تشريعاتُ العملات المُشَفَّرة: وَصفَةٌ مِثاليَّةٌ لانهيارٍ ماليٍّ عالمي
سايمون جونسون*
بَعدَ إقرارِ تشريعٍ رئيسي للعملات الرقمية (قانون “GENIUS“)، ومع وجودِ تشريعاتٍ أخرى قيد الانتظار (أقرّ مجلس النواب قانون CLARITY) ، تبدو الولايات المتحدة على أعتابِ التحوُّلِ إلى مركزٍ عالمي للأنشطة المرتبطة بالعملات الرقمية، أو حتى –كما قال الرئيس دونالد ترامب حرفيًّا– “عاصمة العملات الرقمية في العالم”. لكن على مؤيّدي التشريع الجديد تَوَخّي الحذر في ما يتمنّونه ويتطلَّعونَ إليه.
للأسف، اكتسبت صناعة العملات الرقمية نفوذًا سياسيًا كبيرًا -في المقام الأول من خلال التبرُّعات السياسية- لدرجةِ أنَّ قانون “GENIUS” ومشروع قانون “CLARITY” صُمِّما ليُحدِّا من إمكانيةِ فرضِ تنظيماتٍ فعّالة. ومن المرجح أن تكونَ النتيجةُ دورة ازدهار وكساد ذات أبعادٍ هائلة.
تاريخيًا، كانت الميزة الرئيسة للأسواق المالية الأميركية مقارنةً بالدول الأخرى هي الشفافية الأعلى نسبيًا، مما يُمَكّن المستثمرين ويُتيحُ لهم فَهم المخاطر بشكلٍ أعمق واتخاذ قرارات أكثر وَعيًا واستنارة. وتفرضُ الولايات المتحدة أيضًا قواعدَ صارمة لمنع تضارُب المصالح، وألزَمَت بمعاملة المستثمرين بشكلٍ عادل (بما في ذلك حماية أصولهم عبر ترتيباتِ ضمانٍ مناسبة)، إضافةً إلى وَضعِ حدودٍ على حجم المخاطر التي يمكن للعديد من الشركات المالية تحمُّلها.
هذا الإطار ليس وليدَ المصادفة أو نتيجةً لمنافسة السوق فحسب، بل هو نتيجةُ قوانين وقواعد حكيمة وُضعت خلال ثلاثينيات القرن الماضي (بعد كارثةٍ كبرى)، وتطوّرت بشكلٍ معقول منذ ذلك الحين. هذه القواعد هي السبب الرئيس لسهولة ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة، وطرح أفكار جديدة في السوق، وجمع رأس المال لدعم الابتكار بمختلف أنواعه.
قد يعترضُ أيُّ رائد أعمال فردي، أو حتى أي صناعة جديدة مُحتملة (مثل العملات المشفّرة)، على هذه القواعد، مدّعيًا أنها مختلفة عن أيِّ شيءٍ شهده العالم على الإطلاق. لكنَّ الابتكارَ المالي ينطوي على مخاطر على النظام المالي بأكمله، وليس فقط على المستثمرين الأفراد. الهدف من التنظيم هو حماية النظام المالي ككل.
تعلَّمَ العديدُ من الاقتصادات الكبرى -بما فيها الولايات المتحدة- هذا الدرس القاسي. فعلى مدى المئتي عام الماضية، شهدت أميركا اضطراباتٍ مالية حادة، بل وحتى انهيارات نظامية. كان أحد هذه الانهيارات مُساهِمًا رئيسًا في الكساد الكبير، الذي بدأ بانهيار سوق الأسهم في العام 1929 وامتدَّ ليُسقِط العديد من البنوك (والاستثمارات الأخرى)، مُدمِّرًا ثروات وأحلام ملايين الأميركيين. لطالما كان تجنُّبُ تكرارِ هذه التجربة هدفًا سياسيًا مهمًا. لكن قانون “GENIUS” لا يُحقّقُ هذا الهدف. يُنشئ هذا القانون إطارًا للعملات المُستَقِرّة (stablecoin)، وهي أصلٌ رقمي ناشئ مهم، تُصدره شركات أميركية وأجنبية، ويهدف إلى الحفاظ على قيمةٍ مستقرّة مقابل عملةٍ أو سلعةٍ مُعيَّنة، ويُعتبرُ الدولار الأميركي هو المُرساة الأكثر شيوعًا. تُعتبرُ العملات المُستقرّة مفيدة للمستثمرين النشطين في تداول العملات المشفّرة، حيث تُمكِّنهم من الدخول والخروج من أصولٍ مشفَّرة مُعيَّنة من دون الحاجة إلى التنقّل في النظام المالي التقليدي (غير المُشفَّر). يجب أن نتوقعَ طلبًا كبيرًا، بما في ذلك من الشركات غير المالية (مثل “وولمارت” (Walmart) و”أمازون”) التي تسعى إلى تجاوز أنظمة الدفع القائمة.
يعتمدُ نموذج عمل مُصدِري العملات المُستقرّة على الاستفادة من الفارق بين ما يدفعونه مقابل عملاتهم (وهو صفر فائدة بموجب هذا التشريع) وما يمكنهم الحصول عليه عند استثمار احتياطياتهم، تمامًا كما هو الحال في البنوك. وتتمثّلُ جميع الحوافز المُقدَّمة لمُصدِري العملات المستقرّة في استثمارِ جُزءٍ على الأقل من احتياطياتهم في أصولٍ أكثر خطورة لتحقيق عوائد أعلى. وسيكون هذا مصدرَ ضُعفٍ رئيس، لا سيما عندما يكون المُصدِرون مُرخَّصين من قِبل سلطاتٍ حكومية مُتساهلة.
في الواقع، من منظورٍ نظامي، يتمثّلُ العيبُ الرئيسي لقانون “GENIUS” في فشله في التعامل بفعالية مع المخاطر الكامنة في عمليات سحب الودائع من العملات المستقرّة، لأنه يمنعُ الجهات التنظيمية من فرضِ رأس مالٍ وسيولةٍ قوية وغيرهما من الضمانات. وعندما يواجه أيُّ مُصدِرِ عملة مستقرّة -محلّيًا كان أم أجنبيًا- مشكلة، فمن سيتدخّل، وبأيِّ سلطة، لمنعِ انتشارِ المشاكل إلى الاقتصاد الحقيقي، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي؟
إنَّ مجرّدَ تطبيق قانون الإفلاس على مُصدّري العملات المستقرّة الفاشلة سيُكلّفُ المستثمرين حتمًا تكاليف باهظة، بما في ذلك تأخير طويل في استلام ما تبقّى من أموالهم. ومن شبه المؤكد أن هذا الأمرُ سيُفاقِمُ تهافتَ المستثمرين على مُصدِري العملات المستقرّة الآخرين.
علاوةً على ذلك، إذا كانت أهداف قانون “GENIUS” تشملُ الحفاظ على الدولار الأميركي كعملةٍ احتياطية عالمية وتعزيز الطلب على سندات الخزانة (كما ذكر مؤيدوه)، فلماذا يسمح البند 15 من القانون للجهات الأجنبية المُصدِرة باستثمار احتياطياتها في أصولٍ مثل ديون حكومات بلدانها (الخطيرة)، حتى لو لم تكن تلك الديون مُقوّمة بالدولار؟ ينبغي أن نتوقّعَ من الجهاتِ التنظيمية الأجنبية أن تُقرَّ أو حتى تُفضّل مثل هذه الترتيبات. ولكن عندها سنحصل على “عملات مستقرّة” بالتزاماتٍ دولارية ثابتة، مدعومة بشكلٍ كبير بأصولٍ غير دولارية – ويمكن للمرء أن يتخيَّلَ بسهولة تأثير الارتفاع الكبير في قيمة الدولار على هذه الترتيبات (تنبيه: مشاكل سيولة فورية، ومخاوف من الإفلاس، وهروب مُزعزع للاستقرار).
هناكَ الكثيرُ من المشاكل المقبلة، خصوصًا إذا أقرّ مجلس الشيوخ أي نسخة من قانون “CLARITY”. سيسمح هذا التشريع بتضارب المصالح والتعاملات الذاتية على نطاقٍ لم يُسمح به منذ عشرينيات القرن الماضي. هناك أيضًا مخاوف أمنية وطنية كبيرة، لدرجة أن كلًّا من قانون “GENIUS” ومشروع قانون “CLARITY” يسمحان، بل ويُسَهِّلان، استمرارَ استخدام العملات المستقرّة (والعملات المشفرة على نطاق أوسع) في المعاملات المالية غير المشروعة.
قد تصبحُ الولايات المتحدة عاصمة العملات المشفّرة في العالم، وفي ظلِّ إطارها التشريعي الناشئ، ستزداد ثراءً بالتأكيد قلةٌ من الأغنياء. ولكن في حرصه على تنفيذ أوامر صناعة العملات المشفّرة، عرّض الكونغرس الأميركيين والعالم لاحتمالٍ حقيقي لعودة الذعر المالي والأضرار الاقتصادية الجسيمة، مما يعني خسائر فادحة في الوظائف وتدميرًا للثروات.
- سايمون جونسون، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2024 وكبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، هو أستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومدير هيئة التدريس في مبادرة “تشكيل مستقبل العمل” التابعة لمعهد مااساتشوستس للتكنولوجيا، والرئيس المشارك لمجلس المخاطر النظامية لمعهد المحللين الماليين المعتمدين. وهو مؤلف مشارك (مع دارون أسيموغلو) في كتاب “القوة والتقدُّم: صراعنا الذي دام ألف عام حول التكنولوجيا والازدهار”(2023).
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.