زياد الرحباني، لن تُشتَمَ خَيبَتُنا بَعدَ اليوم

البروفِسور بيار الخوري*

كأنَّ بيروت أخمدت آخرَ سجائرها، وأطفأت معها ضوءَ مسرحٍ كان كلّما اشتدَّ الظلام أضاءَ تَهَكُّمًا من بين الركام. رَحَلَ زياد الرحباني، الذي لم يَكُن مجرّد فنان، بل كانَ نظامًا مُوازِيًا… نظامٌ يَعزِفُ، يَكتُبُ، يُمثّل، ويشتُم… من دونِ أن يحتاجَ إلى برلمان أو فتاوى أو قداديس. رَحَلَ مَن لا نعرفُ إن كانَ قد أحبّنا فعلًا، لكنه بالتأكيد كرهنا مثلما نكره أنفسنا حين نرى حقيقتنا في مرآة أعماله.

منذ نعومةِ أظافره في بيت فيروز وعاصي الرحباني، اختارَ أن يعزفَ لحنه النشاز. لم يرضَ أن يكونَ الإبنَ المُدلّل في حضن العائلة المُبدِعة، بل صار الإبنَ العاقّ في حضن الوطن. كتب الأغنية والمسرحية واللحن كما يكتب سائق التاكسي سبّه اليومي على الدولة، وكما كان يهمس الناس في منتديانهم بنكاتٍ سياسية لا يجرؤون أن يقولونها علنًا. زياد لم يهمس، بقي يقولها بصوت البيانو وطبقات حنجرته المبحوحة والربع نوته، وربما كان الوحيد في بلاد العرب الذي لم يقل “ما خصّني” فحسب، بل صادحًا  “مش ظابطة”.

هو الذي جعلنا نضحك من باب التعاسة، ونغنّي من فم الغضب. حين كتب “نزل السرور”، لم يكن يمزح، بل كان يُخبرنا أنَّ الفرحَ صار حدثًا نادرًا. في “بالنسبة لبكرا شو؟”، خلع كل أقنعة المسرح، وأعاد إلينا وجوهنا الحقيقية… المُرهقة، المتواطئة، المستسلمة، الضاحكة على خرابها. وفي “فيلم أميركي طويل”، منحنا لحظة يقظة أننا لسنا أبطالًا، بل مجرّد كومبارس في حبكةٍ تراجيدية عبثية. أما “الكرامة والشعب العنيد” فقالتها بوقاحة: ستزدهر التجارة فوق خراب الزلازل.

لم يَكُن زياد يكتب ليُرضينا. كان يكتبُ لأنَّ القهرَ اليومي بحاجة إلى موسيقى، ولأنَّ الخيبة تحتاجُ إلى ما هو أكثر نُبلًا من الصراخ: تحتاجُ إلى لحنٍ يمسح على رأسها ويقول لها: “أعرفكِ، أنا ابنكِ”. لم يكن ساحرًا، لكنه جعل اللغة تتسكّع في الأزقّة، وتنامُ على أرصفة الحانات، وتبصق على السياسيين بلحنٍ موزون.

الأجيال التي ستأتي بعده لن تجدَ منبرًا تسخر منه كما كان يفعل. كانت سخريته زادًا للغاضبين ومُتنَفَّسًا لمن خنقتهم الحرية الفارغة. علّمنا أنَّ الفن ليس تعويذة وطنية، بل مطرقة خفيفة تُطرَقُ على رأس الحقيقة حتى تستيقظ. هو من صمّم لغتنا الساخرة، صقلها، جعلها حادة كالنكتة حين تجرحُ وتُضحِكُ في آن.

اليوم، رحل مَن كُنّا نلوذُ بتهكّمه حين تفقُدُ الكلمات معناها. رحل زياد، تاركًا خلفه فراغًا لا تملؤه ضحكة ولا يعوّضه حزن. فراغٌ بحجمِ موسيقى لا تُشبه أحدًا، وكلماتٍ لم تُكتَب لتُنسى.

يبقى السؤال معلقًا في هواء تنفُّسِنا: مَن يكتبُ لنا بعد اليوم النكتة التي تقول الحقيقة؟ مَن يجرؤ أن يعزفَ السخرية بدون أن يُخلِّفَ وراءه حفلةَ جنونٍ عشائري أو طائفي؟

زياد لم يَكُن ابنَ فيروز وعاصي الرحباني فقط، كان ابنَ الخيبة وأبَ السُخرية النبيلة. وها هو يرحل تاركًا البلد، بلا أحدٍ ليشتمه كما يجب.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى