حينَ تَتَحَوَّلُ الثقافة إلى رأسمال: رهانُ السعودية الأكبر بَعدَ النفط

كابي طبراني*

تُروى حكايةُ التحوُّلِ السعودي عادةً بلغةِ الاقتصادِ النفطي وتنوُّعِ مصادر الدَخلِ والمشروعات العملاقة والوجهات السياحية الكبرى. غير أنّ واحدةً من أكثر الثورات عُمقًا وأقلّها تناوُلًا في السرد العام هي الثورة الثقافية. ففي غضونِ سنواتٍ قليلة فقط، انتقلت المملكة من موقعٍ هامشي في المشهد الثقافي العالمي إلى مركزِ تجربةٍ طموحة: تحويل الثقافة إلى ركيزةٍ اقتصادية قائمة بذاتها. ليست هذه مجرّد مبادرة تجميلية أو استعراضية، بل هي أطروحةٌ استثمارية جريئة تستحقُّ أن ينصتَ لها العالم.

الصناعات الثقافية والإبداعية على مستوى العالم تُقدَّرُ قيمتها بنحو 2.3 تريليوني دولار سنويًا، وتُوَلّدُ أكثر من 30 مليون وظيفة وتُسهم بما يقارب 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ورُغمَ هذا الوزن، غالبًا ما تُختَزَلُ الثقافةُ ضمنَ السياحة أو الترفيه أو ما يُسمّى بـ “القوة الناعمة”، الأمرُ الذي يقلّل من مكانتها كقوة اقتصادية بحدِّ ذاتها. السعودية تسعى إلى قلب هذه المعادلة. فوفقًا لاستراتيجية الثقافة الوطنية، تستهدفُ المملكة رَفعَ مساهمة القطاع الثقافي إلى 3% من الناتج المحلي بحلول العام 2030، أي نحو 48 مليار دولار، وتوفير أكثر من 346 ألف وظيفة. ذلك يعني أنّ الثقافة في السعودية لن تكون نشاطًا تكميليًا بل قطاعًا يوازي قطاعات اقتصادية راسخة.

إنشاءُ وزارة الثقافة في العام 2018 ثم إطلاق الصندوق الثقافي في 2021 شكّلا نقطةَ تحوُّلٍ مَفصليّة. الثقافةُ لم تَعُد شأنًا رمزيًا بل أصبحت قطاعًا مُنظَّمًا له أذرعٌ تمويلية وأدواتُ حَوكَمة واضحة. الصندوق يقومُ بدورِ الذراع الاستثمارية، من خلال تقديم القروض ورؤوس الأموال والمنح، مع تحفيز مشاركة القطاع الخاص عبرَ آلياتٍ لتقاسُم المخاطر. وحتى آب (أغسطس) 2025، كان الصندوق قد دعم أكثر من 1440 مبدعًا، ومَوَّلَ 150 مشروعًا، وأسهم بأكثر من نصف مليار دولار في الناتج المحلي. هذه أرقامٌ تعكسُ عوائدَ حقيقية، لا مبادرات تجريبية عابرة.

الطلبُ على التمويل الثقافي في السعودية تضاعفَ ثلاث مرات بين 2019 و2023 ليصل إلى 6.1 مليارات دولار، ومن المُتوقَّع أن يقفز إلى 22.7 مليارًا بحلول 2030. هذا يخلقُ فجوةً تمويلية تتراوح بين 6.7 و9.3 مليارات دولار، وهي فرصةٌ مفتوحة أمام المستثمرين المحلّيين والدوليين. ما القطاعات الأكثر جاذبية؟ خمسةُ مجالات رئيسة—الفنون الطهوية، الأزياء، التراث، السينما، وفنون الأداء— ستستحوذُ على ثُلثَي حجم الطلب المُتَوَقَّع. الأزياء مثلًا قطاع عالمي ضخم، والسينما مُرشَّحة لأن تجعلَ السعودية مركزًا إقليميًا، بينما يجمع المطبخ السعودي بين فُرَصِ التصدير وعناصر الجذب السياحي. المُفارَقة أنَّ هذا الاستثمار لا يَقتصِرُ على القطاعات المُربِحة فقط، بل يمزجُ أيضًا بين صيانة التراث واستشراف المستقبل عبر توظيف الذكاء الاصطناعي وتقنيات الواقع الافتراضي. إنها معادلةٌ تجمعُ الأصالة والابتكار في آنٍ واحد.

لكن لا تزالُ هناك عقبات. حتى العام 2024، لم تُمثّل مساهمة البنوك التجارية سوى 4% من إجمالي التمويل، بينما ظلَّ نشاطُ رأس المال الجريء والاستثمار الخاص محدودًا. الشركاتُ الثقافية تُواجِهُ تحدّيات مثل ضعف الضمانات، وتذبذب الإيرادات الموسمية، ونظرة متحفّظة من المُقرِضين. لذلك جاءَ تدخُّلُ الدولة واقعيًا: ضمانات قروض، آليات استثمار مشترك، وبرامج تمويل مُوَجَّهة مثل برنامج تمويل قطاع السينما بقيمة 234 مليون دولار، الذي يُحَوِّلُ الحوافز والحقوق التوزيعية إلى أصولٍ قابلة للتمويل. هذه الأدوات تخلقُ بيئةً أكثر وضوحًا وتُقلّلُ من درجةِ المخاطرة، وهو ما يَفتحُ شهيّةَ المستثمرين الذين اعتادوا على صفقاتٍ فردية غير مُنَظَّمة.

البُعدُ الآخر لا يقلُّ أهمية: البُعدُ الرمزي والسمعة الدولية. السعودية باتت تُصَدِّرُ فنونها كأداةٍ لتعزيز مكانتها العالمية. المشاركة في بينالي البندقية، الشراكات مع متاحف كبرى مثل اللوفر، والإنتاجات المشتركة مع هوليوود رسائل واضحة على مستوى الجودة. مهرجاناتٌ، مثل البحر الأحمر السينمائي، اجتذبت جمهورًا عالميًا، وموسم الرياض وحده استقطب أكثر من 20 مليون زائر. هذه ليست قوة ناعمة بالمعنى التقليدي، بل هي قوة صلبة تُترجَمُ إلى استثماراتٍ أجنبية مباشرة وسياحةٍ مُتدفِّقة وحضورٍ فاعل في سلاسل القيمة الثقافية. والدليلُ أنّ الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الفنون والترفيه ارتفعت أربعة عشر ضعفًا لتصل إلى 267 مليون دولار في 2023.

البعضُ قد يَنظُرُ إلى التجربة الثقافية السعودية برَيبة، مُعتَبِرًا إياها مُبالغًا فيها أو مدفوعة بالكامل برعاية الدولة. لكن مَن يتذكّر بدايات الاستثمار الكوري في الثقافة في التسعينيات—قبل أن يتحوّلَ الكي-بوب والدراما الكورية إلى قوة عابرة للقارات—سيُدرِكُ أنّ مثل هذه المشاريع ليست مستحيلة. فرنسا عبر حوافزها الضريبية للأفلام، وإيطاليا عبر صناديقها الثقافية، وبريطانيا عبر أدوات التمويل الإبداعي، كلُّها شواهد على أنّ الاستثمار في الثقافة يُثمرُ اقتصاديًا. السعودية تمشي في الطريق ذاته، لكن بسرعة أكبر وبموارد أوّلية أوسع.

السؤال لم يَعُد: هل يُمكِنُ للثقافة أن تَدُرَّ عوائدَ اقتصادية؟ فالجواب واضح، نعم. السؤال الحقيقي هو: هل سيُعامِلُ المستثمرون العالميون الثقافة السعودية كفئةِ أُصولٍ جديرة بالثقة؟ مَن يتحرَّكَ مُبكِرًا سيَجِدُ حوافزَ حكومية، آليات لتقاسم المخاطر، وقاعدة استهلاكية في نموٍّ مُتسارع. أما مَن يتأخّر فقد يكتشفُ بحلول 2030 أنَّ السوقَ أصبحت مُكتفية بذاتها، وأنَّ فُرَصَ الدخول باتت محدودة.

في زمنٍ تتصدّر فيه معايير الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية والتحوُّل الرقمي جداولَ أعمال المُستثمرين، تُقدّمُ الثقافة مزيجًا نادرًا: عائدٌ مالي، أثرٌ اجتماعي، ورأسمالٌ رمزي. السعودية تُثبتُ أنّ الثقافةَ ليست عبئًا على الموازنة، بل سوقًا رأسمالية بحدِّ ذاتها. رهاناتُ رؤية 2030 على الثقافة جريئة، لكن الرهانات الجريئة هي التي تخلق الأسواق الجديدة. وإذا كان للتاريخ أن يرشدنا، فإنَّ الاستثمارات الثقافية التي نشهدها اليوم في الرياض وجدة والعُلا … قد تكونُ الأساسَ الذي سيُعيدُ رَسمَ خريطة الاقتصاد الإبداعي العالمي غدًا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى