فصولٌ دائمةٌ من أَدبيَّات المنبر

هنري زغيب*

لا يزالُ المنبرُ مدرسةً مثاليةً لدراسة الطبائع الاجتماعية، فضائلَ ومثالب، لأَنها تَجمع يوميًّا طلَّابً معرفة وثقافة تفترضان بهم أَن يكُونوا على مستوى حُرمة المكان وقدسية المنبر.

النقاط كثيرةٌ في هذا المجال، أَكتفي منها اليوم بسِتٍّ تتكرَّر تقريبًا في كل احتفال.

النقطة الأُولى: احترامُ التوقيت. نادرًا ما يبدأُ الـمُنَظِّمون الاحتفال وَفْقَ ما يكون توقيتُه في الدعوة إِليه. وعُذْرُهم مرةً انتظارُ المتأَخِّرين بسبب زحمة السير، مرةً انتظارُ وصولِ عدد أَكبر من الحضور في القاعة، مرةً انتظارُ صاحب الرعاية أَو مَن يُـمَثِّله. ولم أَفهَمْ بعدُ حتى اليوم موضةَ جعل الاحتفال برعاية واحدٍ من “بيت بو سياسة”، لا يزيد حضورُه ذرَّةً من مستوى الاحتفال.

النقطة الثانية: تقديمُ الاحتفال. غالبًا ما تتولَّى التقديمَ سيِّدةٌ يُفترَض أَنها تكتفي بتقديم الخطيب التالي، فإِذا بها تَجْلُدُ الحضورَ بتلاوة سيرته الذاتية الطويلة الممتدَّة صفحاتٍ تُخبرنا عنه مراحلَ ومؤَلفاتٍ ووظائفَ وأَوسمةً وتكريمات، فإِذا بالتقديم يجتاح نصف الوقت الذي للخطيب في كلمته. وغالبًا ما تكون المقدِّمة على جَفاء مع اللغة العربية فتجلُد عندها الحضورَ مرَّتين.

النقطة الثالثة: “السلالير”. وهي كلمة جمعتُ بها مفردة الهاتف الخَلَويّ “سيلولر” وجعلتُها على وزن “مفاعيل”، سخريةً ممن يتركون هواتفَهم مفتوحةً خلال الاحتفال، فتروحُ ترنُّ وتطنُّ فيما الخطيب إِلى المنبر، أَو يروحون هُم يمارسون المراسلة على شاشة الهاتف، أَو يهاتفون، أَو يتلقَّون مخابراتٍ ويجيبون مُخْفين فمهم بأَصابعهم في مشهد قَمِيْءٍ مُقْرف.

النقطة الرابعة: اللغة العربية. وهنا الداهيةُ الدهياء، وأَكثرُ ما يَفضحُ المنبرُ الواقفين إِليه. أَفهم أَن يكون “بيت بو سياسة” في معظمهم أُميِّين لغةً ولفظًا وتشكيلًا ونطقًا وقراءةً، ولكن ما عُذْر خطباء هيَّأُوا كلماتهم ليُلقوها فإِذا وقفوا إِلى المنبر أَطاحوا قواعد اللغة فزَرعوا التلوُّث السمعيَّ في ذائقة الحضور. لذا يجدر بمن يخطبون أَن يكتبوا خُطَبَهم ويُشَكِّلوها بالأَحمر كي يلفت الأَحمر عينهم فيلفُظوا سليمًا ويوفِّروا على الناس هُزْءَهم من خطيبٍ يخطب بالعربية ولا يملك أَبسط قواعدِها.

النقطة الخامسة: طُول الخطاب. وهنا يجدُر بالخطيب أَن ينتبه إِلى عددِ زملائه الخطباء في الاحتفال، فيحسبَ لخُطبته دقائقَ يحترم بها الحضور فلا يجلُدُهم بنصٍّ طويلٍ يجعلُهم يضجَرون ويتثاءَبون وينعسُون ويتهامسون مع جيرانهم، ويُشيحون عن المنبر بانتباههم ولو انهم ينظْرون بعيونهم إِلى المنبر فيظنُّ الخطيب أَنهم يسمعونَه، وهُم لا.

النقطة السادسة: غالبًا ما تصلُ البطاقة وفيها الدعوة إِلى “الحفل” أَو مَن “يُقدِّم الحفْل”. وهذا خطأٌ فاضح لأَن كلمة “الحفل” تعني الناس، إِذ يقول الخطيب “أَيُّها الحفْل الكريم”، أَيْ “أَيُّها الحضور” أَيْ يعني الناس. لذا يجب إِبدال كلمة “حفل” في الدعوات بكلمة “احتفال” لأَنها تعني الحدَثَ المنبريّ.

ختامًا: هي ذي نقاطٌ ستٌّ عدَّدْتُها بسرعة، وثمةَ بعدُ سواها، لكنني أَكتفي بها اليوم لأَلفت الجمهور والخطباء إِلى أَننا، في أَيِّ احتفال، لا نعطيهم من وقتنا بل من عمرنا، فأَقلُّ الأخلاق أَلَّا يجعلوا حضورَنا مضيَعةً للوقت عوض أَن يكون حصادَ معرفة وثقافة، كي لا نندم على حضورنا احتفالهم فنعودَ ونحن نلعن الساعة التي صرفْناها في الإِصغاء إليهم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى