جبران أَيضًا وأَيضًا: “عشرون رسمًا” (2 من 2)

الشلّال (من رسوم الكتاب)

هنري زغيب*

هذا الجبران… هذا الجبران ! ماتَ يومًا وما زال يولد كلَّ يوم!

حين أَغمضَ عينَيه للمرة الأَخيرة على سرير الغرفة 301 من مستشفى سانت فنسنت – نيويورك (عند الحادية عشْرةَ إِلَّا عشرَ دقائق ليلة الجمعة في العاشر من نيسان/أَبريل 1931)، تراه كان يَحدُسُ أَنه لن ينطفئَ ذكْرًا وذكرًى وذكرياتٍ واستذكارًا لا إِلى حدود؟ فمنذ غابَ تلك الليلة، وهو يَحْضُر مع كل شروق شمس، هنا، هناك، هنالك، في طبعة جديدة، ترجمة جديدة، كتاب جديد، دراسة جديدة، ولا ينتهي التعداد.

في الجزء الأَول من هذا المقال، سردتُ معلوماتٍ أُولى عن كتاب “عشرون رسْمًا”، وهو مقالٌ طويلٌ كتبَتْه الناقدة الأَميركية آليس رافاييل عن جبران الرسام، وصدَرَ في نيويورك سنة 1919 لدى منشورات كنوف التي أَصدرت جميع مؤَلَّفات جبران بالإِنكليزية. لم تَصدر لهذا الكتاب ترجمة عربية، حتى بادر إِليها الكاتبُ والمترجمُ السوريُّ زاهي رستم قبل أَيام، وصدرَت ترجمتُه في طبعة أَنيقة متْقَنَة (90 صفحة) لدى دار “منشورات خياط” في واشنطن.

هنا مقاطع من ترجمة نص آليس رافاييل كما وضعها زاهي رستم، في 13 صفحة، وزوَّدها بمجموعة 140 حاشية توضيحية.

الحمْل الثقيل (من رسوم الكتاب)

طليعية الرسام

انطلقَت رافاييل من مفهوم أَنَّ “في الشرق الأَدنى ملايينَ تُعَدُّ العربية لغتَهم الأُم، أَصبح شعر جبران جزءًا من تقاليدهم الوطنية. أَما جبران الرسام، فبدأَت أَعماله الفنية تلفت جمهورَه الأَميركي إِلى أَنَّ فنه مفتاح في كشف سر التناغم والتناقض بين الشرق والغرب”. وهي رأَت أَن “جبران اختار الإِسهام في الفنون والآداب الغربية إِيمانًا منه بتطور ثقافتنا الجامدة، فتنازلَ عن مكانته كرائدٍ في عالم الشرق الأَدنى ليلفت العالم الغربي إِلى تقاليد الشعب العربي وعبقريته”.

الصراع (من رسوم الكتاب)

كلاسيكي متجدِّد

وجدت رافاييل أَن “جبران في الرسم كلاسيكي، انغمس في صراع يتجلَّى بإِعادة بناء عصر يُوازن بين الإِرث الخالد للعالم القديم والتقاليد الكلاسيكية، مع اتجاهات فنية دائمة التطوُّر والتقلُّب، تُشكِّل جوهر الرومانسية الحقيقية”. ووجَدَت في مائياته المخفَّفة أَنَّ “قلمه لا يتعاوَن مع فرشاته إِلَّا قليلًا، لإِيحاء الفكرة وإِكمالها. فمستوى لوحاته دقيق، وتبدو في البداية  كأَنْ ليس فيها سوى القليل من اللون، ثم يأْتي الإِدراك المفاجئ أَنها كلَّها لون، إِنما هو منتشر بشكل غير محسوس”.

تفسيري طليعي

في أَعماله التفسيرية الأَكثرِ عمقًا، يبدو تدَرُّج اللون دقيقًا، إِذ هو “يستخدم اللون ليكشف عن شكله، عكسَ رسامين يفقدون إِحساسهم بالشكل في سعيهم وراء اللون. وهذا سببٌ آخر يجعل لوحاته توحي بفن النحات. وتعطي مثلَ أَن “جبران يجعل الأَرض شيئًا آخر غير مجرد قطعة من الحجر. وهنا روح النحت الحقيقية. فهو لا يُعبِّر عنها إِلَّا في شكلٍ مشابه. لذا تتميز أَعماله باضطرابها وتجميعها رغم بساطتها الحدسية في استخدام المواد الرمزية من الماضي. ومع أَنَّ المفاهيم التي يصوِّرها جبران قديمة، فهي أَيضًا حديثة كروح التفسير في عصرنا”. وتؤكد رافاييل: “صحيح أَن فنَّه ينبثق من الماضي، لكنه يناشد عقول اليوم ويجذبها، ويبشِّر بنزعة العمل الإِبداعي الطليعي”.

الكشْف الشعري

لم يذهب جبران إِلى بلاد غريبة لدراسة الجديد، بل سلكَ درب الخالق المتأَمل الصامت، وأَخرجَ من أَعماقه حقائق أَزلية لحياة الإنسان الباطنية. لذا تجد رافاييل أَنه ” أَعاد خلق التجسُّد الرمزي، وتنبَّأَ برغبة البشرية المتلاطمة، وكشفَ عن قصة الآلام وأَعاد سردها”. وهنا تميُّزُهُ “في الكشْف الشعري عن المفاهيم النفسية للإِنسانية، إِذ يُظهر عالَمًا من الجمال الباهر والمطلَق لدى فناني أَميركا الشباب الذين اختار أَن يشاركهم حياتهم، بتعبيره عن الأَشكال الشاسعة واللامتناهية للماضي المتدفق، ويُظهر لنا كيف يمكن الذكريات الخالدة أن تُحفِّز فن المستقبل”. وتشرح ذلك بـ”قبول التاريخ العرقي المتنوع بلا حدود، جُزءًا حيًّا من حاضر ستُهيئ أَميركا نفسها به لنهضة الفنون الحتمية”. بذلك وجدَت رافاييل أَن جبران “رائدٌ في هذه النهضة، بل سابق لها، لذا احتلَّ فيها مكانةً راقية”.

الرؤْيا الخالدة

تختُم رافاييل بحثها المعمَّق بأَن “جبران ينتمي إِلى فئة فنانين تبشِّر رسالتهم بحقبة انتقالية، وصوتُهُم يتحدَّى الحاضر باستعادة تقييم معاييره، وبتجسيد تقليدٍ عريقٍ ضاع أَصلُه في غياهب العصور القديمة، فاستعاده جبران وأَمثالُه من الماضي السحيق الذي أَضاء الشرق وبقيَت روحُه الإِبداعية العظيمة في عالم الفن”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى