رُؤيةٌ على الرِمال: كَيفَ تَهتَزُّ إمبراطوريةُ محمد بن سلمان تحتَ ثِقلِ أحلامِها العملاقة

في زمن الوعود التريليونية والمشاريع الخيالية، يكشفُ الواقعُ السعودي عن فجوةٍ تتسع بين الحلم والتنفيذ. وما بين طموحٍ بلا حدود وموارد تتآكل، تتشكّلُ ملامحُ أزمة صامتة ينبغي معالجتها قبل فوات الأوان.

الرئيس دونالد ترامب: المالُ لديه أعزُّ من البنين وكل القِيَم.

فريدريك ديكناتيل*

برزت خلال الزيارة اللافتة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن الأسبوع الماضي كلمتان اختصر بهما الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفه من أكثر الأسئلة حساسية: “الأمور تحدث”. بهذه الكلمات صَدَّ ترامب سؤالًا وجّهته مراسلة شبكة “آي بي سي” (ABC) الأميركية حول مسؤولية بن سلمان في مقتل الصحافي جمال خاشقجي قبل سبعة أعوام، مُتجاهِلًا ما تؤكده تقارير الاستخبارات الأميركية من أنَّ ولي العهد لم يوافق على العملية فحسب، بل أشرف أيضًا على إرسال الفريق الذي نفّذ القتل داخل القنصلية السعودية في اسطنبول.

لكن ما أرادَ ترامب ترسيخه في الذاكرة ليس الجدلُ الذي يُلاحِقُ ضيفه، بل الرقم الضخم الذي علّقَ عليه آماله: تريليون دولار. هذا هو حجم الاستثمارات التي تباهى الرئيس الأميركي بأنَّ ولي العهد السعودي سيضخّها في أميركا تحت رئاسته، في إطارِ زيارةٍ شملت عشاءً رسميًا جمعه بكبار رموز التكنولوجيا والأعمال.

ولا يبدو أنَّ دقّةَ هذا الرقم كانت مَوضِعَ اهتمامٍ لدى ترامب؛ فالأمير نفسه ذكره بتحفّظ، وجاء —على الأرجح— بتشجيعٍ مباشر من الرئيس الأميركي. كما إنَّ الإشارة إليه بدت امتدادًا لسلسلةِ تعهّداتٍ سعودية مضخّمة، تصل إلى 600 مليار دولار، كانت واشنطن قد أعلنت عنها خلال زيارة ترامب إلى الرياض في أيار (مايو) الفائت، وهي تعهّدات وُصِفت حينها بأنها “مذكرات تفاهم غير مُلزِمة أو استثمارات سابقة أعيد عرضها في ثوب جديد”، وفق تحليل الباحث كريستيان كوتس أولريشسن من “تشاتام هاوس”. وإضافةً إلى كلِّ ذلك، لم يوضح ولي العهد الإطار الزمني لاستثمارِ مبلغٍ يُساوي تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي السنوي للمملكة.

لا يُشغِلُ بالُ ترامب كثيرًا مدى واقعية الأرقام التي يُرَوِّجُ لها؛ المهم بالنسبة إليه هو القدرة على تكرارِ رَقمٍ جديد وإضافته إلى قائمة التريليونات الافتراضية التي يُفاخِرُ بأنها استثماراتٌ أجنبية تتدفّقُ إلى الولايات المتحدة. غالبية هذه الأرقام ليست سوى تعهّداتٍ فضفاضة أو إعادة تدوير لأرقام التجارة الثنائية التي يقدّمها للرأي العام على أنها “استثماراتٌ” حديثة.

أما بالنسبة إلى بن سلمان، فحتى لو كان رقم التريليون دولار لا يتجاوز كونه مناورة علاقات عامة مُوَجَّهة أساسًا لمُستَمِعٍ واحد في البيت الأبيض، فإنَّ إطلاقَ وعدٍ بهذا الحجم في هذا التوقيت يظلُّ خطوةً لافتة. فالمملكة، رُغمَ ثروتها النفطية الضخمة، تمرّ بمرحلةٍ دقيقة؛ فحملةُ الإنفاقِ الواسعة التي قادها ولي العهد خلال السنوات الماضية لم تُفلِح بَعد في تحقيق التحوُّل الاقتصادي الموعود. فقد وُجِّهَت مليارات الدولارات إلى سلسلةٍ طويلة من المشاريع العملاقة التي رُوِّجَ لها بوصفها قاطرة التنمية الجديدة، لكنها تبدو حتى قبل اكتمالها أقرب إلى مبانٍ فائضة عن الحاجة منها إلى مُحرِّكاتٍ اقتصادية حقيقية. إنها تَعكِسُ نمطًا من الاقتصاد السياسي القائم على دوراتٍ مُتكرِّرة من الإخفاق التنموي، كُلُّها مُمَوّلة بفضل عائدات النفط، رُغمَ السردية الشائعة التي تحتفي بابن سلمان باعتباره قد حسم رهانه على تحديث المملكة.

ويبرُزُ في مقدّمة هذه الإخفاقات مشروع “نيوم”، الذي تحوّلَ إلى رمزٍ لطموحٍ بلا ضفاف. فقد اعتمد مُطَوِّرو المشروع —بإشرافٍ مباشر من ولي العهد— على جيوشٍ من الاستشاريين والمهندسين المعماريين أصحاب الأجور الخيالية، لصياغةِ رؤيةٍ لمدينةٍ مستقبلية على ساحل البحر الأحمر شمال المملكة. وتُصَوِّرُ المُخطّطات أن يعيش تسعة ملايين شخص داخل هيكلٍ زجاجي معدني هائل يُعرف باسم “ذا لاين” أو “مشروع الخط”، يمتد لمسافة 170 كيلومترًا في خطٍّ مُستقيم، بارتفاعٍ يتجاوز مبنى “إمباير ستايت” في نيويورك. وتبدو هذه الرؤية أقرب إلى لوحاتٍ مُستَوحاة من عالم أبطال “مارفل” (Marvel) الخارقين —وهو ما لا يبدو مصادفة، بالنظر إلى وَلَعِ بن سلمان المُعلَن بذلك العالم الخيالي.

مشروع نيوم، ومعه “ذا لاين”، يُمثّلان جوهرَ رؤية ولي العهد — وهذا تحديدًا ما يجعل تعثّرهما أكثر دلالة. فعلى الرُغم من ضخِّ نحو 50 مليار دولار حتى الآن في المشروعَين، لا يظهر في الموقع سوى مساحاتٍ شاسعة من الصحراء التي مزّقتها أعمالُ الحفر، بما في ذلك أنفاقٌ تحت جبالٍ صحراوية يُفتَرَضُ أنها ستَحتَضِنُ خطّ قطارٍ فائق السرعة قد لا يرى النور أصلًا. حتى الجبل الذي جرى تفجيره لتهيئة مساحةٍ لمطارٍ دولي فاخر وُصف بأنه قادرٌ على منافسة مطارَي دبي وهيثرو، يبدو اليوم مُنفَصِلًا عن أيِّ واقعٍ تنفيذي، وسطَ شكوكٍ واسعة في إمكانية بنائه.

وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، كان المُخطّطُ الأصلي يقضي بإنجاز 16 كيلومترًا من “ذا لاين” بحلول العام 2030 — وهو ما يعادل بناء ثلاثة أضعاف مجمل مساحة المكاتب في وسط “مانهاتن” في نيويورك خلال عقد واحد. لكنَّ المشروعَ تقلّصَ الآن إلى حدٍّ كبير، بعد أن اصطدم بعوائق وصفتها “فايننشال تايمز” بأنها “قوانين الفيزياء والمالية”.

لهذا لم يكن مفاجئًا أن تُحذِّرَ وكالة “فيتش” الائتمانية الشهر الماضي من مخاطر مالية تتهدّدُ الاقتصاد السعودي نتيجة وصول أسعار النفط إلى مستويات أقل، بالتزامن مع الإنفاق المُفرِط على مشاريع مثل “نيوم”. فكلُّ ركنٍ في هذا المشروع الضخم يبدو مُبالَغًا فيه من حيث التكلفة، بدءًا من التصاميم وصولًا إلى المواد، إذ كان “ذا لاين” وحده سيحتاج إلى إمداداتٍ شبه دائمة من الخرسانة والإسمنت تفوق قدرة العالم على توفيرها بشكلٍ مُستَمِر.

ورُغمَ أنَّ السعودية تملك مواردَ مالية هائلة، فإنَّ قدرة ولي العهد على تمويل هذه المشاريع ليست بلا حدود. ف”نيوم” وغيرها من المشاريع العملاقة التي حوّلت المملكة إلى واحد من أكبر مواقع البناء على وجه الأرض، يجري تمويلها مباشرةً من صندوق الاستثمارات العامة — صندوق الثروة السيادية الذي يقترب حجمه من تريليون دولار، ويخضع لإشراف بن سلمان شخصيًا. غيرَ أنَّ هذا الصندوق هو نفسه الذراع الرئيسة للاستثمار السعودي الخارجي، ويواجه اليوم —وفق فايننشال تايمز— “ضغوطًا متصاعدة لتحقيق عوائد بعد سنواتٍ من الإنفاق المُتَهوِّر”.

في ظلِّ هذا الوضع، كما تشير الباحثة إيلين والد، من مركز الطاقة العالمي التابع للمجلس الأطلسي، “لم يَعُد السعوديون في موقعٍ يسمح لهم بإنفاق المال على أيِّ شيء”. وتضيف لصحيفة “وول ستريت جورنال” أنه حتى في حال التزام المملكة بالاستثمار داخل الولايات المتحدة —باستثناء مشتريات الأسلحة— فلا شيءَ يضمن وصول تلك الأموال فعلًا.

كلُّ هذا يُعزّزُ الانطباعَ بأنَّ “ورقة الحقائق” (Fact Sheet) المليئة بالأرقام التي نشرها البيت الأبيض حول زيارة ولي العهد ليست سوى جُزءٍ من الدعاية الترامبية المُعتادة، أكثر مما هي تعبيرٌ عن واقعٍ اقتصاديٍّ قابلٍ للتحقُّق.

بعدَ أيامٍ قليلة من انتهاء زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن، سارعت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى نشرِ تقريرٍ يكشفُ ما يدورُ في كواليس الرياض و”وول ستريت”: صندوق الاستثمارات العامة —الأداةُ المالية التي تعتمدُ عليها المملكة في تنفيذ تعهّداتها الخارجية الطموحة— يُواجِهُ نقصًا حادًا في السيولة المُخَصَّصة للاستثماراتِ الجديدة. وتُضيفُ الصحيفة أنَّ الحكومة السعودية نفسها تُعاني من ارتفاعِ العجزِ في الموازنة، وأنها باتت تعتمِدُ على الاقتراض لتأمينِ التمويل اللازم للوعود المحلّية التي يُطلِقُها ولي العهد.

وفي واشنطن، كما في دوائر أخرى حول العالم، تتكرّسُ رواية تصف الأمير محمد بن سلمان بأنه إصلاحي جريء، يَميلُ إلى “التحرُّك السريع والتغيير”، ويحملُ معه روحَ وادي السيليكون في كاليفورنيا إلى أروقة الحكم. فعهدُهُ شهدَ إضعافًا للقيود الدينية التقليدية، وفتحَ البابَ أمام قيادة النساء للسيارات، وإطلاق دور السينما ومساحات ثقافية جديدة وفّرت لشباب المملكة ما كانوا يبحثون عنه خارج حدود البلد.

لكن خلف هذه الصورة التحديثية اللامعة والمُشرِقة يَكمُنُ واقعٌ اقتصادي مُقلِق، يتجسّدُ بوضوحٍ في المشاريع العملاقة المُتعثّرة التي تمتدُّ من “نيوم” إلى “ذا لاين”. فهذه المبادرات، رُغمَ ضجيجها وتسويقها بوصفها بوابةً نحو المستقبل، تبدو أقرب إلى تَجسيدٍ لفخِّ الاقتصاد السياسي السعودي: سوءُ تَوجيهٍ للموارد، وإغراقٌ للأموال العامة في مشروعاتٍ ضخمة يغلبُ عليها الطابع العقاري المضاربي، بدل الاستثمار في الخدمات الأساسية —من التعليم والصحة إلى البنية التحتية— وهي المجالات التي تمسّ حياة معظم السعوديين.

إنه ليس نمطًا سعوديًا مُنفَرِدًا، بل إعادةُ إنتاجٍ لدوّامةٍ يعرفها جُزءٌ كبير من الشرق الأوسط: تنميةٌ مظهرية من دون قاعدة اجتماعية صلبة، ومشروعاتٌ كبرى بلا عائدٍ حقيقي.

لم تكن الأجندة التنموية التي روّج لها بن سلمان —وفي مقدمتها رؤية 2030— مجرّدَ مُخَطَّطٍ اقتصادي يستهدفُ فكَّ الارتباطِ عن النفط، بقدر ما كانت أيضًا أداةً لإعادة هندسة السلطة داخل المملكة. فالرؤية، بما تحمله من مشاريع عملاقة ووَعدٍ بـ”تحويل السعودية”، أسّسَت تدريجًا لنظامٍ شخصاني يتمحوَرُ حولَ ولي العهد نفسه، على نحوٍ لم يفعله ملوك السعودية السابقون الذين حافظوا على توازُنٍ داخل المؤسّسة الملكية وعلى توزيعٍ أوسع للسلطة داخل العائلة الحاكمة.

لكن رؤية 2030 كانت، في جانبٍ آخر، رهانًا عقاريًا ضخمًا. فكما يشير كولين باورز، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “نوريا”، فإنَّ الرؤية تسعى في جوهرها إلى تحويل المملكة إلى “إمبراطوريةٍ عقارية” جديدة. وهذا هو المُحرّكُ الحقيقي لمشروع “نيوم” وسائر مشاريع بن سلمان: مُضارباتٌ عمرانية واسعة تَستَلهِمُ تجربة دبي وبقية الإمارات — لشريك والمنافس في الوقت نفسه— والتي يُنظَرُ إليها كأنموذجٍ لاقتصادٍ قائمٍ على العقار والخدمات الفاخرة.

وعندما يتحدث ولي العهد عن جعل الرياض “دبي الجديدة”، فالمقصود ليس فقط مدينة أكثر انفتاحًا أو حداثة، بل اقتصادٌ سعودي جديد يتحوّلُ من الاعتماد على النفط إلى الاعتماد على العقارات الضخمة كمُحرّكٍ للنمو، تمامًا كما فعلت إمارات الخليج خلال العقود الماضية.

وليس من المُستغرَب أن تجدَ أعمالُ دونالد ترامب التجارية لنفسها موطئ قدم داخل هذه الطفرة العقارية التي يُطلقها بن سلمان. فثمة خطط لبناء برج ترامب في جدة، إلى جانب مشروعَين آخرين في الرياض، فضلًا عن مفاوضات جارية حولَ تطويرِ عقارٍ ضخم في الدرعية — المشروع الحكومي الفاخر الذي يُفتَرَضُ أن يُحَوِّلَ المدينة التاريخية إلى وجهةٍ سياحية عالمية من خلال سلسلة فنادق فاخرة، بتكلفة تصل إلى 63 مليار دولار. ومجلس إدارة مشروع الدرعية يرأسه الأمير محمد بن سلمان، فيما يتولّى إدارته التنفيذية جيري إنزيريلو، الصديق المُقرَّب من ترامب.

غير أنَّ سلسلةَ الإخفاقات التي تطالُ المشاريع العملاقة، والاستنزاف المتسارع لصندوق الثروة السيادية، والتمدّد غير المحسوب لمخطّطاتٍ عقارية قائمة على المحسوبية والمُضاربات، لا تُقرِّبُ المملكة من “الاقتصاد المزدهر” الذي يَعدُ به ولي العهد السعودي — وخصوصًا لجمهور الشباب الذي يُشَكِّلُ غالبية السكان تحت سن الثلاثين. فبحسب الباحث كولين باورز، تُنتِجُ “رؤية 2030” مزيدًا من الاستقطاب في توزيع الثروة داخلَ بلدٍ يُعَدُّ أصلًا من بين الأكثر تفاوتًا في الدخل على مستوى العالم. ويضيف: “قد يكفي مزج الاحتفالات بالقمع للحفاظ على استقرارٍ سياسي ظاهري، لكن مقدارًا كبيرًا من الألم والاحتقان والحرمان يتراكم تحت السطح”.

وبدلاً من الإشراف على طفرةٍ تنموية طال انتظارها، يبدو أن الأمير محمد بن سلمان قد يُسَجّلُ أكبرَ هدرٍ لموارد الدولة منذ عقود. وإذا تحققت هذه المخاوف، فقد يجد ولي العهد نفسه أمام خزائن مُستَنزَفة عندما يحينُ موعدُ الوفاءِ بوعوده لترامب باستثماراتٍ ضخمة داخل الولايات المتحدة — وعودٌ قد تكون أثقل بكثير من قدرة المملكة على تحمّلها.

  • فريدريك ديكناتيل هو صحافي وزميل في “سينشري إنترناشونال” (Century International)، حيث يكتب عن شؤون الشرق الأوسط. وهو يحرر مجلة جديدة اسمها “المدن المخفية” (Hidden Cities).
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى