غسَّان تويني: “فَلْنَدْفِنِ الحقْد والثأْر”

غلافُ الطبعة الفرنسية الأَصلية

هنري زغيب*

بعد يومَين (12 كانون الأَول/ديسمبر الحالي) تَـمُرُّ  19 سنة على اغتيال جبران تويني (2005)، الشهيد الفرد الذي صدَح صوتُهُ بقَسَمِهِ عاليًا كديك “النهار”:”نُقْسِم بـالله العظيم، مسْلمين ومسيحيين، أَن نبقى موحَّدين إِلى أَبد الآبدين، دفاعًا عن لبنان العظيم. عاش لبنان. وبالرغم من كلِّ ما صدَر عن تلك الكارثة التي هزَّت “النهار” وكل لبنان، كانت صاعقةً عبارةُ عميد “النهار” غسان تويني: “جبران لم يَـمُتْ، والنهار مستمرة”، تلاها لاحقًا عنوانٌ يعادله قوةً وصمودًا: “فلندفِن الحقد والثأْر قدَر لبناني”، صدَر به سنة 2009 كتابٌ تَجمُل اليوم عودةٌ إِليه تحيةً للشهيد جبران ووقْفة والده الأُعجوبيَّة بصلابةٍ إِغريقية ميثولوجية نادرة.  

ما الذي جاء في هذا الكتاب؟

غلافُ الطبعة العربية

كأَنْ قدرٌ إِغريقيّ ميثولوجيّ

بقلمٍ يَقطُر أَلَمًا مُكابِرًا، وصوتٍ يغصُّ بِحِبر الكِبَر، أَدلى عميد “النهار” غسّان تويني بأَحاديثَ إِلى الكاتب الفرنسي جان فيليب دو تونّاك (Jean-Philippe de Tonnac) جَمعَها في كتاب (Enterrer la haine et la vengeance – Un destin Libanais)، وصدرَت له لاحقًا ترجمةُ جان الهاشم إِلى العربية عن منشورات “دار النهار” في 170 صفحة قطعًا وَسطًا بعنوان “فَلْنَدْفِن الحقد والثأْر – قَدَرٌ لبناني“.

لَم تَأْتِ لغةُ الكاتب بعيدةً عن نَفَسِ غسان تويني ذاتِه وقلمِه في الكتابة، ولا عن أُسلوبه/السَّهم في رشْق المعنى الوسيع بأَقلّ كلماتٍ تخترق الذهْن والقلب في موجةٍ من نسيج كبار الكتَّاب في العالم.

توطئةُ الكتاب من معرض “حوار الحضارات” في “الدوحة” لدى افتتاح “متحف الفنون الإِسلامية” (قَطَر: 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2008). يومها رأَى غسَّان تويني في المعرض لوحة “السيدة العذراء” بريشة جنتلي دي فابريانو (من القرن الخامس عشر)، وعلى ثياب العذراء آياتٌ قرآنية. سمَّى غسَّان تويني تلك اللوحة: “عذراء الصفْح والحوار”. وأَضاف: “رافقَتْني صُوَرُ القدّيسين طَوالَ حياتي، وكلما تقدّمتُ في السن أَحسسْتُ بوجودها أَكثر. أَتحاور معها كلَّ يوم كما أَتَحاور مع صُوَرٍ مرصوفةٍ على مكتبي في جريدة “النهار”، لأَحبةٍ انتزعَهم مني القدَر بطريقة بربرية أَحيانًا: والدي جبران، ووالدتي، وصُوَرِ وَلَدَيَّ جبران ومكرَم، ووالدتِهما ناديا وابنتِنا نايلة. أُكلِّمهم عبر تلك الصُّوَر ويكلِّمونني، وأَكشِف لهم عن مكنونات قلبي”.

جبران الشهيد (15/09/1957-12/12/2005)

الصفحُ والغفرانُ وعدمُ الثأْر

من هذه التوطئة العابقة بالوجدانية تتسلسَل فصولُ هذا الكتابِ الاثنَا عشر على إِيقاع غسَّان تويني: بدءًا من وداع بكْره جبران ووقوفه أَمام جثمان ولده القتيل، مُعلنًا الصفحَ والغفرانَ وعدمَ الثأْر لاغتيال ابنه الشهيد.

يواصل الكتاب فصولَه من اكتشاف صاحبه الإِيمانَ، إِلى وصوله نائبًا وهو في الرابعة والعشرين، فلقائِه الصبيّةَ ناديا علي حمادة في أَثينا وزواجِه منها، فسلسلةِ اعتقالاته ناشطًا حزبيًا فصحافيًا جريئًا، فتَجارِبِهِ وزيرًا وسفيرًا للبنان في الأُمم المتحدة وإِطلاقِه على منبرها الدُوَليّ  صرختَه الشهيرة “أُتركوا شعبي يعيش“، فتحيةٍ إِلى أَساتذته في الحياة والفكر، فاستذكارِ وَلَده مكرم شاعرًا، فنضالاتِهِ الكثيرة جدًّا في “النهار”، إِلى الثلاثة الفصول الأَخيرة: “مسيحيُّو الشرق”، “مستقبل الشرق الأَوسط”، “إِله واحدٌ في منازلَ متعددة”، وخاتمةٍ وجدانيةٍ عميقةٍ للكتاب بعنوان: “أَنا… ذلك الآخر”.

بعد تلك الفصول الاثني عشَر، ملاحقُ تضَمَّنَت خمسةً من مقالاته في “النهار”، أَوَّلُها كتبَه ليلة 14 أَيار/مايو 1948، وأَخيرها كتبَه في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2008.

الأجيالُ الأَربعةُ: نايلة، جبران، غسَّان، وفي الخلفية صورةُ جبران المؤَسس

لا حدود لفضاء غسَّان تويني

صَعبٌ هو اختصارُ غسَّان تويني في كتابٍ له. والأَصعبُ: اختصارُ غسَّان تويني في نصٍّ عن كتاب له. غير أَنْ ليس من الصَعب الانحناءُ احترامًا وإِكبارًا أَمام قامةِ هذا الكبير الذي يَختصر في ذاته صوتَ شعبٍ ومساحةَ وطنٍ وفضاءَ تاريخٍ لا يُمكنُ أَن يكتبَه أَحدٌ عن لبنان القرن العشرين من دون التوقُّف عند دَوِيٍّ غيرِ عاديّ في قلمٍ غيرِ عاديٍّ أَطلعَ نصوصًا تَبْني وطنًا في حجم طموحات غسَّان تويني.

اسمه وحده دون أَيِّ لقب

وكان أَقَلَّ الوفاء لهذا الكبير من لبنان صدورُ كتابٍ عنه عنوانُه اسمُه الساطع وحسْب، دُونَهُ كُلُّ لقَبٍ وكُلُّ صفة: “غسَّان تويني”، في 656 صفحة من الحجم الموسوعيّ الكبير عن منشورات “دار سُعاد الصُباح” في الكويت، وفيه مسيرةُ غسَّان تويني الرجل والصحافيّ والدِّپلوماسيّ والسياسيّ والكاتب، في شهاداتٍ وأَبحاثٍ وتَحقيقات، عبر أَربعة فصولٍ كُبرى جَمعَتْ خميرةً ناضجةً من أَقلامٍ عارفةٍ خبيرةٍ في أَبْحاثٍ مُعَمَّقَةٍ من باحثين وكُتّاب، مرورًا بذكْرياتٍ من خُلَّصٍ مقَرَّبين، بلوغًا إِلى مَحطَّاتٍ من سيرة غسّان تويني بِصُوَرٍ فوتوغرافيةٍ فريدةٍ من أَيام “النهار” أُسْرةً ومواقفَ وجريدةً أَصبحت مَملكةً تُعْلي حكومةً وتُسْقِط حكومة، وفي مكتب عميدِها يُهيَّأُ رئيسُ جمهورية أو يُهَيَّأُ سقوطُ رئيس، إِلى صفَحاتٍ مصوَّرةٍ تاليةٍ عن غسَّان تويني رجلِ الحريّات وما عايَنَهَ وما عاناهُ من توقيفٍ وسجْنٍ ومُحارَبَة، إِلى غسَّان تويني الشاهدِ على عصره في مَجموعةِ صورٍ له مع كبار القادة في العالم.

وفي الفصل قبل الأَخير من الكتاب افتتاحياتٌ من غسَّان تويني، أَقْدَمُها افتتاحيَّتُه نهار 21 أَيلول/سبتمبر 1949 عن الرئيس بشارة الخوري، وأَحْدَثُها نهار 9 نيسان/أَبريل 1990.

بلى: أَقلُّ الوفاءِ صدُورُ هذا الكتاب الثريِّ عن غسَّان تويني، مهما تَمَوْسَعَتْ صفحاتُه وصفحاتُ كتُبٍ كثيرةٍ بعدَه، لن تَتَّسِعَ له، هو الذي وَسِعَ به الأُفقُ حتى ضاقَ عن اتساع. فَمَن كان من طينة غسَّان تويني لا يَليقُ به أُفقٌ ذو حدود، تَمامًا على صورة لبنان اللامَحدود كما رآه وَكَتَبَه غسَّان تويني.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى