قطر بينَ النارِ والوساطة: ديبلوماسيّةُ البقاء في زمنِ الانهيارِ الجيوسياسي

بينَ تصاعُد النزاعات الإقليمية وتراجُع المعايير الدولية، تبرزُ قطر كلاعبٍ صغير بحجمها، كبيرٍ بدورها، تمارسُ ديبلوماسية دقيقة تمزجُ بين الطموح الوطني والبقاء في وجه العواصف الجيوسياسية.

رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني: “”حماس” مُنفَتحة على مناقشة ترتيبات تضمنُ عدم تهديدها لإسرائيل”.

سانسوم ميلتون*

على الرُغم من استمرار بعض المناوشات المحدودة في قطاع غزة، لا يزالُ وقفُ إطلاق النار الهشّ، الذي وُقِّعَ بين إسرائيل و”حماس” في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر)، صامدًا حتى الآن. وقد جاء هذا الاتفاق نتيجة أسابيع من الجهود الديبلوماسية المُكثَّفة التي قادها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مدعومًا بشبكة وساطة متعددة الأطراف. في هذا السياق، برزَ الدور القطري بشكلٍ خاص، إذ جسّدَ مكانةَ الدوحة المُتنامية كوسيطٍ دولي مؤثّر خلال العقدين الأخيرين.

كان للنفوذ الأميركي على إسرائيل دورٌ حاسم في إنجاز اتفاق تشرين الأول (أكتوبر)، غير أنَّ الأساسَ الحقيقي لعملية الوساطة اعتمد على الجهود المُنَسّقة التي بذلتها قطر ومصر، ولاحقًا تركيا، من خلال إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع “حماس” وإدارة محادثات مكوكية متواصلة للضغط على الحركة ودفعها نحو التهدئة. كما ساهمت “قمة السلام” التي استضافها منتجع شرم الشيخ المصري في تعزيز الزخم الدولي لخطة ترامب، رُغمَ بقاءِ العديد من القضايا الأمنية والسياسية عالقة مع الانتقال إلى المرحلة التالية من العملية. وتبقى مسألة نزع سلاح “حماس” أبرز هذه التحدّيات، إذ تصرّ الحركة على تسليم سلاحها فقط إلى سلطة فلسطينية شرعية. وفي هذا الإطار، أشار رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى انفتاح “حماس” على مناقشة ترتيبات تضمنُ عدم تهديدها لإسرائيل، لكن الوسطاء يفضّلون تأجيل هذا الملف حاليًا للحفاظ على استقرار الهدنة القائمة.

إنَّ استمرارَ الجهود الديبلوماسية يُعَدُّ عنصرًا أساسيًا في ضمان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ومتابعة تطبيق بنوده، إذ ما زالت احتمالات التعثُّر قائمة في حالِ تجدُّد القتال، أو اندلاع مواجهات بين “حماس” وفصائل مسلّحة أخرى، أو بروز مقاومة محلية للاتفاق ذاته. ومن المرجّح أن تُواصلَ قطر لعب دورها المحوري في المرحلة المقبلة، لكونها الجهة الوحيدة التي تمتلك قنوات اتصال مباشرة مع “حماس” وتستطيع في الوقت نفسه ممارسة ضغط مالي فعّال عليها لدفعها إلى الالتزام بالتهدئة.

في موازاة ذلك، تتجه الأنظار إلى دول الخليج، ولا سيّما قطر والسعودية والإمارات، لتكون المموّلَ الرئيس لعملية إعادة إعمار غزة، التي قد تتطلّب ما يصل إلى 80 مليار دولار. وتُعَدُّ قطر، بخبرتها الممتدة لأكثر من عقد في إدارة مشاريع الإعمار في القطاع، شريكًا لا غنى عنه في التعامل مع القيود الإسرائيلية المفروضة على حركة المواد والبضائع، وهي قيودٌ يُتَوَقَّعُ أن تبقى قائمة حتى خلال فترة الهدنة. كما يمنحُ توازُنُ علاقات الدوحة —بين “حماس” من جهة، وواشنطن وأنقرة والقاهرة ودول الخليج من جهة أخرى— قطر نفوذًا استثنائيًا يمكن أن يؤهّلها للعب دورٍ مركزي ليس فقط في متابعة تنفيذ الاتفاق الحالي، بل أيضًا في صياغة ملامح المرحلة الثانية المتعلّقة بترتيبات الحكم والأمن طويلة الأمد في غزة.

ويأتي هذا الدور امتدادًا لمسارٍ ديبلوماسي تبنّته قطر منذ أكثر من عقد في مجال الوساطة لحل النزاعات الإقليمية. فقد برزت جهودها في الملف الغزّي مع افتتاح مكتب “حماس” في الدوحة في العام 2012، ثم خلال حرب العام 2014 بين إسرائيل و”حماس”، حين شاركت قطر بفاعلية إلى جانب مصر والولايات المتحدة في مساعي التهدئة. وكما وصف أحد كبار مسؤولي الأمم المتحدة العام الفائت، فإنَّ “إقصاء قطر عن أيِّ مسارٍ للوساطة بات أمرًا مستحيلًا نظرًا لنفوذها الاستراتيجي”، وهو نفوذٌ رسّخته الدوحة عبر سنواتٍ من العمل الديبلوماسي المُتّزن وبناء شبكة علاقات متشابكة على المستويين الإقليمي والدولي.

خلال أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخرطت قطر في العديد من مبادرات الوساطة البارزة، فحلّت الأزمة الرئاسية اللبنانية في العام 2008، وتوسّطت في اتفاقاتٍ عدة لوقف إطلاق النار في تمرّد الحوثيين شمال اليمن بين العامين 2007 و2008، وتوسّطت في اتفاق سلام في إقليم دارفور بالسودان. وقد اعتُبِرَت قطر وسيطًا مُتناغِمًا ثقافيًا، ونزيهًا نسبيًا، وفعّالًا، مدعومًا بموارد مالية هائلة شكّلت نفوذًا لا يمكن لأيِّ وسيط دولة صغيرة أخرى، يعتمد عادةً على فن الإقناع، أن يُضاهيه.

مع حلول “الربيع العربي” أواخر العام 2010، تراجع دور قطر كوسيط، حيث قدّمت الدوحة دعمًا استباقيًا لـ”الشارع العربي” والثوّار المسلّحين الذين ثاروا ضد الحكام المستبدّين في جميع أنحاء المنطقة. وهكذا، تورّطت قطر بشكلٍ مباشر في أزماتٍ إقليمية كان من الممكن أن يُطلَب منها التوسُّط فيها لولا ذلك. كما فرضت أزمة الخليج، التي بلغت ذروتها بالحصار الذي قادته السعودية على قطر من حزيران (يونيو) 2017 إلى كانون الثاني (يناير) 2021، مزيدًا من القيود على نفوذ قطر العالمي.

ومع ذلك، حتى خلال هذه الفترة العصيبة، لم تتخلَّ قطر عن الوساطة. بل عزّزت بهدوء قدرتها على التفاعُل الديبلوماسي، فأنشأت مكاتب سياسية ل”حماس” و”طالبان” في الدوحة -وكلاهما بناءً على طلب الولايات المتحدة- في العام 2012. كما طوّرت قطر قدرتها المؤسّسية من خلال إنشاء مكتب المبعوث الخاص لوزير الخارجية لمكافحة الإرهاب والوساطة في حلِّ النزاعات في العام 2016، والاستثمار في جهاتٍ فاعلة غير حكومية لتكون بمثابةِ قنواتٍ تكميلية للتفاعُل الديبلوماسي.

خلال السنوات الأخيرة، عادت قطر لتُكرِّس موقعها كأحد أبرز الفاعلين العالميين في مجال الوساطة وتسوية النزاعات، بعد سلسلةٍ من المبادرات التي عزّزت مكانتها على الساحة الدولية. فقد مثّل الاتفاق الذي رعته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (الولاية الأولى) مع حركة “طالبان” بشأن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في شباط (فبراير) 2020 محطةً مفصلية في مسار الديبلوماسية القطرية، إذ كان ثمرة ما يقرب من عقدٍ كامل من الجهود المتواصلة. ومع رفعِ حصار الجيران المفروض عليها في العام التالي، تحرّرت الدوحة من القيود التي كانت تحدُّ من حركتها، فانطلقت بقوة لتوسيع نطاق وساطاتها في عددٍ من الملفّات الدولية. وشملت هذه المساعي النزاع الحدودي بين الصومال وكينيا، والعملية الانتقالية في تشاد عقب وفاة رئيسها في العام 2021، واتفاق رواندا والكونغو الديموقراطية حول حركة “23 آذار/مارس”، إلى جانب التوترات الحدودية بين أفغانستان وباكستان. كما عمّقت قطر شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي منحتها في العام 2022 صفة “حليف رئيس من خارج حلف شمال الأطلسي/الناتو”، في اعترافٍ رسمي بدورها المُتنامي كوسيطٍ عالمي.

غير أنَّ بروزَ قطر مُجدَّدًا كوسيطٍ محوري جاء في سياقٍ جيوسياسي شديد التعقيد، تتّسم ملامحه بتزايد التنافس بين القوى الكبرى، وتكاثر بؤر النزاع، وتراجع المعايير التي لطالما نظّمت الديبلوماسية المتعددة الأطراف وسلوك الدول خلال الحروب. وقد تجلّى هذا التآكل المعياري في الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف وفدًا تابعًا لـ”حماس” في الدوحة في التاسع من أيلول (سبتمبر)، وهو هجومٌ شكّل سابقة خطيرة في تاريخ العمل الديبلوماسي، وأثار تساؤلات حول أمن الوسطاء الدوليين. ومن المفارقة أنَّ العملية الفاشلة —التي أسفرت عن مقتل خمسة من عناصر الصف الثاني في “حماس” ورجل أمن قطري واحد— أفضت إلى تسريع وتيرة محادثات وقف إطلاق النار، ومنحت واشنطن مُبرِّرًا قويًا للضغط على إسرائيل للقبول بالاتفاق.

إلّا أنَّ الهجومَ الإسرائيلي مثّل في الوقت نفسه تهديدًا مباشرًا وغير مسبوق لدور الوساطة الذي تضطلع به قطر، وجاء في خضمّ فترةٍ من التوتّرات الإقليمية المتصاعدة خلال صيف العام 2025. فقبل ذلك بأشهرٍ عدة، كانت الدوحة قد شهدت هجومًا مُنَسَّقًا ومُرَتَّبًا نفّذته إيران على القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة العديد الجوية في حزيران (يونيو) من العام نفسه، ما شكّل صدمة للقيادة القطرية والمراقبين الإقليميين على حدٍّ سواء. كما ساهمت الحرب التي اندلعت بين إيران وإسرائيل واستمرّت 12 يومًا في تأجيج المخاوف عبر منطقة الخليج، خصوصًا مع اقتراب المواجهات من المنشآت النووية الإيرانية في الجنوب. وكان من شأن أيِّ هجومٍ واسع النطاق على تلك المنشآت أن يتسبّبَ في تلوُّثٍ بحري كارثي يُهدّد الوجود ذاته لدول الخليج، التي تعتمد على تحلية مياه البحر لتأمين نحو 90% من احتياجاتها من المياه العذبة.

غالبًا ما يُنظَرُ إلى انخراط دول الخليج في الوساطة على أنه مسعى لتعزيز المكانة الدولية واكتساب النفوذ عبر أدوات القوة الناعمة، غيرَ أنَّ التجربة القطرية تكشف أبعادًا أعمق من ذلك. فقد أصبحت الوساطة بالنسبة إلى الدوحة نهجًا استراتيجيًا يجمعُ بين طموح لعبِ دورٍ دولي فعّال ورغبة في حماية الذات وسط بيئة إقليمية شديدة التقلُّب. فتعزيز صورة قطر كدولةٍ صغيرة ديناميكية تسعى إلى ترسيخ السلام والأمن العالميَين يسير جنبًا إلى جنب مع إدراكها أنَّ خفضَ التوتّرات الإقليمية يُعَدُّ في جوهره سياسةً دفاعية تضمن بقاءها واستقرارها في محيطٍ تحكمه المنافسة بين قوى أكبر كثيرًا منها حجمًا وتأثيرًا. وقد تجلّى هذا البُعدُ الوجودي بوضوح خلال الحرب الأخيرة في غزة، التي دفعت المنطقة إلى حافة مواجهة شاملة. حينها، برهنت قطر على نهجها البراغماتي عبر التحرُّك السريع لاحتواء التصعيد: فبينما كانت الصواريخ الإيرانية تستهدف قاعدة العديد الجوية، توسطت الدوحة في اليوم نفسه للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار بين طهران وتل أبيب، ثم عادت بعد أسابيع فقط من ضربة الدوحة إلى طاولة الوساطة في غزة، عقب تلقّيها اعتذارًا رسميًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتعزيزًا للضمانات الأمنية الأميركية.

ومع ذلك، فإنَّ ما يُثيرُ القلق العميق هو أنَّ الهجومَ الإسرائيلي على الدوحة لم يُشكّل فقط انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة وسيطة، بل مَثّلَ أيضًا ضربةً مباشرة لمفهوم الديبلوماسية ذاته. فعلى مدى التاريخ الحديث، اعتُبِرَت أراضي الوسطاء مناطق محايدة محمية من الاستهداف، وكان الاعتداء على طرفٍ متفاوض أو على دولة وسيطة يُعَدُّ من المحظورات الكبرى في الأعراف الدولية. غير أنَّ هذا الانتهاك الجسيم يُجسّدُ تآكلًا مُتسارعًا لتلك المعايير، ويكشفُ عن المخاطر المُتنامية التي تُواجه الوسطاء في عالمٍ يشهد انحسارًا لقواعد السلوك الديبلوماسي التقليدي. إنَّ تطبيعَ هذا النمط من العنف، خصوصًا عندما تمارسه دولٌ كبرى ضد وسطاء صغار، يحمل خطرًا بالغًا يتمثّلُ في تقويض منظومة الوساطة الدولية برمّتها. ويزدادُ هذا التهديدُ خطورةً في ظلّ اعتماد النظام الدولي المتزايد على دولٍ صغيرة ومَرِنة مثل قطر لقيادةِ جهودِ تسوية النزاعات في مرحلةٍ يتراجَعُ فيها دور المؤسّسات المُتعدّدة الأطراف التقليدية.

  • سانسوم ميلتون هو باحث أول في مركز دراسات الصراع والعمل الإنساني في الدوحة، حيث يعمل منذ العام 2016. له منشورات واسعة حول الوساطة في النزاعات، والتعافي بعد النزاعات، والسياسة في الشرق الأوسط، ومواضيع أخرى. سيصدر كتابه المقبل بعنوان “من الخليج إلى العالمية: صعود قطر في وساطة النزاعات” عن دار نشر هيرست في المملكة المتحدة ودار نشر جامعة أكسفورد في الولايات المتحدة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى