرى بدوية أسفرت عن سقوط ضحايا وعمليات تهجير واسعة.
أودت هذه الجولة الدامية بحياة أكثر من ألف شخص، بينهم 427 مقاتلًا درزيًا و298 مدنيًا من أبناء الطائفة. كما دفعت المعارك نحو 128 ألفًا إلى النزوح، لتتحوَّل السويداء ومحيطها إلى بؤرةٍ إنسانية مُلتهبة. ودفعت خطورةُ الموقف إسرائيل إلى التدخُّل عبر تنفيذِ غاراتٍ جوية على مواقع حكومية، من بينها مبنى وزارة الدفاع في دمشق، في مؤشّرٍ إلى اتساع رقعة الصراع وتجاوز تداعياته الحدود السورية.
يكشفُ تفجّرُ العنف في المناطق الدرزية وتعثُّر جهود دمج القوات الكردية عن تصاعُدِ شعورٍ واسع بالتهميش وسوء المعاملة من جانب دمشق، خصوصًا بين الأقليات التي ترى أنَّ الدولة لم تَفِ بوعودها في بناءِ نظامٍ أكثر شمولًا. ويَجدُ هذا الشعور جذوره في مرارةٍ تاريخية تراكمت جراء الانتهاكات التي ارتكبها الإسلاميون السُنّة ضد الدروز والأكراد خلال سنوات الحرب. ففي شمال البلاد، هجّرت الجماعات الجهادية السلفية، إلى جانب فصائل من “الجيش الوطني السوري”، آلاف العائلات الكردية ودمّرت بلدات بأكملها، مُبَرِّرةً حملاتها الدموية باتهام الأكراد بالتعاون مع الغرب. وفي الجنوب، نفّذت “جبهة النصرة”—التي تحوّلت لاحقًا إلى “هيئة تحرير الشام”—ومجموعاتٌ سُنّية متحالفة معها، عملياتَ قتلٍ جماعي بحقِّ الدروز، وأجبرت بعضهم على تغيير معتقده، واعتدت على مواقعهم الدينية. وجاء تورُّط قوات الحكومة الحالية في أعمالِ عُنفٍ ضد الدروز ليُعَمِّق الشروخ الطائفية، ويجعلُ أيَّ محاولةٍ للمصالحة مع الأقليات تبدو أكثر بُعدًا وتعقيدًا.
مكاسب ميدانية بلا تماسُك سياسي
اتخذ الشرع سلسلةً من التدابير الأمنية الفعّالة لاحتواءِ تمرُّدِ المُوالين للأسد، لكنه أخفقَ في التصدّي للأسباب البُنيوية التي تُغذّي دوّامات العنف الطائفي في مناطق أخرى. فقد أنشأت القوات الحكومية شبكةً واسعة لمُكافحة التمرُّد على امتداد الساحل السوري، شملت نقاطَ تفتيشٍ تعملُ على مدار الساعة، وتفكيك خطوط الإمداد التي كانت تربط النظام السابق بلبنان. كما نفّذت وحدات الأمن عمليات دَهمٍ على طول الحدود السورية–العراقية، استهدفت خلايا تهريب ومجموعات موالية للأسد. وتمَّ خلال الأشهر الأخيرة اعتقال عدد من كبار مسؤولي النظام السابق، بينهم ضباط في أجهزة الأمن والمخابرات المعروفة بسجلها الحافل بالانتهاكات. وإلى جانب ذلك، عقدت الحكومة تفاهمات مع وجهاءٍ محلّيين لتسهيل الحصول على معلوماتٍ حول الأسلحة المُخزَّنة بشكلٍ غير قانوني، الأمر الذي أسهم في تقليص ملحوظ لنشاط المتمرّدين الموالين للأسد.
أما في جنوب البلاد، فيعتمد الشرع على حزمةٍ من الترتيبات الأمنية لإدارة منطقة ما زالت حكومته عاجزة عن فرض السيطرة الكاملة عليها. فقد قادت غرفة العمليات، وهي تحالفٌ جنوبي تقوده “هيئة تحرير الشام”، الهجوم ضد انتفاضة المتمرّدين أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، بالتنسيق مع فصائل مستقلة استولت على مواقع عسكرية تابعة للنظام السابق. وعلى الرُغمِ من أنَّ هذه المجموعات أُدمِجت شكليًا في مؤسسات الجيش السوري الجديد، فإنها احتفظت بهياكلها وقياداتها الأصلية. وتشكّل الفرقة الأربعون المتمركزة في درعا نموذجًا واضحًا لهذا الوضع؛ إذ تضم خليطًا من مُنشَقّين سابقين عن النظام ومُقاتلين من فصائل غير مرتبطة مباشرة بالحكومة المؤقتة، ما يجعل ولاءها الحقيقي أقرب إلى قادتها المحليين منه إلى القيادة المركزية في دمشق.
تُسفِرُ هذه الترتيبات الهشّة عن صداماتٍ مُتكرِّرة بين الميليشيات المحلية والقوات الحكومية، إذ غالبًا ما تتحوّل نقاط الاحتكاك الصغيرة إلى مواجهاتٍ واسعة بفعل تضارُب الولاءات وتعدُّد مراكز القوى. ففي نيسان (أبريل)، اغتال عناصر من ميليشيا “اللواء الثامن” في درعا مسؤولًا بارزًا في وزارة الدفاع بمدينة بصرى الشام، ما فجّر اشتباكات عنيفة بين مقاتلي اللواء والقوات الحكومية المنتشرة في المنطقة. وبالصورة نفسها، فشل دمج الفصائل الدرزية المستقلة في جهاز الأمن العام بمحافظة السويداء في تموز (يوليو) في وقف المواجهات بين المقاتلين الدروز والقوات الموالية للحكومة.
لم تمنح هذه التحالفات الأمنية دمشق سوى سيطرة جُزئية على الجنوب، في وقتٍ ما تزال الميليشيات المحلية تتمتّع بقدرٍ كبير من الاستقلالية التشغيلية. ويبدو هذا النهج غير قابلٍ للاستمرار، إذ تضطرُّ الحكومة باستمرار إلى سحب وحدات من مناطق أخرى لاحتواء الأزمات المحلية. فعندما اندلعت الاشتباكات مع “اللواء الثامن” شرق درعا، جرى نقلُ عناصر من جهاز الأمن العام من دمشق لدعم العمليات. وفي السويداء، اضطرت وزارة الدفاع إلى إرسال قوات من وسط البلاد وساحلها لمحاصرة العنف بين المقاتلين الدروز والسنّة.
والحصيلة أنَّ الحكومة تجد نفسها تُديرُ صراعًا مُتنقلًا على هيئة “لعبة ضرب الخلد”، تتحرّكُ فيها القوات من منطقةٍ إلى أخرى من دون أن تنجحَ في إرساءِ استقرارٍ مُستدام، ما يستنزفُ قدراتها ويترك خلفها فراغات أمنية قابلة للاستغلال. ففي حال تشتت القوات الحكومية بسبب مواجهات في نقاط متعددة، قد تستغل الخلايا الموالية للأسد هذا الانشغال لتصعيد نشاطها في مناطق وسط سوريا. ويوضح انفراط هذه الترتيبات المحلية وما يرافقه من موجات عنف متلاحقة وجود مشكلة بنيوية أعمق: انعدامُ ثقة راسخٌ بين ميليشيات الأقليات المستقلة ودمشق، وهو ما يُبدِّد أي فرصة لقيام منظومة أمنية موحَّدة في المدى القريب.
الطريق إلى الأمام
يبدو أنَّ الشرع صادقٌ في محاولاته وقف دوّامة العنف التي تستهدف الأقليات، إدراكًا منه أنَّ استمرار هذه الهجمات يُعرقلُ قدرته على كسب الدعم الخارجي الضروري لترسيخ سلطته على كامل الأراضي السورية. وقد سجّلت حكومته تقدُّمًا ديبلوماسيًا ملموسًا، تمثل في فتح قنوات تعاون مع دول غربية والحصول على تخفيف ملحوظ للعقوبات المفروضة منذ عهد النظام السابق. وخلال زيارته التاريخية الأخيرة إلى واشنطن—حيث التقى الرئيس دونالد ترامب، إضافة إلى كبار القادة العسكريين وأعضاء في الكونغرس—نجح الشرع في انتزاعِ تعليقٍ جُزئي لبعض العقوبات، رُغم أنَّ رفعها الكامل لا يزال مرهونًا بموافقةٍ تشريعية لم تتبلور بعد. ويعزو مراقبون تردُّدَ بعض المشرّعين الأميركيين إلى الشكوك المحيطة بقدرة الحكومة الانتقالية على حماية الأقليات وضمان حقوقهم.
أما الانتخابات البرلمانية التي جرت الشهر الماضي، والتي أسفرت عن شغل 119 مقعدًا في الجمعية الوطنية الجديدة، فقد عُدّت خطوةً حذرة نحو بناء مؤسّساتٍ سياسية تُمثّلُ التنوُّعَ العرقي والديني للبلاد. ففي عفرين، على سبيل المثال، فاز ثلاثة مرشحين أكراد—وهي سابقة رمزية تحمل دلالات مهمة في سياق إعادة بناء نظام سياسي أكثر شمولية. ومع ذلك، يبقى هذا التقدُّم هشًا؛ فالهجمات المتواصلة على الأقليات الدينية تُهدّد بإجهاضه، كما تلقي بظلال كثيفة على صورة الشرع كزعيمٍ قادرٍ على توحيد البلاد.
ولتعزيز استقرار سوريا وترسيخ مصداقية حكومته على الساحة الدولية، بات على الشرع التحرُّك بوضوح وبلا تردُّد نحو مساءلة شفافة وحوكمة أكثر شمولًا. وفي هذا الإطار، تبرز ثلاث خطوات أساسية:
أولًا: بناء تحالفات عسكرية قائمة على الثقة لا الإكراه: اعتمدَ الشرع حتى الآن أسلوبًا شبه سلطوي في التعامل مع الميليشيات، إذ طالبها بحلّ هياكلها القيادية قبل الاندماج في مؤسّسات الأمن الرسمية. وقد ينجح هذا النهج مع مجموعاتٍ صغيرة محدودة التأثير مثل “اللواء الثامن” في درعا، لكنه يبدو غير قابل للتطبيق مع قوى أكبر وأكثر رسوخًا مثل “قسد”. ففي بيئة مشحونة بانعدام الثقة، فإنَّ محاولة نزع سلاح “قسد” أو الميليشيات الدرزية بالقوة لا تَعِدُ إلّا بمزيدٍ من التمرّد. ومن غير المحتمل أن يُترجَمَ وقفُ إطلاق النار الأخير بين دمشق و”قسد” إلى تهدئةٍ دائمة ما لم يُبنَ على إطارٍ واضحٍ للتكامل السياسي والعسكري.
وفي آب (أغسطس)، أعلن الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، تشكيل “الحرس الوطني”، وهو كيانٌ يُوحّدُ أكثر من 40 ميليشيا درزية في السويداء، تقول تقارير إنها تتلقّى دعمًا ماديًا من إسرائيل. وانضمامُ فصائل كانت حليفة لدمشق سابقًا—من بينها “حركة رجال الكرامة”—إلى هذا التشكيل الجديد، يعكسُ انهيارًا شديدًا للثقة، تفاقَمَ بفعل موجات العنف الأخيرة. وتشمل مبادرة الهجري أيضًا شخصيات من النظام السابق، ما يُبرِزُ مدى استعداد قادة الأقليات للتمايز عن المركز في دمشق.
ويعني ذلك أنَّ الشرع بات مطالبًا بإعادة صياغة مقاربته بالكامل، عبر إقامة تحالفات رسمية مع ميليشيات الأقليات في الجنوب والشمال الشرقي، تعترفُ بمطالبها بالسيادة المحلية والهوية المستقلة. مثل هذه الترتيبات لا تساهم فقط في ترميم الثقة، بل تعزّز أيضًا التعاون الأمني في مواجهة بقايا تنظيم “الدولة الإسلامية” وغيره من الجماعات المناهضة للحكومة. أما تجاهل هذه الديناميكيات، فسيُعمّق شعور الأقليات بالتهميش، ويفتح الباب أمام نفوذٍ إيراني أوسع، خصوصًا في الجنوب حيث تعمل جهات مدعومة من طهران على تقويض سلطة الشرع وخلق توازنات موازية تزيد المشهد تعقيدًا.
ثانيًا: إصلاح القوات الحكومية لرفع مستوى الانضباط والاحتراف: تواجه الحكومة تحدّيًا كبيرًا في ضبط سلوك العناصر الأمنية من ذوي الرتب الدنيا، الذين يشكلون العمود الفقري لجهاز الأمن العام، ويتعرَّضون بشكلٍ مُتكرّر لاتهاماتٍ بالنهب والخطف وتنفيذ مداهمات غير قانونية داخل المناطق المدنية. وتُمثّلُ الخطوات الأخيرة—من توحيد الزي العسكري، إلى تزويد الجنود بكاميرات جسم، ومنحهم أرقام تعريف فردية—محاولة لترسيخ قدر أكبر من الاحتراف والمسؤولية داخل صفوف القوات.
وقد تفاقمت المشكلة سابقًا حين استغلَّ محتالون، بل وحتى جماعات إسلامية مسلحة، الثغرات الأمنية بانتحال صفة أفراد جهاز الأمن العام لاستهداف المدنيين، ما عمّق الشعور بالعداء تجاه الدولة. وتُضافُ إلى ذلك الإشكالية المُتولّدة عن الخلفيات الجهادية لعدد من القادة والمقاتلين الذين جرى دمجهم ضمن “الجيش السوري الجديد”. ففي أحداث السويداء الدامية في تموز (يوليو)، تبيّن لاحقًا أنَّ بعض المقاتلين الذين ظهروا حاملين شارات “داعش” كانوا في الواقع منتسبين لوزارة الدفاع. إنَّ معالجة هذا السلوك والانتهاكات، وتعزيز المساءلة الصارمة داخل الرتب الدنيا، يُمثّلان ركيزةً أساسية لاستعادة ثقة الشارع السوري بالقوات الحكومية.
ثالثًا: تعزيز الوحدة الوطنية عبر المُساءلة والشمول: عقب مجازر آذار (مارس) التي أودت بحياة مدنيين علويين في المحافظات الساحلية، شكّلت الحكومة لجنة تحقيق خاصة، توصّلت في تقريرها إلى تحديد هوية 298 مُشتَبَهًا متورِّطًا في الأحداث. إلّا أنَّ إلقاء القبض تمَّ على مشتبهٍ به واحد فقط—وهو مسؤول في وزارة الدفاع—ما أثارَ شكوكًا حول جدية المحاسبة. ويُعَدُّ نشرُ تقرير اللجنة على الملأ خطوةً مهمّة لإظهار التزام الحكومة بمُساءلة مَن يقف وراء تلك الجرائم.
وقد بدأت وزارة العدل بالفعل، الأسبوع الماضي، بإجراء محاكمات علنية مرتبطة بأعمال العنف في الساحل. وإذا جرت تلك المحاكمات بشفافية، وأُحيل المسؤولون عن العنف الطائفي إلى العدالة من دون استثناء، فستُقدِّمُ الحكومة رسالةً واضحة إلى الرأي العام مفادها أنَّ لا أحد فوق القانون، وأنَّ زمن الإفلات من العقاب آخذٌ في التراجع—وهي رسالة ضرورية لترميم النسيج الوطني المُتصدّع.
وبالقدر ذاته من الأهمية، يتعيّن على الشرع معالجة استبعاد المناطق ذات الغالبية الدرزية والكردية من الانتخابات الأخيرة—وهو استبعاد برّرته الحكومة بعدم امتلاكها السيطرة الفعلية على تلك المناطق—من خلال تضمين حقوقهم السياسية والثقافية بشكل واضح في الدستور الجديد قيد الإعداد. فقد ترك التهميش المتواصل لهذه المكوّنات أثرًا بالغًا، وبدأ يُفرز توجُّهات انفصالية مقلقة. ففي 8 آب (أغسطس)، عقدت “قوات سوريا الديموقراطية” مؤتمرًا بعنوان “الوحدة” في الحسكة، جمع قادة دروز وعلويين ومسيحيين، في رسالةِ تحدٍّ لدمشق. وفي الجنوب، أعلن قادة المجتمع الدرزي تشكيل “منطقة حكم ذاتي” كبديلٍ من سلطة الشرع المركزية. إنَّ الاعتراف بمطالب الأقليات في التمثيل والسيادة المحلية، وإقران ذلك بعملية عدالة انتقالية ذات مصداقية، يُعَدّان شرطَين أساسيين أمام الشرع لاستعادة الثقة في الحكم المركزي والمحافظة على وحدة سوريا الهشّة.
وفي نهاية المطاف، فإنَّ بقاء حكومة الشرع الانتقالية ومصداقيتها كسلطة قادرة على توحيد البلاد مرهونان بقدرته على القطع مع ممارسات الإقصاء والإفلات من العقاب التي وسمت مرحلة ما قبل سقوط الأسد. فاستمرار العنف ضد الأقليات لا يؤدّي فقط إلى تآكل الثقة الداخلية، بل يُهدّدُ كذلك الدعم الدولي الذي تحتاجه دمشق لتحقيق قدر ولو محدود من الاستقرار. وإنَّ الفشل في محاسبة المتشددين السنّة سيعمّق الهوّة بين الطوائف ويُغذّي دوائر الانتقام والعنف. ولا يبدو أن هناك طريقًا واقعيًا للمضي قدمًا سوى في اعتماد آلياتِ عدالةٍ مستقلة، وترتيبات أمنية شاملة تُعالج جذور الصراع وتستجيب لمظالم المجتمعات المتضررة. وإذا ما استطاع الشرع أن يواجه هذه التحدّيات بشجاعة وحزم، فقد يتحوَّلُ المشهد من سوريا ممزَّقة بالخوف والشك إلى دولةٍ تُشارك فيها الأقليات بصناعةِ المستقبل بدل الخشية منه.
- سيدانت كيشور هو مستشار جيوسياسي مستقل مُتخصص في الاستخبارات مفتوحة المصدر والجغرافية المكانية. عمل سابقًا مُحلّلًا في معهد دراسة الحرب، حيث تتبع الحرب غير النظامية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @SidhKishore.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.