إشكاليّةُ السِلمِ والحَربِ بين إيران والغرب
في هذه الحلقة الحادية عشرة من سلسلة “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، يتناول الكاتب سليمان الفرزلي الجذور التاريخية للصراع الروماني–الفارسي، من زمن بومبيوس الكبير حتى العهد البيزنطي، كاشفًا كيف تَشكّلَ منطق “السلام كقاعدة والحرب كاستثناء” في العلاقة بين الإمبراطوريتين، وكيف ورث الغرب الحديث هذا الإرث في تعامله مع إيران.

(11)
احتواءُ إيران بعزلِها عن سوريا
سليمان الفرزلي*
خَطَرَ ليوليوس قيصر في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، أن يُكرّرَ تجربة الإٍسكندر المقدوني في الزحف على بلاد فارس والسيطرة عليها، لكن صهره لاحقًا، بومبيوس الكبير، زَوَّجَ ابنته جوليا، الذي ضمّ سوريا إلى الإمبراطورية الرومانية، وأعلنها ولايةً كاملة الأوصاف، سبقه إلى رسم الخريطة السياسية بين روما وفارس. فقد أعلن بومبيوس الكبير في العام 64 قبل الميلاد، إنَّ سوريا هي “خط الدفاع الأول عن الإمبراطورية الرومانية”.
اعتبرَ القائمون على شؤون الجمهورية الرومانية، خلال العقود الأخيرة من حياتها، قبل “مرحلة الأباطرة”، أنَّ بلادَ فارس ليست مثل باقي البلدان البربرية التي ضمّتها روما إليها في الجوار الأوروبي وجرمانيا، بل هي بلادٌ فيها حضارة عريقةٌ ومميَّزةٌ وقائمةٌ بذاتها، ليست أقلَّ شأنًا من الحضارة الرومانية (اللاتينية–الإغريقية). وهذا كان اعترافًا بالتكافؤ الحضاري يجب أن يُحتَرَم. لكنه لم يكن بأيِّ حالٍ تكافؤًا بالقوة العسكرية والطاقات الاقتصادية.
كانت روما ترى أنَّ إمكانياتها، الاقتصادية، والعلمية، والعسكرية، أكبر بكثير من إمكانيات الدولة الفارسية، وبالتالي فإنَّ الفرس، مهما حاولوا، لن يستطيعوا التغلّب على الدولة الرومانية، أو الوصول الى عقر دارها، لكنهم يمكن، بين حين وآخر، أن يكسبوا معركةً حدودية، أو يدخلوا مؤقتًا الى إحدى الولايات التابعة للدولة الرومانية في الشرق. باختصار، يجزم التحليل الروماني للعلاقة مع الفرس، أنَّ الدولة الفارسية لن تستطيعَ قهر أو احتلال إمبراطورية روما أو تفكيكها.
لم يكن، في ذهن أحد من حكام روما أن يستعيدَ تجربة الإسكندر المقدوني في احتلال بلاد فارس وفرض حكمه عليها. بل اعتبروا أنَّ دفعَ إتاوات إلى الفرس لحفظ سلام الحدود الشرقية، أقل كلفة بكثير من أيِّ مناوشة أو حرب عسكرية معهم. وهذا النوع من الترتيب المالي جرى مرّاتٍ عدة في عهودٍ مختلفة، من أيام الجمهورية الرومانية، إلى أيام الدولة البيزنطية، بعد انشطار الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي.
هذا لا يعني أنَّ التعايش السلمي بين الإمبراطوريتين كان كاملًا وتامًا ولا تشوبه شائبة، فكلٌّ منهما حاول بين الحين والآخر، وحسب الظروف، أن يُحسِّنَ شروطه. لكن على وجه العموم كانت الحدود النهائية بينهما قد رسمت نفسها، بعد وصول الإمبراطور تراجان الى الخليج الفارسي. تلك الحدود لم تكن واضحة، إلّا في معالمها الجغرافية، لكونها بقيت متحّركة بين النهرين الكبيرين في العراق، دجلة والفرات. فإذا تمدَّد الفرس فإلى شرق الفرات فقط، وإذا تمدَّد الرومان فإلى غرب دجلة. هذا هو النطاق الذي لم يتغيَّر لمئات السنين.
بالإضافة الى الاعتراف بالتكافؤ الحضاري، كان إعلانُ بومبيوس حول سوريا، بمثابةِ مَبدَإٍ سياسي واضح المعالم، بأنَّ الجمهورية الرومانية تنطلق، في علاقتها مع بلاد فارس، من مَبدَإِ “حسن الجوار”، وبالتالي فإنَّ طبيعة عقيدتها العسكرية في هذه الحالة، هي طبيعة دفاعية.
هذا المبدأ يعني، أنَّ سوريا هي مركز الثقل للوجود الروماني في الشرق، وأنَّ روما سوف تدافع عنها بكلِّ ما أوتيت من قوة وقدرة. وبالتالي فإنها لن تسمح للمناوشات الحدوديَّة أن تتحوَّل الى حرب شاملة، طالما أنها لا تتهدَّد الأمن الروماني في سوريا.
اجتاح الفرس سوريا مرة في القرن السادس قبل الميلاد، من قبل الدولة الإخمينية، ومعها بلاد اليونان أيضًا، وقام اليونانيون مرَّةً باجتياح بلاد فارس وتخليص سوريا ومصر من الحكم الفارسي، على يد الإسكندر المقدوني، في القرن الرابع قبل الميلاد، فكأنما انكتبَ بذلك قدَرٌ غير معلن بين الفريقين، عنوانه: “واحدة بواحدة ولن تتكرَّر”.
بقيت هناك مناوشات حدودية لمئات السنين، خصوصًا في أرمينيا، كما مرَّ في حلقة سابقة، حيث جرت تسوية بالشراكة للموضوع الأرمني في عهد الإمبراطور نيرون في العام 63 للميلاد، أي بعد مئة سنة تمامًا من مبدَإِ بومبيوس بخصوص سوريا. فقد اعتبر الرومان سوريا جُزءًا من دولتهم، وليست منطقةً حدودية، وبالتالي فإنهم غير مُستعدّين لإشراك أحدٍ فيها، كما حدث في أرمينيا.
هذا المفهوم أحدث تغييراتٍ جوهرية في منطلقات ودوافع كلٍّ من الفريقين، اقتضى تصويب البحث التاريخي، من اعتبار أنَّ “حالة الحرب” بين الروم والفرس، هي المسار العام والدائم بينهما، إلى اعتبار السلام هو الأساس والحرب هي الاستثناء.
*****
لم تبقَ الاستراتيجية الرومانية، من الناحية التطبيقية، ثابتة في جميع المراحل والعهود، إلّا بمنطلقاتها العامة، كما ترسَّخت في إطارها الأصلي، أي أنَّ “السلام هو القاعدة، والحرب هي الاستثناء”. وهو ما أدركته وراعته الدولة الفارسية، وما زالت تُراعيه حتى اليوم، إذا اعتبرنا أنَّ الغرب الراهن، بشكلٍ عام، يُشكّلُ امتدادًا تاريخيًا مُتواصِلًا للمفاهيم الرومانية القديمة، قبل انتشار المسيحية هناك، وبعدها. وظلَّ هذا الإطار قائمًا بعد سقوط الدولة الرومانية في الغرب، وبقائها في الشرق، بموجب القاعدة السابقة القائمة على محوريَّة سوريا ضمن الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية).
بل إنَّ ما كان أمرًا واقعًا، زمن الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أصبح في زمن الإمبراطورية الرومانية الشرقية مكتوبًا على الورق في “معاهدة السلام الأبدي” المعقودة بين الدولة الفارسية الساسانية، ممثلة بملكها كسرى الأول (أنو شروان)، وبين الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الكبير في العام 532 للميلاد. وقد أخذ البيزنطيون تلك المعاهدة بجديًّة إلى درجة أنَّ الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس، أَمِنَ لتلك المعاهدة بحيث أهمل دفاعات سوريا إلى الغرب من الفرات!
إنَّ مثل هذه الحالة لم تنشأ سابقًا، خلال القرنَين الأوَّلين من الميلاد، حيث جرى مرّتين على الأقل تعزيز دفاعات سوريا إلى الغرب من الفرات. ففي العام 69 للميلاد، حدثت اضطراباتٌ يهودية في فلسطين، فأرسلت روما جيشًا لقمعها بقيادة الجنرال فسباسيان، الذي اختير إمبراطورًا وهو في سوريا، فعاد إلى روما وسلَّم قيادة الحملة الى ابنه الجنرال تيتوس (الذي أصبح إمبراطورًا في وقت لاحق)، فدخل تيتوس إلى فلسطين، في العام 70 للميلاد وقمع التمرُّد اليهودي، ودمَّر الهيكل، وعاد إلى روما ليبني “الكولَيزيوم”، وإلى جانبه قوس النصر الذي يحمل اسمه، وهما الآن من المعالم السياحية الكبرى التي ما زالت قائمة في مدينة روما إلى اليوم. دوَّن هذه الحملة المؤرخ اليهودي الروماني فلافيوس يوسِفوس في كتابه “الحروب اليهودية”، (اسمه اليهودي “يوسف بن متاتياهو”).
شارك المؤرخ يوسِفوس في الحرب اليهودية ضد الرومان، (66م–70م)، وكان فيها قائدًا ميدانيًا، لكنه بعد حصارٍ للقوات، التي كان منضويًا فيها، دام نحو شهرين، استسلم إلى القائد الروماني فاسباسيان، ودخل في خدمته، وصار مترجمًا له. وعندما أصبح فاسباسيان إمبراطورًا أطلق سراحه، ومنحه الجنسية الرومانية، فدخل في خدمة الجنرال تيتوس، في العام 70 للميلاد، واتخذ لنفسه الاسم اللاتيني لعائلة فاسباسيان وتيتوس، وهو “فلافيوس”، وصار مُترجمه الخاص، خلال الحصار الشديد الذي فرضه تيتوس على مدينة القدس، التي استباحها ودمَّرها، بما في ذلك الهيكل الثاني (هيكل هيرودوس). وكان يوسِفوس شاهدًا على حصار “مصعدة” حيث انتحر المتمردون اليهود المحاصرون هناك جميعهم. وتعتبر كتاباته من المراجع المهمة للحقبة المسيحية الأولى، التي نشأ في أجوائها، وطرقت مسامعه أخبار شخصياتها، ومنها بيلاطُس البنطي، والملك هيرودوس الكبير، ويوحنا المعمدان، ويسوع الناصري وغيرهم.
في ذلك الوقت كان لفلسطين وضعٌ خاص، وهو وضعٌ دعمت استمراره كليوباترا ملكة مصر، في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، بطلبٍ خاص لها من يوليوس قيصر، عشيقها في ذلك الوقت، وهو وضعٌ قضى ببقاء فلسطين مملكة، ذات حكم ذاتي، كما أبقاها الجنرال بومبيوس الكبير عندما احتلَّ القدس في العام 63 قبل الميلاد، بعدما جعل سوريا جُزءًا من الإمبراطورية الرومانية.
هذا الوضع الفلسطيني تغيَّر تغيُّرًا جذريًا خلال النصف الأول من القرن الميلادي الثاني، بعد الانتفاضة اليهودية الكبرى التي قادها شيمون بن كوخبا، في عهد الإمبراطور هادريان عام 135م، الذي اجتثَّ تلك الانتفاضة بقسوة شديدة، وأزال صفة الحكم الذاتي عن فلسطين، وألحقها بولاية سوريا، وصار اسمها في الدواوين الرومانية “فلسطين السورية”، (ٍسيريا بالستينا)، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يشملها النظام الدفاعي الروماني عن الولاية السورية.
بذلك اتسع “مبدأ بومبيوس” باعتبار سوريا خط الدفاع عن الإمبراطورية الرومانية ضد التوسع الفارسي، ليشمل أيضًا الدفاع عنها ضد الخطر اليهودي، فازداد ثقل مركزية سوريا في النظام الروماني.
*****
قبل نشوء هذه الحالة الفلسطينية في سوريا، وبعدها أيضًا، أجرت الدولة الرومانية تعزيزات دفاعية واسعة للمنطقة السورية. ففي مطلع القرن الثاني الميلادي، (100-103م)، قام الإمبراطور تراجان، سلف هادريان، بحملةٍ عسكرية وصل بها إلى أطراف الجزيرة العربية المُطلّة على بلاد فارس، والمعروفة باسم “بلاد البحرين”، (المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية حاليًا)، حيث أطلَّ من “القطيف” على بلاد فارس.
من القطيف، توجّه تراجان الى العراق، حيث أقام استحكامات دفاعية بالقرب من البصرة، وهي المرة الأولى التي وصل فيها جيش روماني إلى تلك المنطقة، منذ احتلال الإسكندر المقدوني لبلاد فارس، خلال الثلث الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. كان ذلك ضمن خطة تراجان للدفاع عن سوريا. ولحماية هذا الوضع الدفاعي الجديد، ضم تراجان مملكة أرمينيا الى الإمبراطورية الرومانية، وكذلك بلاد ما بين النهرين (بالتوسُّع من غرب الفرات الى غرب دجلة)، وبلاد الأشوريين في شمال العراق، وجعل كلًّا منها ولاية رومانية مثل سوريا.
الشق الثاني من خطة تراجان هذه، اقتضى إزالة وضع الحكم الذاتي لمملكة الأنباط في “بترا”، (أرابيا بترايا) الممتدة من جنوب سوريا الحالية، وشرق الأردن، إلى صحراء تهامة، وصولًا إلى أطراف الحجاز. وكانت مملكة الأنباط في تلك المرحلة من التاريخ الروماني مملكة غنيَّة تسيطر على خطوط التجارة بين الشام والجزيرة العربية، وقد سيطرت على مدينة دمشق لفترة وجيزة من 85 الى 71 قبل الميلاد.
تجارة التوابل والبخور، كانت تأتي من اليمن، عبر الجزيرة العربية، إلى “بترا”، ومنها إلى غزة على الساحل الفلسطيني، ومن غزة تُشحن بحرًا إلى أسواق أوروبا.
مملكة “بترا” هذه جعلها تراجان ولاية رومانية، تحت الحكم المباشر من روما، وأقام فيها استحكامات عسكرية قوية في العقبة على البحر الأحمر، وشق من العقبة طريقًا برِّيًا مُبلَّطًا، إلى مدينة بُصرى في جنوب سوريا، لضمان سرعة الانتقال للألوية الرومانية في الحالات الطارئة.
هكذا طوَّق تراجان سوريا، بمواقع دفاعية رومانية خالصة من أرمينيا والعراق، إلى البحر الأحمر. هذا الطوق عزَّزه من بعده خلفه الإمبراطور هادريان، الذي ضم فلسطين الى الولاية السورية، بعد الانتفاضة اليهودية (135م-138م).
ثم قام الإمبراطور سبتيموس ساويرس في العام 197م بحملة توسُّعية في شمال العراق، بهدف إقامة حاجز إضافي للدفاع عن سوريا. والمعروف أنَّ سبتيموس هو من مواليد ليبيا، ومسقط رأسه هناك المدينة الرومانية المعروفة في التاريخ الروماني باسم “لابتيس ماغنا”، حيث وسَّعها وجمَّلها سبتيموس، وما زالت قائمة الى اليوم، سالمة أكثر من أيِّ أثر روماني آخر في العالم، بما فيه قلعة بعلبك في لبنان. وهي الآن معروفة في ليبيا باسم مدينة “الخُمس” التي تبعد حوالي 140 كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من مدينة طرابلس العاصمة.
أذكر أنني، في شهر حزيران من العام 1970، زرت طرابلس لتغطية مؤتمر قمة عربي، بحضور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، قبل نحو ثلاثة أشهر من وفاته، وبعد ثورة معمر القذافي في الفاتح من أيلول (سبتمبر) بتسعة أشهر فقط (انعقد المؤتمر في قاعدة “عقبة بن نافع”، وهي قاعدة جوية أميركية سابقة كانت تدعى “قاعدة ويلاس”). وبعد انتهاء القمة العربية الموسَّعة، التي مثَّل لبنان فيها الرئيس شارل حلو، انعقدت قمة أخرى لما كان يُسمى في حينه “دول المواجهة”، لم يكن لبنان من بينها، بل كانت صفته من “دول المساندة”، فارتأى الرئيس اللبناني أن يعود الى بيروت لأنه غير معني بالقمة الثانية، وغير مدعوٍّ إليها أصلَا. لكن القذافي استوقفه، وقال له: “لا تسافر لأنني سوف أُريكَ معلمًا رومانيًا أعظم من قلعة بعلبك اللبنانية”، فانتقلا معًا إلى “مدينة الخُمس” التي أذهلت الرئيس حلو. ويقدِّر بعض المهتمين بشؤون الآثار، أنَّ سبتيموس أنفق على توسعة وتجميل مسقط رأسه، بالحجارة المنحوتة، والأقواس المعمارية الخالدة، والمنحوتات النادرة، ما يعادل نصف ما أنفقته روما على المدن الإيطالية قاطبةً!
*****
اختلفَ الوضعُ قليلًا في بلاد فارس بقيام الدولة الساسانية بقيادة الملك أردشير الأول، وابنه شاه بور الأول، وهي الدولة التي اعتنقت الزرادشتية ديانة رسمية للبلاد، وذلك في أواسط القرن الثالث الميلادي (سُمِّيَت “إيران شهر”، أي “بلاد الآريين”). واعتناق الدولة الساسانية للزرادشتية يُشبه كثيرًا اعتناق الشاه إسماعيل الصفوي للمذهب الشيعي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. ومع أنَّ الدولة الساسانية، في بدايتها، كانت دولة قويَّة نسبيًا، إلّاَ أنَّ حدودها لم تكن ثابتة. وقد جاء في كتاب “أطلس تاريخ الإسلام” (الصادر عن “دار الزهراء للعالم العربي” في مصر، عام 1986، بإشراف الدكتور حسين مؤنس): “هناك مبالغة في نصوص تصوير اتساع دولة فارس في العصر الإيراني؛ لأنَّ فارس لم تكن قط في أيِّ عصر من عصور تاريخها قبل الإسلام دولة ثابتة الحدود، إنما كانت حدودها تتَّسعُ أحيانًا في عصور الملوك الأقوياء، وتنقبض في عصور الضعفاء، وهم الأكثرون”.
كانت غالبية حروب الدولة الساسانية في إيران، مع الإمبراطورية الرومانية، ومن بعدها الإمبراطورية البيزنطية، مناوشات حدودية، كما في المرحلة السابقة، بعد الفتح الإسكندري. لكن القوات الساسانية في بعض حروبها الحدودية، استطاعت أن تهزمَ أو تقتل وتجرح عددًا من الأباطرة الرومان أكثر من أيِّ مرحلة سابقة.
في العام 242م، قام الإمبراطور الروماني غورديان الثالث (حكم من 238م الى 244م)، بحملة ناجحة ضد الدولة الساسانية بقيادة الملك شاه بور الأول، فأنزل بالجيش الفارسي هزيمة مشهودة في معركة “الفلوجة” في العراق. وبعد المعركة توفي قائد الحرس الإمبراطوري، وهو والد زوجة الإمبراطور، بسبب المرض، فاختير لقيادة الحرس (وهو أشبه ما يكون بالحرس الجمهوري الذي أقامه صدام حسين خلال فترة حكمه، سواء من حيث القوة والعتاد أو من حيث الامتيازات)، ضابط يُدعى ماركوس فيليبوس، وهو سوري من الجولان، عُرف تاريخيًا باسم “فيليب العربي”.
خلال تلك الفترة القصيرة قُتل الإمبراطور غورديان في ظروف غامضة، والمرجح أنها مؤامرة من ضباط الحرس، الذين أعلنوا على الفور اختيار “فيليب العربي” إمبراطورًا (حكم من 244م الى 249م). ولهذا السبب اضطر الإمبراطور فيليب أن يعقد هدنة مع الملك الفارسي، ليعود سريعًا إلى روما ليحصل على تثبيت لمنصبه الجديد من مجلس الشيوخ. وقد دفع لقاء ذلك مبلغًا كبيرًا من المال إلى الملك الفارسي يُقدَّر بنحو 500 ألف دينار من الذهب!
الثابت تاريخيًا أنَّ الإمبراطور فيليب هو من “عرب اللجاة”، وهي منطقة الحجارة البركانية، في سوريا الحالية، بين حوران وجبل الدروز، وقد حذا حذو سلفه سبتيموس سويروس، من حيث الاهتمام بالمنطقة التي ولد فيها، وإعمار مدنها. وكانت “اللجاة” في ذلك الوقت جُزءًا من ولاية بترا، التي كانت من قبل مملكة ذات حكم ذاتي ضمن الإمبراطورية الرومانية.
*****
أما الإمبراطور الروماني الأتعس حظًّا من أسلافه، في الحرب مع الفرس، فهو “فالريان” (حكم من 253م – 260م)، وقد اشتهر باضطهاده للمسيحيين في جميع أنحاء الإمبراطورية. وهو جاء إلى الشرق في حملة تأديبية ضد زنوبيا ملكة تدمر السورية، التي أصبحت السلطة في يدها، كوصية على ابنها القاصر، بعد اغتيال زوجها، العائد من معركة مظفَّرة ضد الفرس.
استغلّت زنوبيا انشغال الدولة الرومانية، بحروب عديدة، أنهكتها وأضعفتها، وبصراعاتٍ على السلطة استنزفتها، وقامت بالسيطرة على الولايات الرومانية في جوارها من أقصى الأناضول الى أقصى صعيد مصر، فاعتبرت نفسها ندًّا لروما، وأعلنت نفسها إمبراطورة، وبعدما كانت تدمر مملكة صغيرة تابعة، صارت إمبراطورية مستقلة. ولهذا جرَّد فالريان حملته ضدها واعتقلها، وأرسلها مع عائلتها مخفورةً إلى روما حيث قضت هناك بقية حياتها. لكن الإمبراطور الروماني فالريان، وهو في طريق عودته مع جيشه، وقع في كمين فارسي في سهل الرها عند أعالي نهر الفرات، فأسره الملك الفارسي شاه بور الأول، مع جيشه، ومات في الأسر، حيث نُسجت روايات كثيرة حول مصيره وعذاباته في الأسر الفارسي. وهو القائد الروماني الوحيد الذي وقع في يد الفرس.
في منتصف القرن الرابع، اعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية قائد فيلسوف وشاعر، عالي الثقافة، هو الإمبراطور “جوليان” (المعروف باسم “يوليانوس المرتد”)، ابن شقيقة الإمبراطور الأسبق قسطنطين الكبير، الذي اعتنق المسيحية، وجعلها دين الدولة الرومانية، وترأس “مجمع نيقية” في العام 325، وهو أول مجمع مقدس لأساقفة الإمبراطورية الرومانية في الغرب والشرق. لكن الإمبراطور جوليان، ابن شقيقته، ارتد عن المسيحية، ونكّل بالمسيحيين، وأعاد التقاليد الدينية القديمة القائمة على تعدُّد الآلهة.
بعدما استتب الأمر للإمبراطور جوليان، ونجح في توحيد الإمبراطورية، زحف الى الشرق، عام 360م، في حملة كبيرة ضد الدولة الساسانية في بلاد فارس، كانت ناجحة في بدايتها، حيث وصلت حملته الى العاصمة الفارسية (ستسيفون)، لكنه لم يشأ أن يحاصرها، بل واصل حملته في العمق الإيراني، حيث اصطدم بمشكلات لوجستية، من حيث نقص الإمدادات، فعاد أدراجه، وخاض قتالًا شديدًا مع الجيش الفارسي في مدينة سامراء في العراق، حيث أصيب بجرحٍ قاتل.
كانت مدينة أنطاكية آخر محطة سورية للإمبراطور جوليان، وهو في طريقه الى بلاد فارس. والمعروف أنَّ أنطاكية هي عاصمة المسيحية الأولى، فقابلته ببرود وعداء، حيث كتب الإنطاكيون في كل ساحات المدينة شعارات ساخرة ضدَّه، ورسومًا كاريكاتورية على الجدران، لم يتسع وقته لإزالتها، لكنه ردَّ على أهل أنطاكية بالمثل، وهو يغادرها إلى الحرب التي لم يعد منها، بقصيدة شعرية هجائية كتبها وعلقها على مدخل المدينة!
كان من الطبيعي أن يعتقد المسيحيون في ذلك الوقت، بأنَّ جوليان، كما فالريان، دُحرا وقتلا في بلاد فارس، جزاء تنكيلهما بأتباع المسيح!
بعد حكم جوليان بفترة وجيزة انشطرت الإمبراطورية الرومانية إلى غربية وشرقية، واحدة عاصمتها روما، والثانية عاصمتها القسطنطينية.
*****
يمكن تلخيص الاستراتيجية الرومانية لاحتواء إيران، قبل انشطار الإمبراطورية، بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى، من بداية حكم أغسطس قيصر في العام 31 قبل الميلاد إلى نهاية حكم نيرون في منتصف العام 68 للميلاد، وهي مرحلة شملت خمسة أباطرة، أغسطس (الذي وُلد المسيح في عهده)، تيبيريوس (الذي صُلب المسيح في أيامه)، كاليغولا، كلوديوس (الذي احتل بريطانيا وجعلها ولاية رومانية، ونيرون (الذي احترقت مدينة روما في فترة حكمه). وهؤلاء قام تعاطيهم مع الفرس على الدفاع القوي، والديبلوماسية المرنة. فقد أقيمت معسكرات مؤقتة للألوية الهجومية داخل الحدود، والاعتماد خارجها على ملوك تابعين لروما يشكلون مناطق عازلة، أو يجري استخدامهم بالوكالة في مناوشات مجدودة، غالبًا ما كانت تمهيدًا لتحرُّكٍ ديبلوماسي.
المرحلة الثانية، هي مرحلة “العائلة الفلافية”: فاسباسيان، وابناه تيتوس، ودوميتيان (امتد حكم هذه السلالة من العام 69م إلى العام 96م). قامت استراتيجية هذه المرحلة على إلغاء الملوك الزبائن، وإقامة معسكرات دائمة للألوية العسكرية، وبناء عوائق دفاعية منيعة ومانعة.
المرحلة الثالثة والمتأخّرة، من 284م الى انشطار الإمبراطورية في القرن الرابع الميلادي، قامت على الدفاع في العمق، مع قطعات عسكرية متحرّكة ميدانيًاً من الاحتياطي. وقد بقيت الحدود الشرقية للإمبراطورية مفتوحة، لأنَّ التفكير الاستراتيجي خلال تلك المرحلة، الطويلة نسبيًا، لم يكن مُرتكزاً على الحدود، بل على الشعوب.
لذلك تمركزت القوات العسكرية في المدن وليس على الحدود المفترضة، حيث أقيمت قلاع لها حاميات عسكريَّة صغيرة غايتها تأمين خطوط المواصلات ليس إلّا.
(الحلقة المقبلة يوم الأربعاء المقبل: تسلُّم وتسليم بين العرب والروم!)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.