صحّة رقميّة… والإنسان أوّلًا: قصّةُ التحوُّل الأكبر في تاريخ السعودية
في خضم التحوّلات الكبرى التي تعيد رسم ملامح المملكة العربية السعودية، يبرز القطاع الصحي بوصفه أحد أكثر الميادين حيوية وتجددًا. لم يعد الحديث عن بناء مستشفيات جديدة أو توسيع الخدمات فحسب، بل عن إعادة تعريف مفهوم الرعاية ذاته ليصبح أكثر ذكاءً، واستدامةً، وإنسانية. ومن بين التجارب التي تجسّد هذا التحوّل الطموح، تبرز “مجموعة مستشفيات الحياة الوطني” كنموذجٍ يوازن بين التقنية والرحمة، وبين الكفاءة الاقتصادية وجودة الحياة.

راغب الشيباني*
تشهد المملكة العربية السعودية واحدة من أكثر عمليات الإصلاح جرأةً وشمولًا في تاريخها الحديث، ليس فقط في الاقتصاد والطاقة، بل في جوهر حياتها الاجتماعية: قطاع الصحة. فبعدَ نحو تسع سنوات على إطلاق “رؤية 2030″، تتقاطَعُ مساعي تنويع الاقتصاد وبناء مجتمعٍ حيوي مع تحوُّلٍ جذري في أسلوب تقديم الرعاية الصحية وإدارتها. ما كان في السابق نظامًا صحّيًا يعتمدُ بصورةٍ شبه كاملة على الدولة، يتحوّلُ اليوم إلى منظومةٍ متكاملة يقودها الابتكار والرقمنة والمشاركة الفاعلة للقطاع الخاص.
في صميمِ هذا التحوُّل يأتي “برنامج تحوُّل القطاع الصحي” بوصفه أحد أعمدة “رؤية 2030”. هذا البرنامج لا يهدفُ فقط إلى زيادة عدد المستشفيات أو الأَسِرّة، بل يسعى إلى بناءِ نظامٍ صحّي أكثر كفاءة واستدامة، يُركّزُ على الوقاية وجَودةِ الحياة قبل العلاج. إنه انتقالٌ من طبٍّ يُعالِجُ المرض إلى طبٍّ يحافظ على العافية. وتطمحُ الاستراتيجية إلى أن يتمتَّعَ كلُّ مواطنٍ ومُقيم بخدماتٍ صحّية عالية الجودة في جميع أنحاء المملكة، من المراكز المُتقدِّمة في الرياض إلى القرى البعيدة في عسير، عبر شبكاتٍ مُترابطة من السجلّات الإلكترونية، والطب الافتراضي، والخدمات المجتمعية الوقائية.
ويُعَدُّ التعاونُ بين القطاعَين العام والخاص الركيزةَ الأساسية لهذا التحوُّل. فبموجب “برنامج التخصيص” والمركز الوطني للتخصيص والشراكة بين القطاعَين العام والخاص، تُشجَّع الشركات والمستثمرون على إدارة المستشفيات وتطوير الخدمات التخصُّصية وتبنّي التقنيات الحديثة. والهدف ليس فقط جذب رأس المال، بل نقل الخبرات العالمية وأفضل الممارسات الإدارية لتعزيز الكفاءة ورفع مستوى الخدمة.
وقد بدأت النتائج تظهر بوضوح: فمنذ العام 2016 تمَّ إنشاءُ أكثر من خمسين مستشفى ومئتي مركز صحّي أوَّلي جديد، كما تبنّى أكثرُ من 70 في المئة من المرافق الصحّية نظامَ السجلّات الطبية الإلكترونية، وارتفعت الاستشارات الطبية عن بُعد بنسبة تفوق 300 في المئة. كما ارتفعَ الإنفاقُ الصحّي إلى نحو 180 مليار ريال (حوالي 48 مليار دولار أميركي) في العام 2023، ما أتاح مزيدًا من الاستثمار في التدريب والابتكار وتوسيع نطاق الوصول إلى الخدمات.
ومن أبرز النماذج التي تُجسِّدُ هذا التوجُّه مجموعة “مستشفيات الحياة الوطني”، التي أصبحت لاعبًا محوريًا في دعمِ أهداف “رؤية 2030”. فاستراتيجيتها بعد جائحة “كوفيد-19” تقومُ على توسيع خدماتها في المناطق الأقل حظًّا، واستخدام التكنولوجيا لتحسين الكفاءة وتخفيف الأعباء المالية عن المرضى، وربط خدماتها بمنصّات التأمين الصحي الوطنية لضمان سلاسة الإجراءات وسرعة التعويضات.
تُديرُ المجموعة اليوم ستة مستشفيات، وتبني خمسة أخرى في الطريق إلى الوصول إلى 15 مستشفى بحلول العام 2030. وتُقدّمُ خدماتها لأكثر من مليوني مُراجِع سنويًا، وتنفذ آلاف العمليات التخصُّصية في مجالات القلب والأعصاب والعظام. كما أسهم توسُّعها في مناطق مثل جازان وعنيزة في تقليل حاجة المرضى إلى السفر لمسافاتٍ طويلة للحصول على العلاج المتخصّص.
ومع تبنّيها الواسع لخدمات الطب عن بُعد، أصبح بإمكان المرضى حجز المواعيد ودفع الفواتير واستعراض نتائج الفحوص والوصفات عبر تطبيق إلكتروني مُوَحَّد، ما عزّزَ تجربة المريض ورفع كفاءة الخدمة. كما أدى تكاملها مع “منصة تبادل خدمات الصحة والتأمين الوطني (نفيس)” إلى تسريع الموافقات وتقليص الأخطاء الإدارية، بما يحقق أهداف الرعاية الصحية القائمة على القيمة، حيث يُكافأ مقدّمو الخدمة على جودة النتائج لا على حجم الإجراءات.
يُدرك صانعو القرار في المملكة أنَّ استدامة النظام الصحي تتطلّبُ خفضَ التكاليف بدون المساس بالجودة. وتُقدم مجموعة مستشفيات الحياة نموذجًا عمليًا لذلك من خلال المشتريات المُوحَّدة، ونماذج الدفع المرتبطة بالنتائج، والاستثمار في الطب الوقائي. فكلُّ ريالٍ أو دولارٍ يُنفق على الوقاية اليوم يختصر ويوفّرُ أضعافه في علاج الغد.
لكنَّ جوهر التحوُّل لا يقتصرُ على الكفاءة التقنية، بل يمتدُّ إلى البُعدِ الإنساني للرعاية. إذ أصبحت “تجربة المريض” (قياس رضا المريض في مرافق وخدمات وزارة الصحة) مؤشّرًا وطنيًا للأداء. ولهذا أطلقت “مجموعة مستشفيات الحياة الوطني” برنامج “من أجل الحياة” الذي يُدرّب الطواقم الطبية على التواصل والتعاطف، ويتيح للمرضى وأسرهم المشاركة في تصميم الخدمات وإبداء الملاحظات بشكل مباشر. والنتيجة: انخفاض شكاوى التواصل بنسبة 30 في المئة، وارتفاع معدلات المتابعة بعد الخروج من المستشفى إلى أكثر من 95 في المئة.
وفي الوقت ذاته، تبرز التقنيات الذكية بوصفها ذراعًا داعمة لهذه الثقافة. فقد أدخلت المستشفيات صيدليات روبوتية في الرياض وأبها قلّلت زمن الانتظار من 18 دقيقة إلى خمس دقائق فقط، وخفّضت الأخطاء في صرف الأدوية، مما سمح للصيادلة بالتركيز على الإرشاد والمشورة الطبية. وهكذا تتحوّل الرقمنة من أداة لتسريع الإجراءات إلى وسيلة لتعزيز العناية الإنسانية.
وإلى جانب الرقمنة، تعمل المملكة على إعادة هيكلة النظام الصحي عبر 21 تجمُّعًا صحّيًا إقليميًّا تمنح الإدارات المحلية قدرة أكبر على التخطيط وتخصيص الموارد وفق احتياجات كل منطقة. ويلعب القطاع الخاص دورًا أساسيًا في هذا التوجُّه من خلال إدارة المرافق، وتدريب الكوادر الوطنية، ودعم برامج التوطين، بما يُرسّخ نموذجًا صحّيًا أكثر توازنًا واستدامة.
إنَّ هذا التحوُّلَ لا يخدمُ الصحّة فحسب، بل يُرسّخُ ركائز “الاقتصاد المعرفي” الذي تطمحُ إليه المملكة. فمع توسُّعِ الاستثمار في الصناعات الطبية والتقنيات الرقمية والرعاية الذكية، باتَ القطاعُ الصحّي رافدًا مهمًّا لجذب الاستثمارات وخلق الوظائف وتعزيز التنافسية الإقليمية. ومع ذلك، تبقى الحاجة ماسة إلى ضمان العدالة في التوزيع والرقابة على جودة الخدمات وحماية البيانات في ظلِّ التوسُّع الرقمي المُتسارِع.
ومع كل التحديات، فإنَّ المسارَ واضحٌ ومُبشِّر. فقد تحوّلت الرعاية الصحية في السعودية من خدمةٍ حكومية إلى مشروعٍ وطني مشترك، تتقاسم فيه الدولة والقطاع الخاص والمجتمع مسؤولية الارتقاء بجودة الحياة. وتُجسّد “مجموعة مستشفيات الحياة الوطني” هذا النموذج بأبهى صوره، من خلال توسيع الوصول إلى العلاج، وتبني التقنيات الحديثة، وترسيخ قيم الرحمة في صميم الأداء الطبي.
وإذا استمرّ هذا الزخم، فإنَّ ما يتحقق اليوم لن يقتصرَ على تحديث الطب السعودي، بل سيصوغ ملامح نموذجٍ عربي جديد للرعاية الصحية: رقمي وإنساني في آنٍ واحد، كفء وعادل في الوقت نفسه، ومنسجم تمامًا مع رؤية وطنية طموحة نحو الازدهار والرفاه للجميع.
- راغب الشيباني هو مراسل “أسواق العرب” في السعودية.
 
				
					
						



يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.