كيفَ يُعيدُ الخليجُ تَشكِيلَ الإسلامِ الرسمي

كابي طبراني*

في أُفُقِ الدوحة ودُبَي والمنامة، ترتفعُ المآذن إلى جانب الأبراج الزجاجية، وتُجاوِرُ وزارات الشؤون الإسلامية صناديق الثروة السيادية. في دول الخليج العربي، لم يَكُن الإسلامُ يومًا مجرّدَ عقيدةٍ شخصية، بل كان رُكنًا من أركان الحكم، وأداةً لبناءِ الهويّة الوطنية، ومنصّةً متزايدة للتأثير العالمي. ومع دخول هذه الملكيات عمق القرن الحادي والعشرين، تبدو قصة “الإسلام الرسمي” في الخليج قصةَ مُفارَقة لافتة: دينٌ مُتجذّرٌ في مؤسّسات الدولة، لكنه في الوقت ذاته لا يزالُ خاضعًا لقوى عابرة للحدود.

إنَّ المؤسسات الدينية الخليجية—من وزارات ومحاكم شرعية وجامعات إسلامية ومجالس للإفتاء—لم تنشأ من فراغ. فخلال مراحل مُبكِرة من تاريخها، لم يكن لدى حُكّام هذه الكيانات الصغيرة، الواقعة في مواقع استراتيجية، جهازٌ بيروقراطي متكامل ولا نُخبةً دينية محلّية كافية لتأطير الدين رسميًا. ولذلك لَجَؤوا إلى الاستعانة بالخارج. فالقضاة استُقدِموا من السعودية أو مصر، والعلماء تلقّوا تدريبهم في الأزهر أو النجف، والقوانين استُنسِخَت إلى حدٍّ بعيد من النماذج العثمانية والمصرية. وإذا أراد الحُكّام أن يُنظّموا التعليم الديني أو يَفصِلوا في النزاعات أو يُشرِفوا على الأوقاف، فإنهم غالبًا اعتمدوا على خبراتٍ مُستورَدة.

هذا الإرثُ لا يزالُ مؤثِّرًا اليوم. فبعكس الأزهر في مصر أو الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة في السعودية، لم تطوّر أيُّ دولةٍ خليجية مؤسّسة دينية عريقة تُشكّلُ مرجعيتها الدينية العليا. ما نشأ بعد الاستقلال في الستينيات والسبعينيات كانت مؤسّسات بيروقراطية حديثة تشبه مثيلاتها في دول ما بعد العثمانيين: وزارات للأوقاف والشؤون الإسلامية، مناهج دراسية مُوَحَّدة تتضمّنُ التربية الإسلامية، قوانين للأحوال الشخصية، ومؤسّسات رسمية للإفتاء. لقد أصبح الإسلام مؤطَّرًا بالدولة، لكنه لم يُصبح مُكتفيًا ذاتيًا.

الأمرُ لا يتعلّقُ فقط بالجانب الديني، بل بالسياسة أيضًا. ففي المَلَكيّات الخليجية، المؤسّسات الدينية أداةٌ للضبط الاجتماعي والسياسي. يمكن مراقبة الخطب، وتعديل المناهج، وتقييد الجمعيات الخيرية- لضمان ولاء المجتمع للأسرة الحاكمة والحفاظ على الاستقرار في مجتمعات متعددة المذاهب. ففي البحرين، حيث الأغلبية شيعية والحُكمُ بيد أسرةٍ سُنّية، تتسامح الدولة مع بعضِ المؤسّسات الشيعية لكنها تفرُضُ رقابةً شديدة على حضورها العام. وفي الكويت، حيث يشكّل الشيعة نحو ربع السكان، أُنشِئت مؤسّسات دينية وقضائية منفصلة لكلِّ طائفة. وحتى سلطنة عُمان، ذات الغالبية الإباضية، تصوغ مناهجها التعليمية بطريقةٍ تُقلّلُ من النزعة المذهبية وتُعزّزُ خطابَ الوحدة.

لكنَّ حصرَ الأمر في كونه مُجرّدَ وسيلةٍ للسيطرة يغفل جانبًا آخر: هذه المؤسّسات تُستَخدَمُ أيضًا كأدواتٍ لبناء الدولة الوطنية. المساجد الضخمة في الدوحة ومسقط ليست مجرّدَ أماكن للعبادة فحسب، بل رموزٌ للهوية الوطنية. ووزارة التسامح والتعايش التي أنشأتها الإمارات في العام 2016 ليست مجرّدَ استجابةٍ لوجود ملايين المقيمين من ثقافات متعددة، بل أيضًا محاولة لصياغة صورة “الإسلام المعتدل” كجُزءٍ من هوِيّةِ الدولة.

ومع ذلك، يظلُّ التناقضُ قائمًا: فبينما تسعى هذه الدول إلى صناعةِ نسخةٍ وطنية من الإسلام، فإنها تظلُّ غارقةً في تياراتٍ دينية عابرة للحدود. الشيعة في الكويت والبحرين ما زالوا يرجعون إلى مراجع النجف أو قُمّ. والسُنّة لا يزالون يستلهمون علماء مصر أو السعودية. وحتى الطموحات الجريئة في قطر والإمارات للعب دورٍ عالمي في المجال الديني اعتمدت على استقطابِ شخصياتٍ أجنبية.

لقد استضافت الدوحة لعقود الشيخ يوسف القرضاوي، الفقيه المصري البارز، فيما تحالفت أبوظبي مع العالم الموريتاني المرموق والداعية المسلم عبد الله بن بيّه ومؤسّسة الأزهر المصرية. وأسفر ذلك عن إنشاء منظمات مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في قطر أو مجلس حكماء المسلمين في الإمارات، وهي منصّات تعكسُ “قوةً ناعمة” تفوق حدودها الوطنية. إلّا أنَّ هذا النموذج ليس “إنتاجًا وطنيًا” بقدر ما هو “استيراد واستضافة ثم إعادة تصدير”. إنه مشروعٌ طموحٌ للعَولَمة الدينية، لكنه يطرحُ سؤالًا مُحرِجًا: هل يمكن لإسلامٍ مُستورَد أن يتحوَّلَ يومًا إلى إسلامٍ وطني؟

تتعقّدُ المُعضِلة أكثر بفعل الواقع الطائفي والديموغرافي. فمحاولات توحيد القوانين الدينية كثيرًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية، فتجعل الانقسامات أكثر وضوحًا. البحرين حين حاولت فَرضَ قانونٍ مُوَحَّد للأحوالِ الشخصية انتهت بترسيخ الفوارق بين المحاكم السُنّية والشيعية. الكويت أصدرت أخيرًا قانونًا مُنفصلًا للأحوال الشخصية للشيعة. بدل أن تُذيبَ الفوارق المذهبية، عزّزت الدولة من رسمها.

وفي مواجهة العولمة، تظهرُ مُعضِلةٌ أخرى: كيف يمكن التوفيق بين الشريعة الإسلامية ومجتمعاتٍ تزدادُ تنوُّعًا بفعل الهجرة؟ الإمارات، في إصلاحاتها في العام 2021، حدّت من تطبيق الحدود الشرعية في القضايا الجنائية، وفي العام 2024 أقرّت نظامًا مزدوجًا للأحوال الشخصية: إسلامي للمُسلمين، ومدني لغير المسلمين. أما قطر فقلّصت حصصَ التعليم الديني لصالح اللغة الإنكليزية والعلوم، استجابةً لتوصياتِ مؤسّساتٍ غربية. في الحالتين، ينحني “الإسلام الرسمي” أمام مُتطلّبات الحداثة والاندماج العالمي، لكنه يخاطر بفقدان الروح الحيّة التي ربطت المجتمعات الخليجية قديمًا بالشبكات الإسلامية الأوسع.

واليوم تقف دول الخليج أمامَ مُفتَرق طرق. فهي من جهة طوّرت بيروقراطيات دينية قوية: وزارات تُشرِفُ على المساجد والأوقاف، مجالس إفتاء تصدرُ التفسيرات والفتاوى الرسمية، وجامعات تُخرّجُ أفواجًا من دارسي الشريعة. المواطن العادي بات يواجه الدين غالبًا عبر قنواتٍ مُؤطَّرة من الدولة، من المدرسة إلى المحكمة إلى خطبة الجمعة. لكن من جهة أخرى، هذه الهياكل لا تزالُ هشّة لأنها غير مُتجذِّرة في تقليدٍ محلّي عريق. فهي تعتمدُ على علماءٍ وفقهاءٍ من الخارج، ومناهج غير محلية، وشبكات عابرة للحدود. وهذا يفتح الباب لفُرص، لكنه يخلق مَواطِنَ ضُعفٍ أيضًا.

قطر والإمارات تستطيعان استثمار هذه المراكز العابرة للحدود لتعزيز قوّتهما الناعمة، لكنهما تُخاطران بإثارة سخط فئات محلية ترى أنَّ الدين قد تحوّلَ إلى أداةٍ سياسية بحتة. الكويت والبحرين تستطيعان التفاوض مع مواطنيهما الشيعة عبر هذه الازدواجية الطائفية، لكنها تُكرّس الانقسام. أما سلطنة عُمان فحافظت على قدرٍ من الوحدة عبر إباضيتها المُميَّزة، لكنها دفعت ثمن ذلك بتراجع انخراطها في الشبكات الدينية العابرة.

يبقى السؤال الأساس: هل يمكن للخليج أن يتجاوزَ نموذج “الاستيراد والاستضافة وإعادة التصدير” ليُنتج صوتًا دينيًا محلّيًّا أصيلًا؟ هل تستطيع الدوحة أو أبوظبي أن تبنيا مؤسّسةً شبيهةً بالأزهر أو الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة، تؤثر ليس فقط في مجتمعاتهما بل في العالم الإسلامي بأسره؟

لا أحدَ يملك الإجابة الآن. ما هو مؤكّد أنَّ “الإسلام الرسمي” في الخليج لم يَعُد مجرّدَ مسألة مساجد أو وزارات، بل مسألة هوية لدول تسعى إلى التوازن بين التقليد والحداثة، بين الوحدة والتنوُّع، بين الشرعية الداخلية والطموح العالمي. لقد بنت هذه الملكيات ناطحات سحاب مذهلة وصناديق ثروة هائلة، لكن تجربتها مع الدين—المؤطَّر بالدولة، “المُبَقرَط”، والعابر للحدود في آن واحد—قد تكون الأشدَّ تأثيرًا في مستقبلها.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى