لبنان في مرمى الخطة الأميركية: تفكيك الدولة أم تفكيك السلاح؟

بعد عامٍ على اتّفاق وقف الأعمال العدائية، يَجِدُ لبنان نفسه في قلبِ خطّةٍ أميركية طموحة تَعِدُ بنزعِ السلاح وإعادة بناء الدولة، لكنها تصطَدمُ بجذورٍ عميقة من الفساد وتشابُك المصالح. وبين ضغطِ واشنطن وتعقيدات الداخل، يتحدّد مستقبلُ بلدٍ يقفُ على حافة الانفجار أو التحوُّل.

بيروت بين العَلَم والمدينة… وطنٌ يبحث عن استقراره وسطَ عاصفةِ الأزمات.

ملاك جعفر عباس*

بعدَ عامٍ على اتفاقِ وَقفِ الأعمال العدائية بين تل أبيب وبيروت، لا يزالُ شبحُ الحرب جاثمًا فوق لبنان أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، نتيجةَ ضبابية الأُفُق التفاوضي وقصورِ الحلولِ العسكرية عن تحويل الخسائر والمكاسب الميدانية إلى نتائج سياسية واضحة. صحيحٌ أنَّ الزلزالَ الذي هزَّ الإقليم عقب هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أعادَ رَسمَ ملامح الشرق الأوسط، حيث نالَ لبنان من ارتداداته نصيبًا كبيرًا أثقل كاهل “حزب الله” وقصمَ ظهره من دون أن يقضي عليه. مع ذلك، تمكّن الحزب في زمنٍ قياسي من التقاط أنفاسه ولملمة وضعه السياسي، وإن جلس كسيحًا في كرسيه يُهدّدُ كثيرًا ولا يفعل شيئًا يذكر.

نتنياهو وترامب: عودة إلى الوصاية المباشرة

أثبت بنيامين نتنياهو خلال العامين الماضيين أنَّ لا خطوطَ حمرٌ أمام اندفاع وتوَحُّش آلته العسكرية والاستخبارية، فيما أظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، جدّية غير مسبوقة، لم تُمَيِّز ولايته الأولى، في التعاطي مع ملفات الشرق الأوسط. فقد ترجمت إدارته هذا النهج عبر متابعة حثيثة لملفات غزة وسوريا وإيران ولبنان، وصلت أحيانًا إلى حدودِ الوصاية المباشرة. وقد اعتادَ الساسة المخضرمون في لبنان، ومعهم مهندسو الدولة العميقة، التعاطي مع الوصايتين السورية والإيرانية بمنطق الاعتياد والمسايرة، لكنَّ العقلَ الترامبي الآتي من عالم الصفقات والشركات يتعاطى بطريقةٍ مختلفة لا تتناسب مع عقلية “العمل كالمُعتاد” (business as usual) التي اعتادوا عليها، وتُعرَف لبنانيًا بمصطلح “تقطيع الوقت”. لا قفّازات عند ترامب، بل مطالب واضحة، لا حوافز ولا جوائز ترضية للخاسرين، بل مؤشّرُ أداء ومقاييس يُحاسَب على أساسه الصديق قبل العدو. وقد اعتمدت هذه الرؤية في لبنان على ثلاثة مسارات أساسية:

  • عسكري، تُبقي بموجبه إسرائيل حربَ الاستنزاف من جانبٍ واحد على نارٍ هادئة، فيما الجيش اللبناني يقوم بسحب السلاح والسيطرة على المخازن والمنشآت التابعة ل”حزب الله” وتدميرها، كما عليه أن يمسك بمفاصل الحدود مع سوريا.
  • سياسي، تتبنّى بموجبه الحكومة اللبنانية ورقة المبعوث الأميركي توم برّاك، وتنخرطُ في مفاوضاتٍ مباشرة للسلام مع إسرائيل، ومع سوريا لترسيم الحدود.
  • اقتصادي، تُنجِزُ الحكومة الإصلاحات الاقتصادية، وتُجفّفُ اقتصادَ ال”كاش”، ومصادر التمويل المشبوهة، وتقفل طرق التهريب والمعابر غير الشرعية قبل الحديث عن المساعدات أو إعادة الإعمار.

تعاطى السياسيون اللبنانيون مع الخطة، كعادتهم، بشيءٍ من التلكّؤ، عزاهُ البعضُ إلى ضُعفٍ في التقدير لجدِّية الولايات المتحدة وإسرائيل في التنفيذ، أو إلى عدم إدراكهم لراديكالية التغيير في الإقليم، وضيق الهوامش التي تتطلّبُ تحمُّلًا للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، وما يعنيه ذلك من اتخاذ قراراتٍ غير شعبوية.

أما الدوائر السياسية الغربية فرأت فيه تواطُؤًا مع “حزب الله” الذي نجح، برأيها، في اللعب على تناقُضات السياسة وزواريبها وصفقاتها لإجهاض الخطة الأميركية، وجرِّ لبنان الرسمي معه إلى مسلسل سوء التقدير والتخبُّط الذي رافق الحزب منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ولا يزال يطبع مقاربته للتطورات.

خطة تواجه عيوبًا بنيوية

والواقع أنَّ الخطة الأميركية نفسها تعاني عيوبًا بنيوية تحدّ من قدرة الولايات المتحدة والدولة اللبنانية على تنفيذها بفاعلية. فالمقاربات الحديثة لمكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة—خصوصًا تلك المعتمدة في أوروبا—تُجمِعُ على أنَّ استئصالَ تنظيماتٍ راسخة في بيئتها الاجتماعية لا يُمكِنُ أن يتحقّقَ بالقوة العسكرية وحدها. فمن دونِ تحييد البيئة الحاضنة عن الإجراءاتِ العقابية التي تُفرَضُ على المسلّحين والمنظّرين والمموّلين، تتحوّلُ أيُّ استراتيجيةٍ إلى مُمارسة تمييزية تُعمّق الانقسام بدل معالجته. لذلك، ينبغي أن تترافق التدابير الأمنية مع حوافز تُشجّع أفراد الجماعة على الخروج من عزلتهم الاجتماعية والاندماج في مؤسّسات الدولة، ومع مغريات حقيقية تُسهّل عليهم خيار التخلّي عن السلاح. كما يتطلّب الأمر معالجة سياسية للمظالم التي أسهمت في نشوء الجماعة المسلحة منذ البداية، لضمان عدم إعادة إنتاج الظروف التي أفرزتها.

ففي العراق أدّى حلّ الجيش واجتثاث البعث بعد الغزو الأميركي إلى تحويل آلاف الشباب السُنّة الى عاطلين من العمل، أو مُطارَدين، ما ساهم في تحويلِ “الحواضن” السُنية الى بيئةٍ خصبة للسلفية الجهادية. وفي أفغانستان، فرَّ الاميركيون بعد عشرين عامًا من الاحتلال، ولم يفهموا حتى الآن كيف عادت حركة “طالبان” إلى الحُكم رُغم كل ما يراه فيها العالم من تخلُّفٍ ورجعية، إلّاأانها تمثّلُ شريحةً كبيرة من الأفغان شئنا ذلك ام أبينا.

الفجوة بين الخطة الأميركية والواقع اللبناني

وفي لبنان، ترتكز الخطة الأميركية على القوة الإسرائيلية لإبقاء مستوى التوتر العسكري قائمًا، رافضةً أي بحث في الانسحاب قبل استكمال نزع سلاح “حزب الله”. غير أنَّ هذا التصوُّر يعاني قصورًا واضحًا في فَهمِ طبيعة الحزب وتشابكه العميق مع بيئته، ما يؤدي إلى أخطاءٍ منهجية كان يُمكِنُ تجاوزها. كما تطرح الخطة مُهَلًا زمنية غير واقعية تفرض ضغطًا هائلًا على المؤسسة العسكرية، وتُغفل في الوقت نفسه حجم التآكل الذي أصاب مؤسسات الدولة عبر عقود، الأمر الذي يجعل تحقيق انتقال سريع أمرًا بالغ الصعوبة—حتى في حال توفَّرَ التمويل والإرادة السياسية.

ف”حزب الله” منظّمة هجينة مُتعدّدة الأوجه وليس مجرّد ميليشيا. توصيفه بالدويلة داخل الدولة ربما يُصوِّرُ للبعض أنه جسمٌ منعزل يسهل استئصاله بقطع التمويل وتقويض القدرات العسكرية، بينما التوصيف الأقرب إلى الواقع هو أنَّ “حزب الله” هو تنظيمٌ أمني وعسكري وحزب سياسي ومالك مؤسّسات اقتصادية واجتماعية وتربوية، يتمتع بدعمِ شريحةٍ وازنة من المجتمع اللبناني. وقد نسج متاهات محلية مُتداخلة من مصالح سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية ومالية تخدم المجهود الحربي، وتتحصّن به ليُشكّل رأس الحربة في استراتيجية الدفاع المتقدم الإيرانية، التي ترفده بالمال والسلاح عبر شبكات الحرس الثوري الشديدة التعقيد. وقد تداخلت متاهات الحزب بسراديب الدولة العميقة، فأصبح قادرًا على تعطيل أو إبطاء مفاعيل أي اندفاعة ضده من الأسفل فضلًا عن قدرته على الإمساك ب”الفيتو” الشيعي في المجلس النيابي والحكومة، حتى لو اطنب المسؤولون الحديث عن قرارٍ لا رجعةَ فيه بحصرية السلاح بيد الدولة واحتكارها قرار السلم والحرب.

لم تنشأ “الدويلة” داخل دولة مثالية لا تشوبها شائبة، كما لم يكن “حزب الله” وحده مَن يحتكرُ تبييض الأموال أو يستفيد من شبكات التهريب. ولم يكن الحزب الجهة الوحيدة التي أنشأت مؤسّسات خدمية ورعوية وإعلامية، ولا الفصيل الوحيد الذي استفاد من منظومة الفساد ورعاها. فالمنظومة السياسية بأكملها كانت جُزءًا من شبكةِ مصالح مُتبادَلة، تتصادم حينًا وتتفاهم حينًا آخر، تبعًا لحساباتها الضيّقة. وقد قبلت هذه المنظومة وجود سلاح الحزب وأدواره الإقليمية لعقود ما دامت مكاسبها مُستمرّة، فيما يُطلَبُ منها اليوم تفكيك مشروعٍ شكّلت هي نفسها أحد أعمدته.

حين تبدو الخطة أقرب إلى “نسف الهيكل”

في هذا السياق، تبدو الخطة الأميركية عاجزة عن فهم وتشخيص بنية الدولة العميقة في لبنان، ما يجعلها أقرب إلى محاولة نسف الهيكل بدل تفكيكه بحكمة، وهو مسارٌ ينطوي على مجازفة كبيرة. والأجدى هو تعزيز الرقابة المؤسّسية والتركيز على أداء الطبقات الوظيفية المتوسطة داخل الإدارات، حيث تتبخّر التوجيهات وتضيع القرارات قبل أن تبلغ أهدافها.

ترى بيئة الحزب أنها تُدفَعُ للاستسلام في نفقٍ مظلم إن سُلّمَ السلاح، وتُدرِكُ أنَّ التمسُّكَ به انتحارٌ، كلاهما خطرٌ وجودي من منظورها. أغدق الحزب على بيئته العطايا في زمن الانهيار، فعندما ابتلعت المصارف ودائع الناس وَجد الشيعة وغير الشيعة في “القرض الحسن” ملاذًا آمنًا يستودعونه ذهب نسائهم فيحصلون على قروضٍ ميسَّرة تقيهم العوز، وجدوا في مدارسه بدائل للمدرسة الرسمية المهترئة، وجدوا في مؤسساته الصحّية سندًا لمرضاهم وقت انهار الضمان الاجتماعي، وأمنت الإعانات الشهرية والبطاقات التعاونية استمرارية الخبز على موائدهم. لا يُصدّقُ معظمهم ما وثّقته المنظمات الدولية عن تورّطه في تهريب المخدرات وصناعة الكبتاغون وتصفية المعارضين وتهريب السلاح وتبييض الأموال. وَجهُ “حزب الله” الذي يرونه هو مجموعة من الشبان الشرفاء الذين دفعوا دماءهم فداء للوطن. الحزب بالنسبة إليهم هو ابن عم وخال وصديق يستحيل ان يتورّطَ في موبقات كهذه. هو صورة السيد حسن نصر الله التي إن خُدِشَت تنهار معها منظومةٌ قيمية كاملة صنعت هوية وكرامة.

تقف سياسة العصا بلا جزرة التي تتبعها الإدارة الأميركية عاجزةً عن الردّ على سردية الخطر الوجودي التي عكف “حزب الله” على التهويل بها ووَسَّعَ من خلالها تدريجًا مروحة تأييده التي كانت قد تقلّصت إلى الحدِّ الأدنى غداة الحرب. يُفقد صلف المتحدثين الأميركيين الخطاب الوطني مشروعيته ما يسمح للحزب بتصويره على أنه إملاءات. لا تبدو النتيجة مفاجئة. فلو قرأ الأميركيون صفحة واحدة من تاريخهم في أفغانستان والعراق لأدركوا أنَّ المقاربة الأحادية لمكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة ترتدُّ سلبًا في السياسة إذا لم تقترن بمعالجة الجذور التاريخية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي سمحت لهذه الجماعات النشوء والتمدُّد في حواضن اجتماعية تشترك في التجربة والمصير لتصنع هوية عقائدية شديدة الولاء لا تضع الربح والخسارة في ميزان مادي. فتجربة الخروج من الدويلة الى الدولة عملية محفوفة بالمخاطر لمن يغامر بخوضها إن لم تؤمَّن له البدائل الحقيقية. فالدويلة بالنسبة إليهم عالمٌ حقيقي يؤمّنُ لهم بالدرجة الأولى الاحتضان في جماعةٍ تشترك في التجربة والمصير والثقافة، وفي الهوية. والدولة عالمٌ افتراضي يملؤوه الغرباء المختلفون. ليست مسألةُ الهوية رفاهية مُؤجَّلة تُخَصَّصُ للجلسات النخبوية. هي اختبارٌ يومي لمدى نجاح مشروع الدولة في إحياء المشتركات العابرة للوطن والتي بإمكانها ان تُخفّضَ حدة الانتماء الطائفي أو الحزبي من خلال تحقيق الأمان والعدالة والرفاه. لذا فإنَّ تفكيك هذه المنظومة المُعقّدة محكومٌ بالفشل إن بقي يعمل فقط من الأعلى الى الأسفل بالمراسيم والضغط والعقوبات من دون العمل على إعادة الدولة إلى ملء الفراغ الذي تمدد فيه الحزب لمدة أربعين عامًا.

ما العمل؟ نحو مقاربة أكثر واقعية

لو اتَّعظ الاميركيون من حروبهم في الإقليم لأدركوا أنَّ المُهَل غير الواقعية لتسليم السلاح والحملة الممنهجة على المؤسسة العسكرية وقيادتها وادائها، ودفعها لمواجهة شعبها تُعرّضُ السلمَ الأهلي الهشّ لمخاطر الانفجار. وتذكر مراجع مكافحة الإرهاب في العراق أنَّ الجندي السُني في الجيش كان يتحجّج بالمواصلات والعذر الطبي وغيرها من الحجج كي لا يشارك في معركة يعتبرها ضد بيئته السنية (وليس داعش) كما رفض كثير من الضباط الأفغان دخول مدن تتحصّن فيها طالبان بالقوة قبل التوافق معها. ولا يتأتى احتمال الانفجار الداخلي فقط من سيناريو مصادرة السلاح بالقوة كما يتوهّم البعض، بل أيضًا من احتمال فقدان المؤسسة العسكرية القدرة على الحفاظ على السلم الأهلي إن خسرت التمويل والتسليح والقدرة على التجنيد والتدريب والحفاظ على سلاسل القيادة والسيطرة وتحمُّل كلفة الانتشار في مساحات جغرافية واسعة تحت ضغط ميداني وسياسي هائل.

العام الفائت كان مخاضًا عسيرًا لا ينبغي القبول بتحويله إلى قدرٍ محتوم. فاللبنانيون يقفون اليوم أمامَ خياراتٍ صعبة تتطلّبُ شجاعةَ المواجهة لا سياسة الهروب. على الشيعة أن يُدركوا أنَّ زمن الازدهار داخل “الدويلة” قد انتهى، وأنَّ استمرارَ الرهان على الحزب سيُحمّلهم أثمانًا باهظة ستصلُ عاجلًا أم آجلًا. وعلى “حزب الله” أن يعي أَّن إيران، مهما ضخّت من مالٍ وسلاح وخبراء، لن تكون قادرة على إنقاذه في مرحلة بات فيها التفوُّق التكنولوجي الهائل يلغي فعالية الحرب غير المتكافئة ويُفرّغها من مضمونها. أما الدولة اللبنانية فعليها أن تستيقظَ من سباتها الطويل، وأن تتجاوز سجالاتها العقيمة لتتصرّف وُفقَ التفويض الذي يمنحه لها مواطنوها بوصفها الجهة الوحيدة المُخَوَّلة احتكارًا عادلًا للعنف والسلاح، وتوفيرًا للأمن والاستقرار والرفاه.

وفي المقابل، تبدو الولايات المتحدة مَعنية بمراجعة أوجه القصور في مقاربتها اللبنانية، والانفتاح على شراكةٍ حقيقية مع الدول العربية—وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية—التي باتت تُدركُ مخاطر الضغط الأقصى على تركيبةٍ لبنانية شديدة الهشاشة، وربما تحمل في يدها مفتاحًا لا غنى عنه لفكِّ العقدة في طهران.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ Linkedin على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى