خُلُودُ لبنان: أَصداءُ آثاره
هنري زغيب*
بالأَناقة الأَرقى، مادَّةً وصُوَرًا وإِخراجًا وطباعةً وتجليدًا، أَمسكتُ بين كَفَّيَّ كتاب “أَصداء الخلود” (240 صفحة حجمًا موسوعيًّا كبيرًا)، وسطَع منه أَمامي وجهُ لبنان، فتساءلْتُ: هل مكانُهُ مع غيره على رفٍّ في مكتبتي؟ أَم أَركُنُه في صالون بيتي لؤلؤةً فريدةً بين مجموعة أَعمال فنية: منحوتات ولوحات؟
يندهُني عنوانُه الثَانويُّ: “حفاظًا على مواقع التُراث اللبناني”، وغلافُهُ بالستة الأَعمدة: بعلبكًا بريشة ماريِّا ماغْرو. أَفتحُهُ بتُؤَدة: “منشورات جمعية الأَرز الأَخضر-لبنان”. وفي إِهداء رئيسة الجمعية الكاتبة باسكال الشويري سعد: “إِلى حرَّاس الذاكرةِ وتراثِ لبنان، الأَبطال العاملين في الظلِّ بصمت. إِخلاصُكم الراسخ يحفَظ تاريخنا ويحافظ على ثقافتنا. هذا الكتابُ بادرةُ وفاءٍ لجهودكم العالية وتراثكم الحيّ أَبدًا”.
عند جبين الكتاب، أَقوالٌ تُشرِّفنا: “بيروت لؤْلُؤَةٌ على خصر المتوسط، متواضعةٌ إِنما واعدةٌ بالكثير” (لامرتين)، “جبيل مَهدُ فينيقيا، معبَد يجتمع فيه التاريخ بالأُسطورة” (رينان)، “زرتُ صُور في فينيقيا، فوجدْتُ في المعبد عَمودًا كبيرًا من ذهب، وآخرَ من زُمرُّد، يتلأْلآن في العتمة” (هيرودوت – القرن الخامس ق.م.). وفي المعاصرين شهاداتٌ نبيلة ممَّن يعملون في الحفاظ على الإِرث: السفير مصطفى أَديب، المهندس المعمار النقيب جاد تابت، سركيس خوري المدير العام الآثار، الضابط اللبناني يوسف حيدر. ثم تتوالى في الكتاب المواقعُ الأَثرية الأَربعة والثلاثون (خمسة منها على “لائحة الأُونسكو للتراث العالمي”): تسعة في سهل البقاع، ستة عشر في الجنوب، اثنان في بيروت الكبرى، ستة في جبل لبنان، واحد في الشمال.
جمالُ هذا الكتاب، عدا نصوصه المشغولة بدقَّةٍ كما بصنَّارة صوف واحدة، هو في سطوع صُوَره التي تُشتهى الزيارة مع كل واحدة منها، لأَنَّ فيها فضاءً وصفاءً ونقاءً، بعدساتٍ احترافية عالية من: أَلفرد موسى، إِدي شويري، فادية أَحمد، عصمت محمصاني، مارك شلهوب، ندى كرم، نديم نصار، روجيه مكرزل.
سوى أَنَّ الكتابَ لا يكتفي بسرد الصُوَر تراكُمًا، بل يتعمَّق أَكثر – وهنا فَرادتُه – بمفهوم حراسة التراث. فهو ليس مجرد كاتالوغ صُوَرٍ للمواقع الأَثرية، وإِنما هو “إِنقاذُ الذاكرة”. فـ”التراث لا يُختصَر بالحجارة والمعالم الأَثرية والمخطوطات، بل بمضمون كلِّ أَثَر: في كل موقع أَثري خيوطٌ من الذاكرة تصل ما بين الأَجيال المتعاقبة، ونسيجٌ ثقافيٌّ يوحِّد بين المواطنين، وكتاباتٌ تُذكِّر الإِنسانيةَ بماضيها المشترك”. ففي لبنان “أَرضٌ متتاليةُ الطبقات: فينيقية، رومانية، عربية، عثمانية، فرنسية، لذا التراثُ فيه مرادِفٌ ديمومةَ البقاء. في كل حبَّة فسيفساء، في كل حجر مرميّ، في كل معبد مهجور، شهادةٌ على البقاء رغم ما شهدَت أَرضنا حروبًا وغزواتٍ وهجراتٍ وإِهمالًا”.
هذا الأَعلاه بعضُ ما يرفد عنوانَ الكتاب “أَصداء الخلود”. فلبنان عميقٌ في جذور الخلود. إِنه “كتاب مفتوح شكَّلَه الموجُ والريح والزمن. صخورُهُ وغاباتُه وقُراه تَروي حكايةَ شعبٍ عرفَ، مع تَوالي الأَجيال والقرون، كيف يَنهض من كبَواته ولا يتخلَّى مرةً عن الجمال”.
هكذا يُمكنُ القولُ، جهارًا وفي ثقة راسخة، إِنَّ التراث الثقافي اللبناني نابضٌ في الضمير الوطني. إِنه “روح الأُمَّة، الروح التي تَمنحُ شعبَه شعورَ الاستمرارية والهوية والاعتزاز. فهياكل بعلبك والكنائس في المدن العريقة كبيروت وطرابلس، ليست مجرَّدَ وُجْهةٍ سياحيةٍ بل رموزٌ مقدَّسةٌ لعُمْق لبنان التاريخ، ورابطٌ خالد مع الأَجداد، وذاكرةٌ جَماعية مشتركة لِمسار لبنان الثقافي”. بذا لا يعود تراث لبنان عنصرَ هوية تاريخية وثقافية وحسْب، بل هو “ركنٌ أَوَّلُ في المثابرة الوطنية والسياسية، ما يجعل التراث أَكثر من انعكاس الماضي: إِنه طريق حاضره ومستقبله”. من هنا قدسيَّةُ الحفاظ عليه.
للسيدة باسكال الشويري سعد وفريقِها: تحية وفاء تطالُ كلَّ مَن يؤَدِّي للبنان نُبْلَ الوفاء على ما يُعطينا وطنُنا الخالد من عزَّة الوهج العالَمي، ومن شرف الانتماء إِليه.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).



