اقتصادُ روسيا بين النيران: كيفَ تَحَوَّلَ النفطُ من سلاحٍ إلى عبء؟

كابي طبراني*

على مدى عقود، نسجت روسيا حول نفسها أسطورة القوة التي لا تنضب: إمبراطوريةُ طاقة هائلة، غنية بالنفط والغاز، تملك من الموارد ما يجعلها في مأمن من الأزمات. كانت الطاقة سلاحها الاقتصادي ودرعها السياسي ومصدر هيبتها على الساحة الدولية. لكن بعد ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا، تتصدّع هذه الصورة شيئًا فشيئًا. فثالث أكبر نظامٍ لتكرير النفط في العالم يعيش اليوم أزمات وقود متكرّرة، وتعطُّلًا في المصافي، وتدخّلات حكومية محمومة. ليست المشكلة في نقص النفط، بل في انهيارِ منظومةٍ باتت عاجزة عن حماية نفسها.

منذ آب (أغسطس) الماضي، شنّت الطائرات المسيّرة الأوكرانية هجماتٍ على أكثر من نصف المصافي النفطية الروسية الكبرى، بعضها تعرّضَ للقصف أكثر من مرة، حتى في مناطق تَبعُدُ أكثر من ألف كيلومتر عن الجبهة. انخفضَ إنتاجُ التكرير بنحو عشرة في المئة، وظهرت طوابير أمام محطات الوقود في مناطق عدة. ما كان يبدو مستحيلًا قبل عامين –أزمة وقود في دولة تُعدّ من أغنى دول العالم بالنفط– أصبح الآن واقعًا يعيشه الروس يوميًا.

صحيحٌ أنَّ هذه الهجمات لن تُدَمِّرَ صناعة النفط الروسية بين ليلة وضحاها، لكن هذا ليس هدفها. فالأذى الحقيقي يتراكم ببطء. كلُّ طائرةٍ مُسَيّرة تنجح في تجاوز الدفاعات الجوية وتُشعِلُ حريقًا في مصفاة، تُضعِفُ آلة الاقتصاد الحربي الروسي أكثر فأكثر. إنها حربُ استنزافٍ صامتة، تُحَوِّلُ أكبرَ مصدرٍ للثروة في روسيا إلى عبءٍ يستهلك مواردها ويُقوّضُ ثقتها بنفسها.

في المقابل، يُصِرُّ الكرملين على أنَّ الأمورَ “تحت السيطرة”. فرضت الحكومة حظرًا مؤقتًا على تصدير الوقود، وحددت الأسعار، وأصدرت قراراتٍ طارئة لتأمين الإمدادات. أُجبرت شركات النفط على بيع الوقود داخليًا حتى حين تتكبّد خسائر. ويؤكد المسؤولون أنَّ المصافي يمكن إصلاحها بسرعة. نظريًا، هذا صحيح، لكن مع كلِّ إصلاح، تزداد المنظومة هشاشة. فالمعدّات تتآكل، وقطع الغيار نادرة بسبب العقوبات، والعمّال مُنهَكون. وهكذا يتآكل جوهر القوة الصناعية الروسية تدريجًا — ليس بانفجارٍ كبير، بل بسلسلةٍ من الشقوق الصغيرة التي لا تتوقف.

في الوقت نفسه، يخنقُ التدخُّلُ الحكومي ما تبقّى من ديناميكية السوق. فبدل ترك الأسعار تتوازن، عاد الكرملين إلى الأسلوب السوفياتي القديم: فرض الأسعار، وتوجيه الإنتاج، ومعاقبة الشركات عند أيِّ تقصير. وهكذا تتحوّل صناعة النفط، التي كانت تتمتّعُ بقدرٍ من حرية السوق، إلى قطاعٍ يخضعُ لأوامر الدولة، بالكاد يعمل، ويعيش على حساب الكفاءة والمبادرة. النتيجة منظومة يمكن أن تستمرَّ في العمل، لكنها تفقد قدرتها على التطوُّر والتكيّف.

ما تفعله أوكرانيا ليس مجرّد عملية عسكرية ذكية، بل هجومٌ نفسي (سيكولوجي) واستراتيجي في آن واحد. فكييف قلبت المعادلة على موسكو، مستخدمةً سلاحها الأثير ضدها. طوال شتاءين متتاليين، حاولت روسيا شلّ شبكة الكهرباء الأوكرانية لتجميد المدن وبثّ اليأس في النفوس. اليوم، تردّ أوكرانيا بالمثل، مُظهِرةً لروسيا طعم الضعف حين تتوقف المصانع، ويُشَلُّ الإنتاج، وتتحوّل منشآت الطاقة إلى أهدافٍ سهلة. إنها رسائل مدوّية تقول لموسكو: لستِ مُحَصّنة كما تظنّين.

كما كشفت الضربات الأوكرانية هشاشة البنية الجغرافية للصناعة الروسية نفسها. فمصافي التكرير مُصَمّمة وفق تخطيط سوفياتي قديم، بحيث تخدم كل مصفاة منطقة شاسعة تضمُّ ملايين السكان. حين تتعطّل واحدة منها، تمتد الأزمة إلى مناطق عدة، ويضطر الروس إلى نقل الوقود بالقطارات لمسافات طويلة، ما يُضاعِفُ الكلفة ويُربك الإمدادات. بهذا المعنى، تفعل المُسَيّرات الأوكرانية ما لم تستطع العقوبات الغربية فعله: إنها تدفع روسيا لمواجهة ضعفها البنيوي.

استراتيجيةُ كييف تقوم على حسابٍ دقيق. فهي تُدرِكُ أنها لا تستطيع تدمير إمبراطورية النفط الروسية بالكامل، لكنها تستطيع إجبارها على الدفاع عن نفسها بطريقة غير فعّالة. كل روبل تنفقه موسكو على إصلاحِ مصفاة هو روبل أقلّ يُنفَقُ على الصواريخ والدبابات. كلُّ مرسومٍ حكومي يجمّد الأسعار يستنزف خزينة الدولة. وكلُّ حظرِ تصديرٍ يُربك السوق العالمية ويُضعف مداخيلها. ليست الغاية إسقاط النظام الصناعي، بل جعله أكثر كلفة وصعوبة في التشغيل يومًا بعد يوم.

لكن هذه السياسة تضع موسكو أمام معضلات متزايدة. هل تحمي المصافي أم مصانع السلاح؟ هل تُفضّلُ الاستقرارَ الداخلي أم عائدات التصدير؟ هل تترك الأسعار ترتفع فتُغضِبُ الناس، أم تتدخّل وتخنقُ السوق؟ كل خيار يحمل ثمنًا سياسيًا. ارتفاعُ الأسعار يُثيرُ غضبَ المواطنين، وتقييد الصادرات يُزعِجُ الأوليغارشيين، ونقص الوقود يُربِكُ الجيش. وكما هي عادة الكرملين، يلجأ إلى السيطرة الكاملة، ولو على حساب الكفاءة. لكن كل طبقة جديدة من التدخُّل تُقرِّبُ النظامَ الاقتصادي من الشلل البطيء.

حتى الآن، ما زالت روسيا قادرة على إبقاء المشهد تحت السيطرة الشكلية. المضخّات تعمل، والمصافي تُنتِج، والصورة العامة توحي بالوفرة. غير أنَّ البنية التحتية تتآكل من الداخل. أعمالُ الصيانة تُؤجَّل، قطع الغيار يُعاد استخدامها، والمخاطر البيئية والأمنية تتزايد. ما يسميه المهندسون “تعب المعدن” هو في الحقيقة تعب دولة بأكملها. إنه تآكل بطيء مُقنّع بالاستمرارية.

صحيحٌ أنَّ أوكرانيا تواجه تحديات هي الأخرى. الحفاظ على وتيرة الهجمات يتطلّبُ موارد ودعمًا استخباراتيًا وتقنيًا مستمرًّا من الغرب. أما روسيا، فقد بدأت تُكيِّفُ دفاعاتها، مُستَخدمةً شبكاتٍ معدنية وحواجز بدائية لحماية المصافي. تبدو هذه الإجراءات بسيطة، لكنها قد تُحدِثُ فرقًا بين ضربة قاتلة واحتراق محدود. ومع ذلك، لا يمكنها حماية جميع الأهداف في بلد مترامي الأطراف. فالمهاجم يختار زمان ومكان الضربة، والمدافع لا يملك سوى أن ينتظرها.

في المدى الطويل، لن يكونَ أثرُ الحملة الأوكرانية محصورًا في عدد المصافي المُتضرّرة، بل في التحوّل الذي تفرضه داخل النظام الروسي نفسه. الحربُ جعلت عملاق الطاقة الروسي مرآةً لما أصبح عليه البلد كله: قادرًا لكنه مُقَيَّد، غنيًا لكنه مُترَهّل، يعتمد على الأوامر بدل الإبداع. دولةٌ كانت تصدّر الثقة والهيبة، أصبحت تصدّر النفط الخام لأنها لم تعد قادرة على تكريره. إنها إهانة هادئة تتكرّر مع كل طائرة مُسَيّرة.

في النهاية، لا تحتاج أوكرانيا إلى تفجير صناعة النفط الروسية لتفوز في هذه الجولة. يكفيها أن تُبقي روسيا في حالة استنزاف دائم — تُطفئ حرائق المصافي وتحاول إخماد أزمات الأسعار والسمعة. كل حريق، وكل مرسوم لتجميد الأسعار، وكل وعد بالاستقرار هو دليل جديد على الإرهاق. بدأت الحرب كصراع على الأرض، لكنها تحوّلت إلى اختبارٍ للقدرة على الصمود. وفي هذا الاختبار، يبدو أنَّ إمبراطورية الطاقة الروسية بدأت تنفدُ وقودها.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى