كَيفَ يُقوِّضُ ترامب حُرّيات الصحافة في الولايات المتحدة
التهديدات الحالية لوسائل الإعلام المستقلة باعتبارها ركيزة من ركائز الديموقراطية الأميركية لا تكمن فقط في التشهير المُستهدَف والترهيب القانوني وعدم رغبة أصحاب الأعمال في الدفاع عن الاستقلال التحريري، بل في قدرة دونالد ترامب على الاستفادة من المنصّات التي لا تخضع إلّا للحدِّ الأدنى من التحقّق من الحقائق، ما يزيد من تقويض نطاق الصحافة عالية الجودة ويجعل من الصعب على الجمهور التمييز بين الحقيقة والأخبار الملفّقة .

ساسكيا بريشينماشر ومارغو تريدويل*
مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تزايدت المخاوف من تجدُّدِ التعدّيات على حرية الإعلام في الولايات المتحدة. خلال فترة ولايته الأولى، كان ترامب ينتقد بانتظام وسائل الإعلام ويصفها ب”الأخبار المُزَيَّفة”، ويضغطُ على الصحافيين لكَشفِ مصادر معلوماتهم السرية ويهدّد بالانتقام من الصحافة الناقدة. وقد صعّدَ هذه الهجمات كمرشح في العام الماضي وقبل عودته إلى منصبه بعد فوزه في الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث رفع دعاوى قضائية ضد العديد من وسائل الإعلام، وأيّدَ العنف ضد الصحافيين، بل وتعهّدَ بإلغاء تراخيص البث.
إنَّ تجاربَ الديموقراطيات المُتراجِعة الأخرى تؤكد أنَّ التهديدات التي تُشكّلها إدارة ترامب الثانية لحرية الإعلام في الولايات المتحدة حقيقية. إنَّ السيناريوهات الأكثر تطرُّفًا التي شهدتها بلدان أخرى، مثل الاعتقالات الجماعية للصحافيين في تركيا أو الاستيلاء شبه الكامل على قنوات إعلامية خاصة وعامة في المجر، تظلُّ غير مُحتملة في الولايات المتحدة، حيث تستفيد البلاد من مشهدٍ إعلامي كبير ومتنوّع وحماية قوية لحرية التعبير. مع ذلك، حتى القطاعات الإعلامية النابضة بالحياة والتعدُّدية يمكن أن تتآكل تحت الضغط وتصبح أقل فعالية في مراقبة أصحاب السلطة، مع عواقب سلبية على صحة الديموقراطية في الولايات المتحدة.
تأثيراتٌ مُخيفة
في أغلب البلدان، لم تُهدّد الهجماتُ الأوّلية على حرية الإعلام استقلالَ القطاع بأكمله. بل استهدفت الحكومات الصحافيين أو المنافذ الإعلامية الناقدة من خلال التشهير العلني والدعاوى القضائية التي لا أساسَ لها من الصحة والحواجز الجديدة أمام الوصول. وتخلق هذه الجهود بيئةً من الترهيب وتُقَوِّضُ مصداقية الصحافة المستقلة وتجعل نشر التقارير الجيّدة أكثر صعوبة.
بعد وصول حزب “القانون والعدالة” إلى السلطة في بولندا في العام 2015، على سبيل المثال، تصاعدت التهديدات ضد الصحافيين من قبل مؤيدي الحكومة، بتحريضٍ من المسؤولين الرسميين أو المنافذ الإخبارية الموالية للحكومة. كما اعتمد حزب “القانون والعدالة” وحلفاؤه على الترهيب القانوني، حيث رفعوا عشرات الدعاوى القضائية ضد الصحيفة المستقلة “غازيتا فيبورتشا”. ولم يُسفِر العديد من هذه التحديات القانونية عن أيِّ نتيجة، لكن كان له تأثيرٌ مخيفٌ على النظام البيئي الإعلامي البولندي. كما قَيَّدت السلطات البولندية بشدة وصول الصحافيين إلى مبنى البرلمان وحرمتهم من بطاقات الاعتماد لحضور الأحداث السياسية.
وقد استخدم ترامب بالفعل العديد من هذه التكتيكات نفسها خلال ولايته الأولى. أصبحت تعليقاته المُهينة عن وسائل الإعلام شائعة للغاية لدرجة أنها بالكاد تجذب الانتباه. مع ذلك، لا تزال لخطابه تأثيراتٌ واقعية: زادت أعمال العنف والمضايقة ضد الصحافيين الأميركيين في العام 2024. في تشرين الثاني (نوفمبر)، طالب ترامب أيضًا أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بإلغاء قانون الصحافة الحزبي، والذي كان من شأنه أن يحمي الصحافيين الذين يرفضون الكشف عن مصادر معلوماتهم. وتحركت إدارته بسرعة لتجريد العديد من المنافذ الإعلامية القديمة من مساحة مكاتب البنتاغون لإفساح المجال لوسائل الإعلام الحزبية المؤيدة له مثل “بريتبارت”.
إنَّ التطوُّرَ الأحدث هو اعتماده على الهجمات القانونية. فقد رفع دعوى قضائية ضد صحيفة “دي موين ريجيستر” ومؤسسة استطلاعات الرأي “جي آن سيلتزر” بشأن استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات، وشبكة “إي بي سي نيوز” بتهمة التشهير، وشبكة “سي بي أس” بتهمة الاحتيال على المستهلكين بسبب تحريرها لمقابلة مع منافسته الديموقراطية، نائبة الرئيس آنذاك كامالا هاريس. ومن المثير للقلق أنَّ الشركتين الأم للمؤسّستين الإخباريتين الأخيرتين –”ديزني” و”باراماونت غلوبال” على التوالي- أحجمتا عن محاربة هذه الادعاءات في المحكمة، على الرُغم من اعتقاد الخبراء القانونيين أنَّ القضايا لا تستحق الكثير. وقد توصل ترامب بالفعل إلى تسوية مع “إي بي سي نيوز” مقابل 16 مليون دولار، كما أفادت تقارير متطابقة أنَّ “باراماونت غلوبال” تجري محادثات تسوية. وقد تُشجّع هذه السابقة ترامب على متابعة المزيد من الدعاوى القضائية كأداةٍ فعّالة لمُضايقة وترهيب وسائل الإعلام.
ممارسة السيطرة المالية
إنَّ استسلامَ شركات الإعلام المُسبَق لضغوط ترامب يؤكّدُ على خطرٍ ثان: يمكن للحكومات أن تستخدمَ نقاطَ الضعف الاقتصادية في وسائل الإعلام لممارسة السيطرة.
في مختلف الديموقراطيات المُتراجِعة، أثبتت وسائل الإعلام العامة أنها مُعرَّضة بشكلٍ خاص للوقوع في قبضة السلطات. ففي المجر وبولندا، على سبيل المثال، دفعت الحكومات بقوانين إعلامية جديدة، وطهّرت المنافذ العامة من الصحافيين المنتقدين وأنشأت هيئات تنظيمية مُطيعة سياسيًا. ومع ذلك، فقد استخدمت أيضًا إعتماد وسائل الإعلام الخاصة على عائدات الإعلانات لممارسة الضغط السياسي. وجهت الحكومة المجرية إعلاناتها المُربِحة إلى المنافذ الصديقة، في حين خسرت الصحف الناقدة عائدات الإعلانات حيث خشيت الشركات الوقوع في مشاكل مع حكومة “فيدس”، الحزب السياسي اليميني الشعبوي والمحافظ في المجر. وفي بولندا، توقفت الشركات المملوكة للدولة على نحوٍ مماثل عن وضع الإعلانات في وسائل الإعلام الناقدة بينما فضلت الصحف المؤيدة للحكومة مثل “غازيتا بولسكا كودزيني”.
لقد مهّدت هذه التكتيكات الطريق أمام الجهات الفاعلة التجارية المتحالفة لشراء منافذ إعلامية متعثّرة. في المجر، اكتسب أباطرة الأعمال المحافظون تدريجًا مُلكية سوق الإعلام بالكامل تقريبًا، ثم تبرّعوا بمحطاتهم التلفزيونية وقنواتهم الإذاعية وصحفهم لمؤسسة يسيطر عليها حزب “فيدس”. وفي تركيا، اعتمد الرئيس رجب طيب أردوغان على نحوٍ مماثل على رجال الأعمال المتحالفين لشراء مصادر إعلامية مهمة. واعتبارًا من العام 2024، سيطرت الشركات المتحالفة مع الحكومة على أكثر من 85 في المئة من وسائل الإعلام الوطنية الخاصة.
وبالمقارنة بالديموقراطيات الأخرى، فإنَّ وسائل الإعلام العامة في الولايات المتحدة صغيرة وتتلقّى تمويلًا فيدراليًا محدودًا، مما يجعلها أقل نفوذًا وأقل عرضةً للاستيلاء. مع ذلك، انتقد الجمهوريون لفترة طويلة منافذ مثل “أن بي آر” (NPR) و”بي بي أس” (PBS) -الإذاعة العامة الوطنية وخدمة البث العام- بسبب تحيّزها الليبرالي المزعوم. وفي عهد ترامب، أطلق رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية الجديد، بريندان كار، تحقيقًا في كيفية بث المحطات الأعضاء لرعايتها الخاصة، مما يشير إلى جهد متجدد لإضعاف وسائل الإعلام العامة من خلال ملاحقة مواردها. إنَّ إلغاءَ التمويل من شأنه أن يكونَ مدمّرًا بشكلٍ خاص لغرف الأخبار المحلية والمحطات في المناطق الريفية التي تعتمد بشكل كبير على المنح الفيدرالية.
مع ذلك فإنَّ الخطرَ الأكبر في الولايات المتحدة هو التوحيد الحالي لوسائل الإعلام الخاصة في أيدي عددٍ قليل من المالكين والشركات. فمن ناحية، تعمل ملكية التكتلات على تغذية الاستقطاب السياسي. على سبيل المثال، تمتلك مجموعة “سينكلير للبث” ذات الميول اليمينية الآن 191 محطة تلفزيونية محلية في جميع أنحاء البلاد. ولا تميل هذه المحطات إلى التحوُّل نحو اليمين فحسب، بل إنها تقضي أيضًا المزيد من الوقت في السياسة الوطنية على حساب التقارير المحلية. وعلاوة على ذلك، وكما تظهر حالات “باراماونت غلوبال” و”ديزني”، فإنَّ التكتّلات الإعلامية الكبيرة وأصحاب المليارات قد لا يرغبون في تعريض مصالحهم التجارية المتنوّعة للخطر للدفاع عن الأخلاقيات الصحافية. على سبيل المثال، تسعى “باراماونت” حاليًا إلى اندماج بمليارات الدولارات مع “سكاي دانس ميديا” وبالتالي لديها مصلحة تجارية في استرضاء ترامب. وبالمثل، فإنَّ أصحاب الصحف من أصحاب المليارات مثل جيف بيزوس وباتريك سون شيونغ ــاللذان يملكان صحيفتي “واشنطن بوست” و”لوس أنجلِس تايمز” على التوالي ــ لديهما حوافز مالية لكسب ود ترامب، حتى لو كان ذلك يعني الحد من استقلالهما التحريري. باختصار، لا يتمثل الخطر الأساسي في قيام حلفاء ترامب بشراء قطاع الإعلام بأكمله، بل في أنَّ العديد من الملاك الحاليين يخشون المواجهة السياسية المباشرة.
قنوات معلومات بديلة
إنَّ الخطرَ الأخير الذي يهدد وسائل الإعلام المستقلة، والذي تجسّده الديموقراطيات المُتراجعة الأخرى، يتمثّل في الاعتماد المتزايد من جانب الزعماء غير الليبراليين على قنوات المعلومات البديلة التي لا تلتزم بمعايير صحافية صارمة ولكنها غالبًا ما تكون ذات نطاق أوسع بكثير.
ومع حصول المزيد من الناس على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي، وسّعت حكوماتٌ استبدادية عدة سيطرتها على المحتوى عبر الإنترنت، على سبيل المثال من خلال تمرير قوانين تُجبر شركات وسائل التواصل الاجتماعي على إزالة المحتوى الذي لا تحبه الحكومة. وقد أتقن الرئيس السلفادوري، نجيب بُقيلة، دليلًا أكثر دقة: تعزيز الدعم من خلال دفع أموال للمؤثّرين المتمرّسين في مجال التكنولوجيا لإغراق الخطاب عبر الإنترنت بمحتوى مؤيد للحكومة، في حين يتم إضعاف الجهات الفاعلة والمؤسسات التي يمكنها التحقّق من دقّة ادعاءاتهم.
تُظهِرُ تكتيكات بُقيلة أوجه التشابه الأكثر وضوحًا مع استخدام ترامب لاقتصاد الاهتمام، حيث تجعل المعلومات المضللة غير المقيدة وغرف الصدى الإيديولوجية السيطرة المباشرة أقل إلحاحًا. خلال فترة ولايته الأولى، اشتكى ترامب بشكل روتيني من أنَّ تعديل محتوى شركات وسائل التواصل الاجتماعي كان مُتحيّزًا ضد إدارته. بعد حظره من “تويتر”، أنشأ منصة “تروث سوشال” (Truth Social) كقناة اتصال بديلة. لكن منذ ذلك الحين، تحوّل المشهد عبر الإنترنت لصالحه. فقد أدت التغييرات البنيوية التي أجراها إيلون ماسك في “X” -تويتر سابقًا- إلى تفضيل المستخدمين اليمينيين المتطرفين، كما تخلت “ميتا” (Meta)، الحريصة على إرضاء إدارة ترامب، عن التحقق من الحقائق من قبل طرف ثالث لكونها “متحيّزة سياسيًا بشكل مفرط”. تفتح هذه التغييرات الباب لمزيد من التضليل بالإضافة إلى المزيد من تفتت وسائل الإعلام والاستقطاب مع رحيل المستخدمين غير الراضين إلى منصات أخرى أصغر حجمًا.
كما يعمل ترامب على تنمية البدائل للمنافذ الإعلامية التقليدية، بما يتجاوز شبكته الاجتماعية. فخلال حملته الانتخابية لعام 2024، ركّز على الوصول إلى الناخبين المحتمَلين ليس من خلال وسائل الإعلام السائدة ولكن من خلال شبكة أوسع بكثير من قنوات اليوتيوب والبرامج الإذاعية والبودكاست التي لا تحمل توجّهات سياسية صريحة ولا تلتزم بمعايير تحريرية صارمة. واستمرارًا لهذه الاستراتيجية، أعلن البيت الأبيض أخيرًا أنَّ غرفة الإحاطة الصحافية ستمنح الاعتماد لمنشئي البودكاست والمدوّنين ومنشئي محتوى “تيك توك”.
وبالتالي فإنَّ التهديدات الحالية لوسائل الإعلام المستقلة باعتبارها ركيزة من ركائز الديموقراطية الأميركية لا تكمن فقط في التشهير المستهدف والترهيب القانوني وعدم رغبة أصحاب الأعمال في الدفاع عن الاستقلال التحريري، بل تكمن أيضًا في قدرة ترامب على الاستفادة من المنصات التي لا تخضع إلّا للحد الأدنى من التحقق من الحقائق، ما يزيد من تقويض نطاق الصحافة عالية الجودة ويجعل من الصعب على الجمهور التمييز بين الحقيقة والأخبار المُضَلّلة.
- ساسكيا بريشينماشر هي زميلة بارزة في برنامج الديموقراطية والصراع والحوكمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. تركز أبحاثها على النوع الاجتماعي والمجتمع المدني والحوكمة الديموقراطية في الولايات المتحدة والعالم.
- مارغو تريدويل هي زميلة غايثر جونيور في برنامج الديموقراطية والصراع والحوكمة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. تكمن اهتماماتها في النوع الاجتماعي وحقوق العمل والمجتمع المدني.
- * كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.