الأوهامُ التي تُشَكِّلُ سياسةَ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط

كابي طبراني*

على مدى عقود، بُنِيَت سياسةُ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على رُكامٍ من الأوهامِ والأُمنِياتِ والكَذِبِ الصريح. لم تَكُن هذه الأكاذيبُ مجرَّدَ تفاصيل ديبلوماسية عابرة، بل غطاءً لاستراتيجياتٍ فاشلة، ومُبرِّرًا لحروبٍ كارثية، وأداةً لتثبيت وقائع لطالما زعمت واشنطن أنها تسعى إلى تغييرها. واليوم، ومع تراجع نفوذها في المنطقة، لم يَعُد بالإمكان إنكار ثمن هذه الأوهام.

لنأخذ غزة مثالًا. خلال الحرب الأخيرة، ظلّت إدارة جو بايدن تُرَدّدُ أنَّ وقفَ إطلاق النار بات وشيكًا، وأنها تسهر ليلًا ونهارًا لتحقيقه، وأنها تَكتَرثُ بحياةِ الفلسطينيين بقدرِ ما تكترثُ بحياة الإسرائيليين، وأنَّ اتفاقَ التطبيع السعودي-الإسرائيلي باتَ قاب قوسين. لكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن صحيحًا. فالولايات المتحدة رفضت استخدامَ ورقتها الوحيدة الفعّالة—المساعدات العسكرية لإسرائيل—لوقف القصف. وظلّت تتحدّث عن “حلِّ الدولتَين” فيما كانت القيادة الإسرائيلية تُعلِن جهارًا أنها ترفضه. أما المملكة العربية السعودية، فكرّرت أنَّ التطبيعَ مرهونٌ بالتقدّم نحو إقامة دولة فلسطينية. ومع ذلك، استمرّت واشنطن في ترديد شعاراتها، حتى بعدما باتت جوفاء في نظر الجميع.

هذه العادة ليست جديدة. لعقودٍ طويلة قدّمت أميركا نفسها وسيطًا “محايدًا” وهي في الواقع مُنحازة. دفعت بمسارات “سلامٍ” لم تفعل سوى تثبيت الأمر الواقع. رفعت شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان فيما كانت تُرسِلُ السلاح والدعم لحلفائها المُستبدّين. ومع كلِّ فشل، لم تكُن هناكَ مراجعة أو محاسبة، بل المزيد من الإنكار. وهكذا تحوّلت الأكاذيب إلى سياسةٍ راسخة.

تتكرّرُ دورة الفشل نفسها في كل محطة: تبدأ بسوءِ قراءةٍ للواقع— من افتراضِ أنَّ ياسر عرفات سيقبلُ إملاءات كامب ديفيد في العام 2000، إلى الاعتقادِ بأنَّ “حماس” لا يُمكِنُ أن تفوزَ بالانتخابات في العام 2006، إلى التقدير بأنَّ بشار الأسد على وشك السقوط بعد العام 2011، أو أنَّ الجيش الأفغاني قادرٌ على الصمود بعد انسحاب القوات الأميركية. ثم تأتي المفاجأة حين تتكشّفُ الحقيقة. وأخيرًا، الكذبة: الإعلان بأنَّ النجاحَ قريب، حتى ولو كان الفشل صارخًا أمام الجميع.

المشكلةُ ليست في الوقوع بالأخطاء؛ فذلك طبيعي في السياسة الدولية. المشكلة أنَّ واشنطن لا تتعلّم. الأخطاءُ تتكرَّر، والوجوهُ المتعاقبة تعود إلى ترديد الشعارات نفسها. لا محاسبة، لا مراجعة، لا تغيير في المسار. التفاؤل يتحوّلُ إلى إدمانٍ مؤسَّسي، وأحيانًا إلى قناعةٍ زائفة تخلط بين الوهم والواقع.

النتيجة: انحسارُ النفوذ الأميركي. إسرائيل لم تَعُد تكترثُ بالتحذيرات الأميركية، بل تتحدّاها علنًا. الشعوبُ العربية تستقبلُ التصريحات الأميركية بالسخرية أو اللامبالاة. الميليشيات والأنظمة الصلبة أثبتت قدرتها على تحدّي واشنطن والصمود أمامها. وهكذا تُحاولُ الولايات المتحدة التعويض بالكلام. لكنَّ الكلامَ لا يصنعُ قوة. فالقوة الحقيقية صامتة، أما ضجيج الخطابات فليس سوى ستارٍ للعجز.

مُفارقةٌ لافتة برزت مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العام 2024. فعلى الرُغم من مواقفه المُعلَنة لصالح إسرائيل ودعمه السافر للطغاة، ساد نوعٌ من الارتياح في بعض الأوساط العربية. لماذا؟ لأنه، على الأقل، لم يتظاهر. لم يتحدّث عن “حلِّ الدولتين” الذي لا يؤمن به أحد. لم يتباكَ على حقوق الفلسطينيين فيما يواصل تزويد إسرائيل بالسلاح. كان صريحًا، وربما فجًّا، لكنه لم يخلط الوهم بالواقع. ولدى كثيرين، كان الصدق الوقح أهون من النفاقِ المُزَيَّن.

بطبيعة الحال، المسؤولية لا تقع على واشنطن وحدها. الفلسطينيون منقسمون ومأزومون بلا قيادةٍ موحّدة. إسرائيل أكثر تطرُّفًا وتوسُّعية من أيِّ وقت مضى. الأنظمة العربية تستغل الثغرات الأميركية لمصالحها. لكن هذا لا يعفي الولايات المتحدة من دورها؛ فالفشلُ ليس مصادفة بل نتاجُ منظومةٍ تُكافئ التهويلَ وتُعاقب الصراحة، وتستبدلُ السياسة بالخطابة.

الضررُ مُزدَوِج. في الخارج، يتآكل ما تبقّى من مصداقيةٍ أميركية. في الداخل، يُضَلَّلُ الرأيُ العام. كلُّ حربٍ جديدة تُقدَّمُ كـ”منعطفٍ حاسم”. كلُّ مبادرةِ سلام تُصوَّرُ كتاريخية. وفي النهاية، تتكرّرُ النتيجة: مزيدٌ من الدماء، مزيدٌ من الفوضى، مزيدٌ من خيبة الأمل. يُقال للأميركيين إنهم يحاربون من أجل الديموقراطية أو ضد الإرهاب، لكن الواقع هو الخراب، والمرارة، وتمكين خصوم واشنطن بدل إضعافهم.

يكفي النظر إلى حصيلة العقدين الماضيين: العراق انتهى بحكومةٍ وميليشيات تدور في الفلك الإيراني. أفغانستان عادت إلى طالبان بعد انسحابٍ مُذلٍّ. ليبيا غرقت في الفوضى والسلاح. سوريا شهدت حربًا مدمّرة تحوّلت إلى ساحة نفوذ إيراني وروسي. في كلِّ مرة، تُردّدُ واشنطن أنَّ النجاحَ على بُعدِ خطوة، لكنها في كل مرة تخرجُ بخيبةٍ أكبر.

الحلُّ لا يبدأ بخطّةٍ سحرية، بل بجرعةِ صراحة. الاعترافُ بأنَّ “حلَّ الدولتين” قد مات منذ زمن. الإقرارُ بأنَّ المساعدات العسكرية تمنحُ إسرائيل ضوءًا أخضر لممارساتها. التسليمُ بأنَّ العقوبات نادرًا ما تُغيّرُ سلوكَ الأنظمة، بل غالبًا ما تزيدها تصلّبًا. وأخيرًا، التواضع أمام حقيقة أنَّ القوة الأميركية لا تستطيع إعادة تشكيل المجتمعات بإرادةٍ خارجية، مهما بلغ حجم الموارد أو التفوُّق العسكري.

الصدقُ لن يُنهي أزماتَ غزة أو سوريا أو لبنان أو إيران. لكنهُ شرطٌ للخروج من دوّامة الأوهام. من دونه، ستبقى واشنطن أسيرةَ انعكاساتها في مرآةٍ مشوّهة: تَعِدُ بما لا تستطيع تحقيقه، تُكرّرُ ما ثبتَ فشله، وتتساءل لماذا لم يَعُد أحدٌ يصدّقها.

إنَّ التحدّي الأكبر لأميركا في الشرق الأوسط ليس نقصًا في المعلومات أو في السلاح أو في الموارد. التحدّي هو غيابُ الشجاعة على مواجهة الواقع كما هو، لا كما تتمنّى أن يكون. وحتى يحدث ذلك، ستظل الأكاذيب تحكم السياسة الأميركية، وسيظل الفشل يطاردها حيثما ذهبت.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى