سياسةُ “فَرِّق تَسُد” من الخرطوم إلى كييف ومن بكين إلى واشنطن

الدكتور داوود البلوشي*

لطالما ارتَبَطَت سياسةُ “فَرِّق تَسُد” بالإمبراطورية البريطانية، التي استَخدَمَتها كأداةٍ لاستعمارِ الشعوب، ليس فقط سياسيًا، بل أيضًا اقتصاديًا وتجاريًا واجتماعيًا. تقومُ هذه السياسة على زَرعِ الانقسامِ بين مكوّنات المجتمع الواحد دينيًا، عرقيًا، طائفيًا، أو جهويًا ، لضمان السيطرة وتقويض أيِّ مقاومة مُوَحَّدة، حيث تداخلت مع هذه السياسة ثقافة السجان والسجين. غير أنَّ المفارقة الكبرى اليوم تَكمُنُ في أنَّ هذه السياسة لم تَمُت، ولم تُدفن مع نهاية الاستعمار الكلاسيكي، بل أُعِيدَ تدويرها في قالبٍ جديد على أيدي قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، بل وحتى الأنظمة الحاكمة في العديد من دول” الجنوب العالمي”.

بل وعادت هذه السياسة في ثوبٍ جديد عبر الإعلام ، والاقتصاد، وتمزيق الهويات الوطنية والدينية، كما إنها انتقلت إلى الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول المستعمَرة سابقًا. والمفارقة أنَّ الضحية نفسها بدأت تُعيد إنتاج عقلية السجّان، كما يقول المثل “في النهاية يتبنى السجين ثقافة السجان”، وهذا ما نراه اليوم في أنظمة الحكم والنخب السياسية في الدول العربية والأفريقية والآسيوية.

أولاً:  من التفريق إلى التحكم وليدة البنية العميقة لسياسة “فرّق تسُد”

ليست سياسة فرّق تَسُد مجرّد شعارٍ استعماري قديم، بل هي آلية مركّبة تشمل:

  • تفتيت الهوية الجامعة عبر صناعة هويات فرعية متصارعة؛
  • تحويل الصراع من عمودي إلى أفقي، أي من مواجهة السلطة إلى صراع بين الجماعات؛
  • إعادة إنتاج الهيمنة عبر الداخل حيث تصبح الفئة المُهيمَن عليها هي نفسها أداة التحكُّم.

وقد تمظهر هذا في الوطن العربي من خلال تغذية التوترات الطائفية والمناطقية، وشرعنة الانقسامات باسم الديموقراطية التمثيلية” التي تُفرّغ من مضمونها حين تُبنى على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية”.

ففي العالم العربي، نرى آثارًا لسياسة فرّق تَسُد، وثقافة السجّان والسجين بوضوح في السودان، وتُعتَبَرُ الصيغة الأكثر دموية، حيث استُخدِمَت الانقسامات العرقية والدينية لتأجيج الصراعات ولتغذية أطرافٍ داخلية وخارجية، في ظلِّ غياب مشروعٍ وطني جامع، مما أدّى إلى تقسيم البلاد وإلى المزيد من التمزيق.

أما في اليمن، فإنَّ الصراعَ بين الشمال والجنوب، والسنّة والشيعة، والتحالفات القبلية، وبين الحوثيين والشرعية، والقبائل، والتحالفات الإقليمية،  يعكس تفكيكًا ممنهجًا للدول فالصراع ما هو إلّا إعادة إنتاجٍ لاستراتيجية “فرّق تسُد” نفسها.

أمّا فلسطين، فهي المختبر الأكبر لفشل العالم في تجاوز ثنائية “المقاومة والإرهاب”، بينما يُترك المدنيون تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي المتجدد، ومعه الحرب في لبنان وسوريا على وقع الصمت الدولي. والحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين ولبنان وسوريا لم تعد تُمارَس كما كانت أيام الاحتلال البريطاني أو الفرنسي، بل ضمن خطاب إعلامي وأخلاقي جديد، يُبرّر الاستعمار عبر مفردات “الحرب على الإرهاب”، و”حق الدفاع”، و”محاربة التطرّف”، بينما يُقتَلُ المدنيون وتُفَكَّكُ المجتمعات.

وفي العراق ولبنان، تتكرّسُ الانقسامات الطائفية كأدواتٍ للحُكم بدل أن تكون عقبات يجب تجاوزها. وقد تحوّلت الانتخابات نفسها إلى ساحةٍ لتكريس هذا الانقسام، حيث تُبنى الحملات الانتخابية على أساس الانتماء لا البرامج.

الهند وباكستان هما مثالٌ كلاسيكي آخر، حيث استُخدِمَت الطائفية والهويات الدينية لتقسيمِ شعبٍ واحدٍ إلى دولتين متصارعتين.

أما أوكرانيا، فهي مثالٌ واضحٌ على “فرّق تَسُد” بنسختها الجيوسياسية. تحوّلت البلاد إلى ساحة مواجهة بين الغرب وروسيا، وبدلًا من إيجادِ حلٍّ سياسي، تمَّ دعمُ الصراع لتقويض روسيا وإعادة رسم خارطة النفوذ الأوروبية وفق المصالح الأميركية.

ثانيًا: سياسة “فرّق تَسُد” تحوّلت إلى أداة عالمية تتبناها الدول الكبرى لإدامة السيطرة وضمان المصالح.

في الداخل الأميركي، وخصوصًا خلال عهد دونالد ترامب، استُخدِمَت هذه الاستراتيجية بشكلٍ مُمَنهَج وذلك من خلال تجييش العرق الأبيض، شيطنة الأقليات، كسر الخطاب الديموقراطي، وتقويض النظام التجاري الدولي تحت شعار “أميركا أوّلًا”. ترامب لم يعزل أميركا عن العالم فقط، بل غذى انقساماتها الداخلية، وصدّر خطابًا شعبويًا إلى بقية العالم. وكما إنَّ الولايات المتحدة تُوَظِّفُ هذه الاستراتيجية بنسخةٍ أكثر تطوّرًا من دعم الانقسامات السياسية في أميركا اللاتينية، إلى تغذية التوترات بين الحلفاء الأوروبيين وروسيا عبر حرب أوكرانيا، وصولًا إلى فرض سياسات اقتصادية تُمزّقُ نسيجَ الدول من الداخل.

اليوم، الصين من جهتها تتخذ النهج نفسه ولا تستخدم الجيوش،  ولكن عبر أدوات عبر سياسة ديبلوماسية الديون. حيث استطاعت السيطرة على موانئ استراتيجية كما حصل في سريلانكا، حيث اضطرت الحكومة إلى التنازل عن ميناء هامبانتوتا لبكين. السياسة ذاتها تُمارسها الصين في أفريقيا. وفي الوقت نفسه تتنافس الصين وأميركا وفرنسا على النفوذ الاقتصادي تحت غطاء التنمية.

ثالثًا: الإعلامُ كأداة استعمارٍ ناعم

  • لم تَعُد الدبابات تدخل المدن، بل الأفكار تدخل العقول؛
  • الإعلام ليس مرآة الواقع، بل صانعٌ له؛
  • يُستخدَمُ الإعلام لزرع العداء الداخلي بين مكوِّنات المجتمع؛
  • التحكُّم في “المعنى” أصبح أداة فرّق تَسُد متقدّمة، عبر تحريف مفاهيم كالحرية والدين.

رابعًاً: من استعمارٍ مباشر إلى استعمار وظيفي

  • الاستعمار الكلاسيكي انتهى، لكن ما بقي هو الاستعمار “الوظيفي”؛
  • نخبة محلّية تؤدّي أدوار السجّان؛
  • اقتصادٌ رَيعي مُرتبط بالخارج؛
  • طبقة سياسية مرتبطة بالقرار الدولي أكثر من ارتباطها بالشعب.

خامسًا :ً ثنائية السجّان والسجين بين شي جين بينغ وترامب مَن يُقيِّدُ مَن؟

حين تطول فترة القمع، يبدأ المقموع بتبنّي ثقافة القامع. يصبح الطغيان سلوكًا يوميًا، والطاعة أمانًا زائفًا، ويولد من السجين سجّانٌ داخلي، يراقب ذاته والآخرين. تحوّلَ بعض الدول الكبرى إلى سجانين جدد مثل  أميركا بسياسة ترامب تقوّض النظام التجاري والدولي، والصين تمارس الاستعمار الناعم عبر القروض والموانئ، والدول الإقليمية تؤجج الصراعات الأهلية داخل دول الجوار.

في المشهد العالمي اليوم، تتجسّد سياسة “السجّان والسجين” بين الصين والولايات المتحدة، لا على شكلِ قمعٍ مباشر، بل من خلال الحرب التجارية والاقتصادية والإعلامية التي يخوضها الطرفان منذ عهد ترامب وما زالت تتفاقم. حيث قام الرئيس الأميركي برفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية في محاولةٍ لكبح الصعود الصناعي لبكين، وهاجم علنًا منظمة التجارة العالمية، وسعى لفك الارتباط بين الاقتصادين الأميركي والصيني. والصين، بدورها، لم ترد فقط عبر المعاملة بالمثل، بل عبر بناء منظومة موازية من مبادرة الحزام والطريق إلى إنشاء شبكات بديلة للتمويل.

لكن مَن هو السجّان ومَن هو السجين هنا؟ السؤال الكبير. هل يمكن للجنوب العالمي أن يتحرّرَ من ثقافة “السجّان”؟ أم أنَّ هذه الاستراتيجية أصبحت جُزءًا من منظومة التفكير السياسي السائدة، شرقًا وغربًا؟ من جهة، ترامب يحاول قفل بوابات السوق الأميركية في وجه الصين، ويقيّد المؤسّسات الدولية لتصبح أداة سياسية. ومن جهة أخرى، الصين تسعى إلى توسيع سجونها الناعمة عبر القروض والبنية التحتية في أفريقيا وآسيا، حيث يصبح الدين قيدًا، والميناء رهينة، والسيادة مجرّد وعد.

نحن أمام استعمارٍ من نوعٍ جديد، لا يحتاج إلى مستوطنين، بل إلى سرديات، قروض، إعلام، وتحالفات ناعمة تفتك بالدول من الداخل.  وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الجوهري: هل العالم الحديث أكثر حرية، أم اكثز قابلية لإعادة إنتاج السجن؟

وهنا تظهر المفارقة حيث أنَّ كلا الطرفين يلعبان دور السجّان، لكنهما أيضًا سجينان لنموذج العولمة التي خلقاها حيث لا أحد يستطيع الانفصال بسهولة، والاقتصاد العالمي نفسه بات رهينة هذا الصراع.
أما الدول الأخرى، لا سيما الضعيفة اقتصاديًا أو التابعة سياسيًا، فهي الضحايا الحقيقية لهذا الصراع ، تتلقّى الانعكاسات على شكل تضخم، وركود، وقيود على التكنولوجيا، ومنافسة شرسة على الأسواق. هي ليست فقط “سجينة” هذا الصراع، بل أحيانًا تُجبَرُ على اختيار سجّانها: هل هو الدولار، أم اليوان؟ واشنطن، أم بكين؟
هكذا، تتحوّل الخريطة الدولية إلى سجن متعدّد الطوابق: سجنٌ اقتصادي وسجنٌ إعلامي وسجنٌ مفهومي وتتغير فيه الجدران، لكن تبقى الفكرة والقوة لا تُمارَس فقط من الأعلى، بل من خلال النظام بأكمله وفي عمق كل نظام يقوم على سياسة “فرق تسد”. إنّ “فرق تسد”  اليوم لم تعد مجرد تكتيك استعماري، بل أصبحت عقيدة استراتيجية متعددة الأبعاد: سياسية، اقتصادية، إعلامية وحتى تكنولوجية.  وهي تُمارس باسم  الدفاع عن الديموقراطية.

السؤال الذي يطرح هنا: هل أصبح الجنوب العالمي سجينًا دائمًا لثقافة السجّان؟ أم أنَّ العالم بحاجة إلى نموذجٍ جديد من التعاون القائم على الشراكة العادلة بدل الصراع والانقسام؟

  • الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعةالسوربون في باريس. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى