إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب (الأخيرة)
في هذه الحلقة الختامية من سلسلة “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، يتتبع الكاتب سليمان الفرزلي المسار التاريخي والفكري الذي وَلّدَ الهَويّة الشيعية الحديثة، من جذورها الصفوية إلى امتداداتها الإقليمية المعاصرة. ويكشفُ كيف تحوّلت التحولات العقائدية الأولى إلى بُنيةٍ سياسية واجتماعية عابرة للحدود، صنعت ما يشبه الكيان المُتَخَيَّل والمُمتَدّ: “الوطن الشيعي”.

(13)
“الوطن الشيعي”
سليمان الفرزلي*
قام الرحَّالة البرتغالي، أنطونيو تنريرو، بزيارةٍ الى مدينة أصفهان الإيرانية في العام 1524م، وهي السنة التي توفي فيها الشاه إسماعيل الأول الصفوي، الذي أمر بتشيُّع إيران، والانتقال بها من المذهب السُنّي (الشافعي والحنفي) الى المذهب الشيعي (الجعفري الإثنَي عشري). وفي تجواله هناك، لاحظ وجودَ بُقعٍ خارجها تتناثر فوقها عظامٌ بشريَّة، افترضَ أنها مقابرُ جماعية.
بصرف النظر عن هذه الملاحظة، كدليلٍ على وجود مقاومة شعبية لقرار الشاه إسماعيل الأول الصفوي بالانتقال من السُنِّيَة الى الشيعية، فإنَّ قراره هذا، لكونه قرارًا مُلزِمًا لعموم الشعب، تحت طائلة العقوبات القصوى، هو بحدِّ ذاته سببٌ لاستدراج الاستياء الشعبي العام. فإذا كانت ملاحظة الرحَّالة البرتغالي عن أصفهان صحيحة، فليس ذلك بالأمر المُستغرَب، لأنَّ الثابتَ أيضًا أنَّ مدينة تبريز قاومت التشيُّع، وقُتِلَ من التبريزيين ما لا يقل عن عشرين ألفًا!
لكنَّ الأهم من كل ذلك، فَهْمُ الأسباب التي دفعت الشاه إسماعيل الى اتخاذ قرار التشيُّع وتطبيقه بقسوة وبلا هوادة. فالقرارُ لم يكن في الأساس قرارًا إيديولوجيًا، لكن “أدلجته” تاليًا، كانت ضرورية لتوحيد الأهداف العسكرية والسياسية والدينية. أما السبب المُوجِب الأصلي، فهو قيام الدولة العثمانية السُنيَّة القويَّة الى جوار إيران، وتاليًا ادعاء سلاطينها صفة “الخلفاء”، مما حمل الشاه إسماعيل على اتخاذ خطوةٍ جذرية تتميّزُ بها إيران عن جارتها تركيا، التي وضعت يدها على جميع الدول العربية، مشرقًا ومغربًا، من العراق وسوريا، الى مصر والجزائر، مُتجاوزةً بذلك حدود الدولة الإخمينية الفارسية القديمة التي قادها الملك قورُش. بمعنى أنَّ السلطنة العثمانية المُتاخِمة لإيران، وضعت يدها ليس على العرب فقط، بل على الإسلام أيضًا!
*****
قرار الشاه إسماعيل، وهو أول حاكم لإيران من العائلة الصفوية (حكم من 1501م الى 1524م)، بتحويلِ إيران من المذهب السُنِّي الى المذهب الشيعي، كان قرارًا سياسيًا، فما كان دافعه الاعتبارات الدينية أو الإيديولوجية. إذ إنَّ معظمَ التحوُّلات الإيديولوجية، التي جرت في الدولة الصفوية، تمت في عهد ابنه تَحْمَسْب الأول، الذي حكم طويلًا لمدة تزيد على خمسين عامًا (من 1524م الى 1576م)، وهي مدة كافية لتثبيت الدولة تحت المذهب الشيعي، سياسيًا، وعسكريًا، والأهم من ذلك، دينيًا. وفي ذلك تقول مدوَّنة لجامعة كامبريدج البريطانية: “إنَّ الشيعيّة الفارسية الحديثة، نشأت وضربت جذورها في تربة حكم تَحْمَسْب الأول ابن الشاه إسماعيل”.
كانَ حُكمُ الشاه إسماعيل حكمًا توتاليتاريًا شديد القسوة، لأنَّ عملية الانتقال لم تكن سهلة، لكون التآلف السنّي–الشيعي في إيران كانت له جذورٌ عميقةٌ، في مواجهة الغزو المغولي الذي اجتاح بلاد فارس في العام 1258م، بقيادة هولاكو خان. ويقول المؤرِّخون للحقبة المغولية، إنه خلال تلك الحقبة، “توحَّدت الصفوف، واختفت الفوارق بين السُنَّة والشيعة”.
على أنَّ الكتبَ والدراسات التي أرَّخت لتلك الحقبة في الشرق كانت شحيحة، وأبرزها كتاب علاء الدين عطا – مالك الجفياني (1226م–1283م) بعنوان “تاريخ جاهان غوشاه”، وكتاب رشيد الدين فضل الله الهمذاني (1247م–1318م)، بعنوان “جامع التواريخ”، وقد كتبه باللغة الفارسية. وهذا الكتاب اهتم بجمعه وتحليله بعض المستشرقين البريطانيين والفرنسيين، وأبرزهم الباحث الفرنسي إتيان كاترمير (1782–1857)، الذي نشر، لأول مرة، ما كتبه رشيد الدين عن تاريخ المغول. وقد اشتغل كاترمير، على كتاب أبو العباس تقي الدين المقريزي (1364–1442)، بعنوان “التاريخ العربي لسلاطين المماليك”، وقام المستشرق الفرنسي بترجمة أجزاء منه بين 1837 و1841، (في جُزءَين). وفي العام 1839، صحب أستاذ اللغات البريطاني البروفسور دانكن فوربس معه الى اسكتلندا ممثل “مهراجا ستارا” في الهند الى مقر الكولونيل الراحل جون بايلي في إنفرنيس، الذي كان يُشغل منصب المقيم العسكري البريطاني لدى “شركة الهند الشرقية” (بين 1807 و1815)، وذلك لتفحُّص المستندات والوثائق الموجودة في أرشيف الكولونيل بايلي خلال إقامته في الهند. وقد عثرا على مستندٍ مُهمٍّ لرشيد الدين، جزم الصاحب الهندي بأنه جُزءٌ من كتاب “جامع التواريخ” المُوَزَّعة نتفه الأصلية بين لندن، وباريس، وإسطنبول، وسانت بطرسبورغ.
يقول البروفسور الأميركي، استيفان كامولا، مؤلف كتاب “صُنْعُ التاريخ المغولي: رشيد الدين وجامع التواريخ”: “إن فترة الغزو المغولي، كانت فترة فريدة من حيث المخاض الاجتماعي، والسياسي، والفكري، في الشرق الأوسط. وفي غمار الدمار الهائل الذي رافق الغزوات الأولى، نشأت أفكارٌ جديدةٌ حول الدين والدولة. وقد ساعد رشيد الدين على تطوير تلك الأفكار الجديدة المتعلقة بالدين، كما ساعد عمله على تكوين الدول التي نشأت في ما بعد في جنوب غرب آسيا”.
الملاحظ أنه لم تظهر في البلدان العربية والإسلامية، بوادرُ اهتمامٍ جدِّي بتاريخ الحقبة المغولية في العمق، والسائد منها للعموم أخبار الدمار الذي ألحقته غزوة هولاكو بالعاصمة العباسية بغداد، كما إنه لا يجري تدريسه في المدارس والجامعات إلّاَ للراغبين في التخصص، وهم قلَّةٌ لا تُذكر. واللافت الآن في الغرب، أنَّ سَيلًا من الكتب حول الموضوع نُشر في السنوات الأخيرة، نذكر منها، على سبيل المثال، آخر ثلاثة أعمال جديَّة صدرت في بريطانيا: كتابان صدرا للمؤلف بيتر جاكسون، الأول بعنوان “المغول والعالم الإسلامي” (2017)، والثاني بعنوان “إيران بعد المغول” (2019). وكتاب نيكولاس مورتون بعنوان “العاصفة المغولية” (2022)، وكتابان للمؤلف تيموثي ماي، الأول بعنوان “فن الحرب لدى المغول” (2007)، والثاني بعنوان “الغزوات المغولية في التاريخ العالمي” (2012).
*****
إنَّ خطوة الشاه إسماعيل الأول، في التحوُّل من السُنّية الى الشيعية، ما كان لها أنْ تَتَجذَّرَ، رُغمَ فرضها بالقوة، لو بقيت مجرَّد خطوة سياسية ظرفية، فكان لا بدَّ من إرساءِ أساسٍ لمؤسسة دينية شيعية، يساهم فيها العلماء الشيعة المُهَمشون في البلاد العربية والإسلامية. واللافت أنَّ موضوعَ الديموغرافيا الشيعية خارج إيران، من أفغانستان وباكستان وأذربيجان، الى الخليج، مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان، يحظى باهتمامٍ استثنائي في الدوائر الغربية حيث تُصدر “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية”، بصورة دوريَّة، تقريرًا مُفَصَّلًا عن الموضوع، بعنوان “كتاب الحقائق”، وآخر طبعة منه قبل ثلاث سنوات تُفيدُ بأنَّ نسبةَ عدد الشيعة في لبنان باتت نحو 31 في المئة من السكان.
في بداية التحوُّل، وربما بسبب المقاومة للتشيُّع، اتخذ الصراعُ شكل “الردح”، بفرض “اللعنة” على الخلفاء الراشدين، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفَّان، قبل أن يجري ترشيد التحوُّل من خلال تشكيل جسم من العلماء المُستنيرين، ومنهم علماء من جبل عامل في لبنان، ومن أوائلهم الشيخ كمال الدين العاملي، الذي أقام في أصفهان، لقرابة في النسب له مع العلامة الشيخ الإيراني محمد باقر مجلسي، الملقب باسم “النطنزي”، (نسبة الى نطنز بالقرب من أصفهان، حيث اليوم المنشأة النووية التي قصفها الأميركيون في الحرب الأخيرة)، أو “الأصفهاني”.
لكن لم يرد ذكرٌ لعلماء جبل عامل في عهد إسماعيل الأول. العاملي الوحيد الذي رافق الشاه إسماعيل هو الطبيب السيد علي الحكيم (الذي نودي بلقب “الحكيم” لكونه طبيبًا، حيث كان الناس في لبنان، وحتى اليوم، يُطلقون على كل طبيب لقب “الحكيم”). وكان الشاه يثق بطبيبه علي الحكيم، ويستشيره أحيانًا في الأمور السياسية، لأنه لم يُعرَف عنه أنه مُتَدَيِّن. فالشيء الوحيد الذي ذُكر عنه وله علاقةٌ بأمرٍ دينيٍّ، هو مرافقته للشاه إسماعيل الى النجف الأشرف، حيث شارك في وضع أول تصميم هندسي لمرقد الإمام علي بن أبي طالب هناك. وقد استأذن علي الحكيم من الشاه أن يبقى في النجف، فأذن له بذلك، وكان أن استوطن هناك، فتأسَّست عائلة “الحكيم” وتجذَّرت في العراق إلى اليوم.
*****
السؤال الذي يُطرَحُ أحيانًا، هل كان الشاه إسماعيل نفسه سُنِّيَّاً وتشيَّع؟
المتداول بين الباحثين، أنَّ الشيخ حيدر، والد الشاه إسماعيل، كان شيعيًّا يدَّعي الانتساب الى سلالة الإمام علي بن أبي طالب. لكن في عهد حكم الشاه تَحْمَسْب الأول، ابن الشاه إسماعيل الأول، تمَّ وَضعُ نَسَبٍ مُفصَّل للعائلة (ما يُشبه وثيقة نسب صدام حسين التي استصدرتها ابنته رغد من “نقابة الأشراف” بعد سقوط نظامه في الغزو الأميركي وإعدامه، وهي منشورة حرفيًا، كما وردت في وثيقة رسمية من نقابة الأشراف” في لندن، في كتابي بعنوان “العراقي الغامض”، الذي سوف يصدر قريبًا في بيروت عن “دار النهار”).
لكنَّ الشكلَ المؤسّسي، للنظام الديني الشيعي في إيران، لم يبدأ بصورةٍ هيكلية فاعلة، وقادرة على الانتشار إلّاَ بعد أكثر من قرن على وفاة الشاه إسماعيل، على يد العلامة محمد باقر مجلسي، ومعه كمال الدين العاملي، حيث بدأ كبار علماء الشيعة من الإيرانيين، وشيعة البلدان الواقعة تحت السيطرة العثمانية، أو اللاجئين من طالبي الأمان في إيران بسببٍ من الاضطهاد العثماني، وخصوصًا من علماء جبل عامل في لبنان، ينشرون التعاليم والتقاليد الشيعية المُتوارَثة خارج إيران. فكان كلُّ علَّامة منهم يقوم بتدريس الفقه الشيعي لعدد من طلاَّب العلم، بحيث تكوَّنَ في السنة الأولى من هذه العملية جسمٌ من رجال الدين العلماء يبلغ نحو 180 علّامة، على يد 21 أستاذًا، ليصبحوا بدورهم أساتذة لتعليم أجيال جديدة، فراح هذا الجسم الديني يتسع سنة بعد سنة. ومن خلال هذه العملية، الهادفة الى نشر العلم (الديني الشيعي) على أوسع نطاق، تكوَّنت فكرة إيران كملاذٍ آمنٍ للشيعة في كلِّ مكان، أو بلغة اليوم “بيئة حاضنة”، أطلق عليها بعضهم اسم “الوطن الشيعي”.
كان العلّامة محمد باقر مجلسي، حسب بعض المصادر، يوقِّع “الإجازات” العلمية لطلّاَبه، بنقل المعرفة، باسم “الأصفهاني، النطنزي، العاملي”.
*****
لكنَّ التشيُّع الإيراني، مرَّ بمراحل صعبة، في عهوده الأولى. خصوصًا بعد وفاة الشاه تَحْمَسْب الأول وصعود ابنه إسماعيل الثاني إلى العرش، الذي حكم لسنة واحدة فقط (1576–1577)، ارتد خلالها عن التشيُّع، لأنَّه كان مُتلازِمًا مع الصوفيَّة السُنيَّة، وقد مات مسمومًا. وهو الشاه الثالث من العائلة الصفوية، لكنه لم يكن على وفاق مع والده الذي أمر بسجنه، فقضى محبوسًا نحو ربع قرن، كان في مرحلة منها مُقيَّدًا بالسلاسل!
لم يكن الجسم العلمائي الشيعي، المتكوِّن حديثًا في ذلك الوقت، ليتحمّل مثل تلك الهزّة الارتدادية التي أطلقها الشاه إسماعيل الثاني، ولذلك أخذت المؤسسة الدينية الشيعية تتجه الى التطرُّف في المحافظة، ما انعكس على عملية انتشار التعليم المشار إليها، في اتجاهين: الطلاق التام بين الشيعية والصوفيَّة، وخنق الفلسفة في التعليم الديني الشيعي.
إنَّ هذَين الاتجاهَين، كان لهما تأثيرٌ سلبيٌّ بالغ الأهمية على التطوُّر المُجتمعي في إيران خلال القرون التالية، من حيث انتشار الأفكار الخرافية، ومعها ممارسات وعادات لم تكن مألوفة من قبل. وكانت تلك الممارسات تلقى تشجيعًا من المؤسسة الدينية، إن لم تكن هي التي أطلقتها، بهدف رصِّ الصفوف، والحشد، بما يُشبه العسكرة، مع تزايُد المخاوف جرَّاء تعاظم القوة العثمانية، واتساع مدى رقعتها وفتوحاتها، في كل الاتجاهات. وهذا الوضع يشبه الى حدٍّ ما الحالة الراهنة في الجمهورية الإسلامية، التي انعكست أيضًا على المجتمعات الشيعية في بعض الدول العربية، وبشكلٍ خاص في لبنان، حيث اتخذ هذا التحوُّل لنفسه صفة “البيئة الحاضنة”، التي تُشكّلُ المظهر الأوضح لفكرة “الوطن الشيعي”، التي ظهرت في إيران، خلال المرحلة الصفويَّة، ولو بمفهومٍ غير واضحٍ، كما هو اليوم، في إطار جدليَّة “الاستقواء والتقوية”. ما يعني استقواء الدولة الشيعية الأم بالبيئات الشيعية الخارجية، المُتَحَوِّلة الى كتل مجتمعية مُتراصَّة، وإمدادها بوسائل القوة من الدولة القائدة.
يمكن تصريف الفارق بين الحالتين، التشيُّع الأول (في عهد الدولة الصفوية)، والتشيُّع الثاني (في عهد الثورة الخمينية والجمهورية الإسلامية)، بأنَّ الحالة الأولى قامت على نشر العلم، كما تقدم، وتقوم الحالة الراهنة الثانية على نشر القوة بالدرجة الأولى، خصوصًا في لبنان، بسبب العامل الجغرافي لكون الكتلة الشيعية الأكبر هناك، على تماسٍّ مباشرٍ مع الدولة الصهيونية المسلحة الى أسنانها في فلسطين المحتلة، والتي قامت بالقوة العسكرية، والدعم الخارجي، وما زالت تخوض الحروب في كلِّ الاتجاهات منذ تأسيسها قبل ثمانين سنة.
لذا، فإنَّ وَضعِيَّةَ الحشد والتعبئة، ومظاهر التنظيم العسكري، وشبه العسكري في المجتمع المدني، هي العمود الفقري للبيئة الحاضنة، التي هي صورة مصَّغرة عن مفهوم “الوطن الشيعي”، بحيث يبدو الجسم الشيعي مُنفصلًا عن المجتمع الأوسع، في الثقافة، وفي العادات، وفي العلاقات الاجتماعية، التي تجعل من كلٍّ منهما على أنه “الآخر” بالنسبة إليه. وهذه الوضعية قائمة في الدولة الأم، ولو أنها صامتة، وتنفجر بين حينٍ وآخر، لكونها عماد “الوطن الشيعي”، ولكونها في حالةِ حشدٍ دائم، يهدف الى رصِّ الصفوف، بسببٍ من الأخطار الخارجية أيضًا. فالمجتمعات الشيعية، خارج إيران، لم تَعُد تختلفُ كثيرًا عن إيران في سماتها العامة، الثقافية، وفي عاداتها، وعلاقاتها الاجتماعية، التي أصبحت تقاليد مميَّزة، ومُميِّزة!
*****
مما لا شك فيه، أنَّ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بقيادة الإمام روح الله الخميني، شكلت افتراقًا حاسمًا ليس فقط عن إيران الملكية السابقة، إنما أيضًا عن الشيعية الصفوية، التي بقيت مُعرَّضة للانتكاس، وقد انتكست فعليًا في عهد العائلة البهلوية، (الشاه رضا محمد بهلوي، وابنه الشاه محمد رضا بهلوي)، عندما مالت إلى العلمانية وإلى الغرب، والأهم من ذلك إلى تركيا الكمالية وريثة السلطنة العثمانية.
فالملاحظ خلال العقود الأخيرة، بعد قيام الجمهورية الإسلامية، (في العام 1979)، اتساع مبادئ السلوك والممارسة الاجتماعية الخاصَّة في المجتمعات الشيعية المُتأطِّرة تعبويًّا في إطار “الوطن الشيعي”. فلم يسبق للمجتمعات الشيعية في القرون الماضية، أن مارست طقوسَ “الأحزان الجماعية”، كمظاهرةٍ سياسية من أجل الحشد ورَصِّ الصفوف، كما جرى في العقود الأخيرة.
كذلك ليس في الماضي السحيق، ما يدلُّ على أنَّ مثلَ هذه الحالة الجماعية، للمجتمع بأكمله، قامت من قبل في المجتمعات الشيعية. حتى مسألة استشهاد الإمام الحسين بن علي في موقعة كربلاء، لم يكن يجري تظهيرها في السابق على النحو التعبوي الراهن. بل هي، حتى في كتب التاريخ، لم تأخذ الطابع الاستثنائي، الذي يسود اليوم من خلال “مظاهرة الأحزان” السنوية بمناسبة عاشوراء، برفع الرمز الى مستوى الأسطورة.
ذلك أنَّ بعضَ المؤرخين تناولها من زاويةٍ سياسية بحت، في إطار “الصراع على السلطة”، وليس في إطار جدلية “الشرعية واللاشرعية”، التي انطلقت تاليًا، وربما لاعتباراتٍ سياسية أيضًا. فالمستشرق الألماني يوليوس فيلهاوزن، في كتابه “تاريخ الدولة العربية”، ينظر الى الأمر من زاوية “الدولة القائمة” التي، من الطبيعي، أن تقومَ بقمعِ أيِّ تمرُّدٍ ضدها، بصرف النظر، عن أيِّ ذريعة أو دعوى، أو عن أيِّ حقٍّ أو باطل.
على أنَّ المُمَيّزات المجتمعية في “الوطن الشيعي”، أخذت مع التوسُّعِ الإيديولوجي، واتساع دائرة الأخطار المُحدِقة، تتوسَّعُ هي الأخرى لتشمل العادات، وطرق اللباس، وكيفية التصرُّف في كلِّ شؤون الحياة للأفراد وللمجتمع أيضًا. فمظاهر الطلاق بين الشيعية والصوفية، التي انطلقت في إيران الصفوية، تتمظهر الآن في الدول والمجتمعات المشتركة، حيث تبرز بين حين وآخر بوادر طلاق بين الجسم الشيعي، والمكونات الأخرى الشريكة في الدولة الواحدة، مثل لبنان، والعراق، وغيرهما.
في معظم الحالات، العربية والإسلامية (مثل باكستان)، كلما ظهرت ملامح الطلاق بين الشيعية والمكونات المجتمعية الأخرى في الدولة الواحدة، تحوَّلَ مفهومُ “الوطن الشيعي” إلى حالةٍ من التباعُد، بحيث يأخذُ ذلك المفهومُ، أو يُعطى، شكل الانتماء الدائم للشيعة في كلِّ مكان الى المركز الإيراني، لكونه أساس هذا التحوُّل، ثقافيًا، وعقائديًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا.
*****
في ورقةٍ تَقَدَّمَ بها يوم 8 شباط (فبراير) 2023، البروفسور الصيني ليو شونغ مين، في معهد دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، قال فيها: “إنَّ إيران تتمتَّعُ بوضعٍ فريدٍ من نوعه لكونها تُمثّلُ حالةً ديبلوماسية مختلطة، من حيث إنها دولة رئيسية قائمة في الشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته، هي لاعب بأدوات من خارج الدولة (أو اللادولة)، من خلال التنظيمات الشيعية الخارجية”.
وقال البروفسور ليو: ” في النظرية الطائفية، كجُزءٍ من نظرية تصدير الثورة، يجري التركيز على العناصر الإيديولوجية، وسياسات الهويَّة، مع تجاهل وجود مصالح وطنية للجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم على استراتيجية عقلانية”.
تناول الباحث الصيني أيضًا مسألة الرعاية الإيرانية لوكلائها في الخارج، من أجل الفَهمِ الصحيح لتعقيدات الديبلوماسية الإيرانية، مُفضِّلًا استخدام “نظرية العلاقة بين الراعي والوكيل”، كإطارٍ سليمٍ للبحث، بجعل الوكلاء الموضوعَ الأساسيَّ للتحليل المقارن لعلاقات إيران مع كل منظمة من المنظمات الشيعية السياسية في الشرق الأوسط.
في هذا الإطار المقارن وضع الباحث الصيني “حزب الله” اللبناني في مرتبةٍ أعلى في علاقته بإيران، من حيث إنه ليس مجرَّدَ وكيل للراعي الإيراني، بل وصفه بأنه “شريكٌ استراتيجي” له. واللافت في هذا التحليل، أنه ركّزَ على الوضع اللبناني بأنه عنصرٌ رئيسيٌّ في تمكين “حزب الله” من بلوغ “مرتبة الشراكة الاستراتيجية”. ربما قصد بذلك أنَّ الوضعَ اللبناني المتشرذم، يمثل “حالة اللادولة”، وهذه نقطة مهمة جديرة بمزيدٍ من البحث والتدقيق، لتقرير ما إذا كانت “حالة اللادولة” في لبنان هي الحالة القائمة قبل “حزب الله”، ما سمح له بأن يبلغ مرتبة رفيعة في الاستراتيجية الإيرانية، أم أنَّ توسُّعَه وتمدُّدَه، بفعل الصراع مع إسرائيل، هو الذي دفع الوضع اللبناني إلى “حالة اللادولة”، كما يدَّعي خصومه في هذه الأيام، للتأكيد بأنَّ وجوده المسلّح هو العامل المانع لقيام الدولة في لبنان!
*****
يُشيرُ التحليلُ الصيني المذكور، إلى أنَّ العلاقة المُمَيَّزة بين إيران و”حزب الله” في لبنان، تشكّلُ معيارًا لقياس علاقة الجمهورية الإسلامية مع وكلائها، لأنها قائمة على “التوافق الإيديولوجي”، الأصلب عودًا من أيِّ معيارٍ آخر، لتحديد مواصفات الشركاء المحتملين. وقد أثبت هذا المعيار جدارته وجدواه في أكثر من ميدانٍ إقليمي في وقتٍ واحد، بالنسبة إلى الأهداف الإيرانية، بحيث “أصبح حزب الله بمنزلة دولة”، خصوصًا من خلال دوره في سوريا أيام حكم بشار الأسد.
هناك في هذا التحليل أسبابٌ عدة لصعود “حزب الله” في لبنان إلى “مرتبةٍ عُليا ومُتقدِّمة” على غيرها، جعلته في موقع الشريك، “المسموح له أن يلعبَ ضمن هامشٍ أوسع من الاستقلال الذاتي”، منها: التماسك الإيديولوجي، وضعف سلطة الدولة اللبنانية، والتباعد الطائفي بين المكوّنات اللبنانية، والعدوانية الإسرائيلية المُزمِنة.
يخلص البروفسور الصيني ليو في مطالعته إلى القول: “في الجوهر، أتاح دعم إيران ل”حزب الله”، ضمان وجود تنظيم قوي، مُوالٍ وموثوق، له نفوذٌ طاغٍ في بلدٍ حسَّاس مثل لبنان. ومن الناحية الرمزية، فإنَّ نموَّ “حزب الله”، يمثِّل الإنجاز الإيراني الأكبر لفكرة تصدير الثورة. كما إنَّ تعاظُمَ نفوذ الحزب في لبنان، عزَّزَ بدوره، سمعة إيران في الإقليم، وفوق ذلك، أمدَّ المُنَظِّرين المُتَطَرِّفين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأسباب النجاح الدائم ضد معارضيهم المعروفين باسم الإصلاحيين”!
على أنَّ هذه المقاربة الصينية، على وجاهتها، تبقى غير وافية بعد سقوط النظام السوري السابق، وتحوُّلَ دور سوريا المفصلي من محورٍ إلى محورٍ مُضاد. ذلك أنَّ هذا التحوُّلَ حشر أطرافَ المحور الإيراني جميعًا، بما في ذلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في “عنق الزجاجة”، فضاقت به المخارج أو انعدمت للمدى المنظور.
الحرب الإسرائيلية أدخلت “حزب الله” في عنق الزجاجة، فأدخل معه “شبه الدولة اللبنانية” على النطاق المحلي، وسقوط النظام السوري، حشر المحور الإيراني فأدخله في عنق الزجاجة على النطاق الإقليمي، والضربات الأميركية للمشروع النووي الإيراني، أدخلت إيران في عنق الزجاجة على النطاق الدولي.
هذا الضيق في المخارج، ينعكسُ الآن سلبًا على الأطراف المضادة أيضًا، لأنه في الوقت ذاته ضيَّق الوقت على إسرائيل والغرب، وضيَّع الوقت على الدولة اللبنانية في عهدها الجديد.
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.