اليمن بينَ الحصارِ والهَيمَنة: كيفَ حَوَّلَ الحوثيون العَمَلَ الإنساني إلى سلاحٍ سياسي

من ساحات الحرب إلى مكاتب المنظمات الدولية، نجح الحوثيون في اليمن في تحويل المساعدات والوساطات إلى أدوات نفوذ، بينما يكتفي العالم بإدارة الأزمة بدل مواجهتها.

وكيل وزارة خارجية الحوثيين إسماعيل المتوكل مع كريستين شيبولا: إستخدم الأول اللقاء لتثبيت شرعية الحوثيين.

فاطمة أبو الأسرار*

في الثاني من أيلول (سبتمبر) 2025، وبعدَ أربعةِ أيام فقط على مقتل أحمد الرهوي واثني عشر مسؤولًا آخر من حكومة الحوثيين في غاراتٍ جوية إسرائيلية على صنعاء، عقدت رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن، كريستين شيبولا، لقاءً مع وكيل وزارة الخارجية في حكومة الحوثيين، إسماعيل المتوكل. ووفقًا لوكالة “سبأ” التابعة للجماعة، قدّمت المسؤولة الدولية تعازيها في “الجريمة التي ارتكبها الكيان الصهيوني”، وأبدت “تضامنها” مع اليمن، مُؤكّدةً أنَّ برامج المساعدة الإنسانية لن تتأثّرَ بما حدث.

ورُغمَ أنَّ الصيغة التي نسبتها وسائل الإعلام الحوثية إلى رئيسة البعثة يُرجَّحُ أن تكونَ مُبالغًا فيها أو مُحرَّفة عن سياقها، فإنَّ اللجنة الدولية لم تتمكّن من نفيها علنًا. فالتشكيك في الرواية الحوثية أو نفيها صراحةً قد يعني خسارة الوصول الإنساني إلى مناطق سيطرة الجماعة، وتعريض موظفّيها للخطر، وربما تعليق عملياتها بالكامل في شمال البلاد، حيث يعيش نحو ثلثي سكان اليمن.

وهكذا، تحوّل البيان كما ورد في الإعلام الحوثي إلى ما يُشبِهُ شهادةَ “إقرارٍ دوليّ” بسلطة الجماعة، استثمرته الأخيرة لتعزيز شرعيتها السياسية والإدارية، داخليًا أمام جمهورها، وخارجيًا في خطابها مع المنظمات الدولية والدول المانحة.

لسنواتٍ طويلة، ساد اعتقادٌ شائع بأنَّ بقاءَ الحوثيين في السلطة يعتمدُ أساسًا على تفوُّقهم العسكري والدعم الإيراني المستمر. غير أنَّ هذين العاملين، على أهميتهما، لا يُفسِّران وحدهما قدرة الجماعة على الصمود. فثمة عامل ثالث لا يقلّ تأثيرًا وغالبًا ما يُتَجَاهَل: تسليح التدخّل الدولي.

في العام 2018، حين كانت القوات الموالية للحكومة الشرعية تستعد لاستعادة مدينة الحديدة من قبضة الحوثيين، تدخّلَ المجتمع الدولي مُحذّرًا من كارثة إنسانية مُحتَملة ومن تدمير الميناء الحيوي الذي تمرّ عبره معظم واردات اليمن. وأسفر ذلك عن اتفاق ستوكهولم الذي فَرَضَ وقفًا لإطلاق النار أبقى الميناء تحت سيطرة الحوثيين، مانحًا إياهم اعترافًا فعليًا بالأمر الواقع.

وبعد سبع سنوات، تكرّر المشهد على نحوٍ ساخر ومأسوي في آنٍ واحد، حين دُمّر الميناء نفسه في غاراتٍ إسرائيلية بعدما استخدمه الحوثيون لإطلاقِ أكثر من 130 هجومًا على سفن الشحن في البحر الأحمر. وهكذا، منعَ المجتمع الدولي تدمير الميناء في 2018 بذريعة حماية المدنيين، ليشهد لاحقًا تدميره في 2025 وفق شروط الحوثيين. إنه نمطٌ يتكرّرُ منذ سنوات: تدخّل دولي من دون مساءلة، يساهم في تعزيز سلوك الجماعة بدلًا من كبحه.

الشرعية عبر العمل الإنساني

في تشرين الأول (أكتوبر) 2025، نشرت صحيفة الثورة التابعة للحوثيين تقريرًا مُصَوّرًا عن زياراتٍ ميدانية لمسؤولين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وصفتها بأنها “جولاتٌ على عمليات إزالة الألغام التي يُنفّذها الحوثيون”. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. فبحسب تقارير “هيومن رايتس ووتش” ومنظمات أخرى، تُعتَبَرُ الجماعة نفسها المصدر الرئيس لأزمة الألغام الأرضية في اليمن، لا الجهة التي تعمل على إزالتها.

وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، باتت المنظمات الدولية تعملُ ضمن منظومةٍ من الشروط المفروضة. فالأمم المتحدة تُنسّقُ عمليات الإغاثة عبر مسؤولين محليين تُعيّنهم الجماعة نفسها، فيما تتفاوض منظمة الصحة العالمية على برامجها الصحية مع وزارة خاضعة للحوثيين، ويعتمد برنامج الأغذية العالمي على شبكات توزيع يديرها مقرَّبون منهم.

وهكذا تجد كل وكالة إنسانية نفسها أمامَ معادلةٍ شبه مستحيلة: إما الاستمرار في العمل بما يعني ضمنيًا الاعتراف بسيطرة الحوثيين وإضفاء شرعية على سلطتهم، أو الانسحاب وتحمُّل كلفة ترك ملايين المدنيين من دون مساعداتٍ أساسية.

هذا الإطار الإنساني الذي يقدّمه الحوثيون حول أنفسهم ليس إلّا بناءً زائفًا ومُفبركًا بعناية. فالجماعة هي التي صاغت هذا التصوّر عمدًا وأتقنت توظيفه. النمط بات معروفًا ومتكرّرًا: يُعطّلُ الحوثيون إيصال المساعدات الإنسانية عبر السرقة والابتزاز واحتجاز الموظفين، فتُضطرُّ المنظمات الدولية إلى تعليق عملياتها مؤقتًا، ثم تعود للتفاوض على استئنافها وفق شروطٍ جديدة تُعزّزُ نفوذ الحوثيين وتُكرّس سيطرتهم.

حدث ذلك بوضوح عندما علّقت الأمم المتحدة عملياتها في محافظة صعدة بعد وفاة أحد موظفي برنامج الأغذية العالمي أثناء احتجازه لدى الحوثيين، وعندما انسحبت بعثاتٍ إنسانية أخرى إثر سلسلةٍ من الاعتقالات الجماعية بحقِّ العاملين المحليين. في كل مرة، تُحَوِّلُ الجماعة التعليق الإنساني نفسه إلى أداةِ ضغطٍ تُستَخدَم لتحصيل تنازُلاتٍ سياسية وإدارية.

أمّا الادِّعاء بأنّ المدنيين في مناطق الحوثيين لا يملكون بديلًا، فهو أيضًا رواية مُضَلِّلة. فالحكومة اليمنية المُعترَف بها دوليًا تسيطر على مساحاتٍ واسعة يمكن إيصال المساعدات عبرها من دون عراقيل تُذكر، ومع ذلك، يبقى الجُزءُ الأكبر من الموارد الدولية متركّزًا في صنعاء الخاضعة للحوثيين، حتى بعد نزوحِ أعدادٍ كبيرة من السكان إلى مناطق الحكومة. في الواقع، كان يمكن للأمم المتحدة توجيه المساعدات عبر المناطق الحكومية أو عبر منظمات محلية مستقلة، بدلًا من دعم احتكار الحوثيين لقنوات الإغاثة. لكن استمرارها في العمل عبر سلطات الأمر الواقع يعكس انحيازًا مؤسّسيًا مُريحًا للتعامل مع من يملكون السيطرة الميدانية، حتى وإن كانوا يسرقون المساعدات، ويهددون الموظفين، ويحوّلون المعاناة الإنسانية إلى أداة سياسية.

الأدلّة على هذا الاستغلال واسعة ومُتكرّرة: تحويلُ شحنات مساعدات إلى “حزب الله” في لبنان، وإعادة بيع المواد الغذائية في الأسواق، واختفاء كميات كبيرة من الإمدادات الطبية من المستودعات الأممية. هذه ليست حوادث عَرَضية أو أخطاء بيروقراطية، بل نظام استغلال منظّم يضع مصالح الجماعة فوق احتياجات المدنيين. فالحوثيون يفضّلون استمرار المعاناة على السماح بتدفّق المساعدات التي لا تقع تحت سيطرتهم المباشرة. بالنسبة إليهم، التجويع وسيلة ضغط سياسية، في حين تميل الوكالات الدولية إلى اعتبار مجرّد “الوصول” إنجازًا بحدِّ ذاته، من دون مساءلة عمّن يستفيد منه فعلًا — الشعب أم الميليشيا.

من حراسة البوابات إلى احتجاز الرهائن

منذ أيار (مايو) 2024، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات واسعة استهدفت العاملين في المجال الإنساني، فاحتجزوا أكثر من ستين شخصًا، بينهم ثلاثة عشر موظفًا تابعين للأمم المتحدة وما لا يقل عن خمسين من كوادر منظمات المجتمع المدني الدولية واليمنية، بتُهَمِ تجسّسٍ مُلفّقة. وفي كانون الثاني (يناير) 2025، اعتُقِلَ ثمانية موظفين أُمميين آخرين، توفي أحدهم أثناء احتجازه، ما دفع الأمم المتحدة إلى تعليق عملياتها في محافظة صعدة. لكن بدلًا من أن تُواجَه هذه الانتهاكات بعقوبات أو ردٍّ دولي حازم، كشفت عن قدرة الحوثيين على التصعيد من دون عقاب أو كلفة تُذكر، بل وعلى استخدام الأزمة لتوسيع قبضتهم الأمنية.

فقد أدركت الجماعة أنَّ الأزمات، مهما كانت قاسية، يُمكن أن تُحَوَّلَ إلى فُرَصٍ لتعزيز السيطرة. وبعد الغارات الإسرائيلية التي أودت بحياة عددٍ من وزراء حكومة الحوثيين أواخر آب (أغسطس) 2025، استغلّت القيادة الحوثية الموقف لتكثيف حملات القمع الداخلي. اقتحمت قوات الأمن مقار وكالات أممية، واعتقلت ما لا يقل عن أحد عشر موظفًا إضافيًا بذريعة التجسّس. ورُغمَ أنَّ الاتهامات لا تستند إلى أيِّ أدلة، يؤكد مسؤولون حوثيون أنَّ المُحتَجَزين سيُقدَّمون إلى المحاكمة.

واتسع نطاق القمع لاحقًا ليشمل شرائح أخرى من المجتمع في شمال اليمن، حيث نفّذت الجماعة اعتقالات جماعية، وأنشأت خطوطًا ساخنة لتلقّي بلاغات “المُخبرين” عن المُشتَبَه بهم، بل وذهبت إلى حدِّ احتجاز أمين مجلسها السياسي الأعلى بتهمة التجسّس في استعراضٍ للقوة الداخلية.

غير أنَّ التطوُّرَ الأكثر إثارةً للقلق تمثَّلَ في تحوُّلِ لغة القيادة الحوثية إلى تهديدٍ علني وصريح للمنظمات الدولية. ففي 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، أعلن زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي مقتل رئيس أركانه محمد الغماري، واتهم موظّفين في “برنامج الغذاء العالمي” و”اليونيسف” بتشغيل خلايا تَجَسُّس “ساهمت في استهداف المقاتلين الحوثيين”. وأضاف في خطابٍ متلفز: “لا شيء يحمي فروع المنظمات الإنسانية من المساءلة والملاحقة القضائية، فقد تجاوزت دورها الإنساني إلى أدوارٍ عدوانية وإجرامية”.

أصبح واضحًا اليوم أنَّ الحوثيين يستغلّون حاجة المجتمع الدولي إلى “الوصول الإنساني” كسلاحٍ تفاوضي. إنهم يحتجزون موظفين، ويبتزّون المؤسسات، ويُطلقون سراحهم أو يسمحون باستئناف العمل الإغاثي حين يضمنون الخضوع لشروطهم. والنتيجة هي معادلة مختلّة جعلت المنظمات الدولية أسيرةً لمعادلة فرضها الحوثيون: الخضوع مقابل البقاء.

إنخراطٌ بلا مُساءلة

تكشف تجربة الانفتاح السعودي على الحوثيين خلال العامين 2023 و2024 بدقّة سبب فشل سياسة “الانخراط بلا مساءلة”. فعلى الرُغم من المفاوضات المباشرة والتنازلات الاقتصادية التي قدّمتها الرياض، واصل الحوثيون التصعيد، وشنّوا سلسلةَ هجماتٍ غير مسبوقة في البحر الأحمر. وبحسب مصدر مطّلع، هددت الجماعة بتوسيع عملياتها العسكرية ضد السعودية إذا لم تُمارِس الرياض ضغوطًا على الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا لرفع القيود الاقتصادية التي فرضها البنك المركزي اليمني. كلُّ خطوةٍ تصالحية قوبلت بسلوكٍ أكثر تحدّيًا، وكلُّ تنازُلٍ فسّره الحوثيون كإشارة ضعفٍ لا كبادرة حُسن نيّة. وهكذا ترسّخ النمط نفسه: الانخراط من دون محاسبة لا يخفف التوتر، بل يُغذّيه.

يعتمدُ الحوثيون في بقائهم أيضًا على الجمود المؤسّسي الدولي. ففي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2025، أعلن كبير مفاوضيهم محمد عبد السلام —الخاضع للعقوبات الأميركية— أنَّ الإفراجَ عن موظفي الأمم المتحدة المُحتجزين مُرتَبطٌ ب”تحقيق تقدُّم” في خارطة الطريق السعودية–الأُمَمية للسلام. بهذا التصريح، ربط الحوثيون عمدًا بين قضيتَين لا علاقة بينهما، مُحَوِّلين عمال الإغاثة إلى ورقة مساومة سياسية في مفاوضاتٍ إقليمية معقّدة. الأسوأ أنَّ الأمم المتحدة بدت مستعدة لقبول هذا الإطار الضيِّق للنقاش، مُكتفيةً بـ”إدارة الحوار” لا فرض شروطه. وهكذا، بدلًا من أن يُفضي احتجاز موظفين دوليين وتلفيق تُهَم التجسُّس إلى عزلة الحوثيين، أصبح وسيلةً إضافية لترسيخ نفوذهم وهيمنتهم.

اليمنيون، الذين خبروا مرارًا ثمن هذا التراخي الدولي، يُدركون جيدًا ما سيأتي بعد ذلك. لقد رَؤوا كيف شَرَّعَ المجتمع الدولي “حزب الله” في لبنان، و”حماس” في غزة، عبر تسوياتٍ ديبلوماسية أضفت على الميليشيات شرعية الأمر الواقع، بينما تُركت الشعوب التي تحكمها على الهامش. واليوم، يتكرّر المشهد ذاته في اليمن: انخراطٌ دولي يُثبِّتُ سلطةَ جماعةٍ مُسلّحة تحت غطاء “السلام”، ومساعدات إنسانية تُدارُ بشروطها.

وعندما تُطوى صفحات النقاشات الأممية، ويتحرّكُ المجتمع الدولي في اتجاهٍ جديد، سيبقى اليمنيون وحدهم يعيشون تحت حُكمِ ميليشيا ساهم العالم، عن قصدٍ أو عن تقصير، في ترسيخها.

  • فاطمة أبو الأسرار هي باحثة مشاركة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، ومحللة سياسية بارزة في مركز واشنطن للدراسات اليمنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى