الوضع الدولي بعد لقاء واشنطن المسرحي
المقابلة التي جرت في واشنطن يوم 28 شباط (فبراير) 2025 بين الرئيسين فولوديمير زيلينسكي ودونالد ترامب أمام الكاميرات، أظهرت للعالم وبفجاجة معنى السياسة الواقعية الجديدة. لقد عبّر ترامب بطريقة فظّة إلى حدٍّ ما عن سلطته وسطوته ليُظهِرَ لضيفه أنهما ليسا على قدم المساواة. وذكّر ترامب بالهشاشة الكبيرة التي تعاني منها أوكرانيا التي تحتاج إلى الولايات المتحدة في مواجهة روسيا. ولكن ما هو الوضع الدولي راهنًا بعد هذا اللقاء؟

الدكتور سعود المولى*
1. صراع الدول الكبرى في عالم اليوم
أصبح القرن الحادي والعشرين مسرحًا للتنافُس بين القوى العظمى التي تتفوّق على غيرها في قوّتها وطموحاتها. وتشعرُ الدول المتوسّطة القوة والقدرة، في جميع أنحاء العالم، بالقلق من إعادة التشكيل الإقليمي والدولي الجارية.
يُمكننا وصفَ القوة، بأنها “قدرة وحدة سياسية ما، على فرض إرادتها على وحدات أخرى”، من خلال بعض الخصائص الأساسية التي من الضروري امتلاكها بمستوى معيّن: الثروة الاقتصادية، وحجم السكان، والقدرة على التأثير، والقوة العسكرية ولا سيما القوة الذرية. وبعيدًا من هذه المعايير الكمية، فإنَّ الرغبة في التأثير في اللعبة العالمية هي شرطٌ آخر ضروري لكي تكونَ جُزءًا من هذا النادي الحصري للغاية. ويظل الطموح والرؤية والرغبة في الهيمنة هي العوامل الحاسمة.
وبهذا المعيار، هناك دولتان تُهيمنان على المنافسة الجيوسياسية العالمية: الولايات المتحدة، القوة العظمى الراسخة، والصين، القوة العظمى السريعة التوسُّع المدفوعة برغبةٍ في تعديل واقع النظام العالمي.
تُظهِرُ الصين قوةً اقتصادية تُعادل تقريبًا قوة الولايات المتحدة، كما إنَّ قدرتها على النفوذ تلحق تدريجًا بالقوة الناعمة لمنافستها التي ظلت لفترة طويلة مهيمنة. وفي جوانب أخرى فإنَّ البلدين متناقضان، والتفوُّق واضحٌ ومتوزِّعٌ هنا وهناك: ديموغرافي من جهة وعسكري من جهة أخرى.
ثم هناك دولة ثالثة، وهي قوة عظمى سابقة في القرن العشرين، تُحاولُ الحفاظ على مكانتها على المسرح الدولي من خلال الاعتماد على الديناميكية الصينية: هذه هي روسيا، التي أضعفتها بشدة “هزيمتها بالنقاط” في المعركة الإيديولوجية والاقتصادية والسياسية التي خاضتها مع منافستها الأميركية خلال الحرب الباردة. وتكمن قوتها الوحيدة اليوم في قدراتها العسكرية (التي أضعفتها الحرب في أوكرانيا وأنهكت قواها)، بما في ذلك ترسانتها النووية العملاقة التي تعادل ترسانة الولايات المتحدة.
كما إنَّ الهند، التي كانت منافسًا منذ زمن، والتي استندت إلى روسيا لفترة طويلة، لديها الآن القدرة على دخولِ هذه المنافسة والصعود على مسرح اللعبة الدولية. حتى الآن كانت صعوبات الهند الداخلية كبيرة جدًا ورغبتها في القوّة والهيمنة أضعف من أن “تدخل الحلبة”. وقرّر رئيس وزرائها ناريندرا مودي أنَّ الوقت قد حان لبلاده لتبني استراتيجية القوة العالمية، إذا لم تكن ترغب في الخضوع للقيادة الصينية.
اللعبة طبعًا مُعقّدة: يتحدى الخصمان الكبيران (أميركا والصين) بعضهما البعض، ويُحاولان إضعاف بعضهما البعض من خلال لعبة التحالفات والعقوبات، لكنهما يتعاونان بقوّةٍ اقتصاديًا. وتُمارسُ روسيا لعبة المواجهة، على أمل الاستفادة من التأثيرات غير المُتَوَقَّعة المترتّبة على الانزلاق المُحتَمَل في النزاع الصيني الأميركي. أما الهند فهي تفضل بناء موقف متوازن، من خلال مضاعفة التحالفات المتناقضة في كثيرٍ من الأحيان، حتى تجعل من نفسها عضوًا لا غنى عنه وتكتسب ــأخيرًاــ موقع العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وهو المكان الذي ترى أنه من حقّها أصلًا.
أما أوروبا “القارة العجوز”، فهي تعيش احتضار وهم الارتباط الأوروبي-الأطلسي ووهم النظام المعولم والمنظّم. والخيارات الاستراتيجية المُتبقّية أمامها كلها مفجعة. فنحن فقط في بداية مرحلة جديدة، قد تستغرق وقتًا طويلًا. ما يطرح على الأوروبيين مسؤوليات كبيرة قديمة وجديدة، ليس فقط في ما يتعلق بأوكرانيا، ولكن أيضًا في ما يتعلق بالبنية الأمنية لشبه القارة الأوروبية. فروسيا تُعيدُ بناء مناطق نفوذها. ومن غير الممكن أن تقبل أوروبا أن يكون ذلك على حساب استقرارها. ولا يمكن أن يصبح الاتحاد الأوروبي “آخر الحيوانات العاشبة في عالم الحيوانات آكلة اللحوم”، كما ألمح إلى ذلك رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون[1].
2. إعادة تشكيل العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
شهد شباط (فبراير) تمظهر موقف الإدارة الأميركية الجديدة من المسألتين الأساسيتين: الحرب الأوكرانية والأمن الأوروبي، وهما كانتا وما زالتا مرتبطتين.
في 12 شباط (فبراير) 2025، أعلن ترامب أنه أجرى للتو مكالمة هاتفية لمدة ساعة ونصف مع فلاديمير بوتين. فيما كان وزير دفاعه يعلن في اليوم نفسه خلال اجتماعه بالحلفاء الأوروبيين في جنيف أنَّ عودة أوكرانيا إلى حدود 2014 غير واقعية، وأنَّ انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مُستَبعَد. وهكذا حصلت روسيا بتكلفة زهيدة على النتيجة التي كانت تسعى إليها منذ سنوات: إقامة حوار ثنائي مع الولايات المتحدة، كوسيلة لاستعادة الثنائية القطبية التي ميزت الحرب الباردة (1947-1991)، ولكن قبل كل شيء لإظهار أنها تخرج من العزلة.
إضافة إلى ذلك، جرت هذه المناقشة الروسية-الأميركية من دون الأوكرانيين، حيث اتصل ترامب بزيلينسكي بعد ساعات قليلة. وبعبارة أخرى، وفي ما يخص المسألة الأوكرانية، تريد واشنطن إجراء مفاوضات منفصلة: واحدة مع موسكو، والأخرى مع كييف. وعلاوة على ذلك، لم تتم دعوة الأوكرانيين إلى المملكة العربية السعودية. ثم كانت الجلسة الفاجعة في البيت الأبيض بين ترامب ونائبه جي دي فانس وزيلينسكي والتي أظهرت بوضوح اتجاهات السياسة الأميركية الجديدة وخطورتها ليس فقط على وضع أوكرانيا بل على كل الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي.
لقد حقّقت موسكو بالفعل بعض أهدافها القصوى من الناحية النظرية: القبول الفعلي لـعمليات الضمّ في أوكرانيا و”إضفاء الوضع الفنلندي” على أوكرانيا (أي عدم العضوية في حلف شمال الأطلسي)، بما في ذلك حظر تسليم الأسلحة وتركيب البنية التحتية العسكرية الأميركية هناك (وهذا في الحقيقة يضفي الطابع الرسمي على ما لا ولم يرغب ترامب في القيام به على أيِّ حال). استبعاد زيلينسكي من المفاوضات وحديث ترامب عن ضعف شعبية الرئيس الأوكراني في استطلاعات الرأي في أوكرانيا، ثم الكلام الذي وجهه ترامب إلى زيلينسكي في مكتبه بواشنطن، هي خطوة نحو قبول آخر مطلب أساسي لموسكو: “تغيير النظام”. وبفضل ترامب، دخل الكرملين مسيرة تحقيق الأهداف الرئيسة الثلاثة للسياسة الخارجية السوفياتية والروسية: تفكيك “الناتو” –هذا العائق الرئيس أمام التوسُّع الروسي في أوروبا–، فصل الولايات المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، والسيطرة على منطقة بقايا دول ما بعد الاتحاد السوفياتي.
3. مصير أوكرانيا وأمن أوروبا
انهارت فجأة الأسس الجيوسياسية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي بعد الحرب الباردة. الأساسُ الأول كان مبنيًا على دوام الارتباط عبر الأطلسي إلى ما لا نهاية. والثاني على الرهان بأن ترتيبًا علميًا للنظام الدولي من شأنه أن يُغيّرَ العالم. لقد اختفت هاتان الركيزتان، في حين يجهد ترامب لإبلاغ الأوروبيين أنَّ أميركا تنتقل إلى مكانٍ آخر. يخشى الأوروبيون طبعًا احتمال فرض وقف لإطلاق النار، لا يكون مصحوبًا بخطة سلام ناجحة قدر الإمكان، التي وحدها تسمح، من بين أمور أخرى، بتقديم ضمانات أمنية قوية إلى حكومة كييف من أجل ثني بوتين عن إطلاق حملة عسكرية جديدة. ونتذكر أنَّ اتفاقيات مينسك التي كانت تهدف إلى إنهاء القتال بين جمهورية دونباس الانفصالية، المدعومة من موسكو، وكييف، لم تمنع الغزو الروسي في 24 شباط (فبراير) 2022.
الأوروبيون، الذين فوجئوا بتسرُّع الأميركيين، يخشون أيضًا أن تقبل إدارة ترامب بتقديم تنازلات إقليمية كبيرة، بما يعزز ويشرعن المكاسب التي حققتها القوات الروسية على الأرض. وبالنسبة إلى الأوروبيين، فإنه لا ينبغي القبول بأيِّ خطواتٍ تؤدي إلى الاعتراف بشكلٍ نهائي بضمِّ الأراضي التي احتلتها روسيا ولا بتقسيم البلاد. إذ يتعلق الأمر بالدفاع عن وحدة وسلامة الأراضي الإقليمية لأوكرانيا، من دون استبعاد إعادة التوحيد في نهاية المطاف، مثلما كان الحال تقريبًا في زمن الستار الحديدي بين الألمانيتين الشرقية والغربية. وبما أنَّ إدارة ترامب تستبعد مسبقًا انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، يصُرُّ الأوروبيون على “الضمانات الأمنية” التي وعدوا بتقديمها إلى كييف، وإذا أمكن، بدعم أميركي عند الحاجة.
وفي ما يتعدّى مسألة مصير أوكرانيا، يخشى الأوروبيون من ارتدادات موجة الصدمة الناجمة عن “اتفاق” سيئ، على الهيكل الأمني للقارة الأوروبية. هذا الأخير يتعلق خصوصًا بالقوات والوسائط العسكرية المُتمركزة على الجانب الشرقي من أوروبا. هناك اليوم ثماني كتائب متعددة الجنسيات تحت راية حلف شمال الأطلسي تنتشر في دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وفي بولندا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا والمجر، وتتراوح أعدادهم بين 1000 و4500 جندي في كل بلد. ومع ذلك، فإنَّ روسيا تريد على وجه التحديد مناقشة وجود هذه القوات، علمًا أنَّ الرواية الروسية عن “مبرّرات” اندلاع الحرب ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، كانت تعزيز وجود “الناتو” على الجانب الشرقي من أوروبا. يوجد الآن حوالي 100 ألف جندي أميركي في أوروبا، ويمكن لترامب أن يوافق بسرعة على تقليل حجم هذا الانتشار بنسبة 20٪ على الأقل. بل قد نشهد ربما عودة ظهور “عقيدة بريجنيف 2.0″، أي عقيدة السيادة المحدودة في المنطقة المجاورة مباشرة لروسيا، مع إعادة تشكيل لوح تدريع على الحدود. وما يسهل ذلك هو صعود الأحزاب الشعبوية “المناهضة للنظام القائم”، لا بل والمؤيدة لروسيا بشكل علني، ليس فقط في دول الاتحاد السوفياتي السابق ولكن أيضًا في أوروبا الوسطى.
وإذا ما تحقّق الاتفاق على وقفٍ لإطلاق النار، ستُطرَحُ بحدّة مسألة الضمانات الأمنية؟ وبما أن عضوية “الناتو” مُستَبعَدة في المدى القصير، فإنَّ الحلَّ الأفضل لأوكرانيا ربما يكون ضمانة أمنية مدعومة بقوات أوروبية على الأرض. هناك “سابقة”: فقد أُنشئت اتفاقية “برلين زائد” (Berlin Plus) في العام 2003 لتمكين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من اقتراض وسائط من “الناتو” لعمليات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي. ومنذ العام 2018، قادت المملكة المتحدة أيضًا قوة متعددة الجنسيات قوامها نحو 10 آلاف جندي، وألمح مسؤولون فرنسيون إلى إمكانية إنشاء قوة تدخل سريع مماثلة من 10,000 جندي، بحيث يمكن نشرهما معًا، لتأمين سلامة ووحدة أوكرانيا. لكن سيتعيَّن على الاتحاد الأوروبي جمع ما لا يقل عن 30 ألف جندي، فضلًا عن الدعم اللوجستي والاستخباراتي الحاسم المطلوب من الولايات المتحدة،لإنشاء قوة ردع ذات مصداقية. كل هذا يعني قيام “قوة تطمين” أوروبية، من شأنها أن تعمل خلف القوات الأوكرانية على طول خط وقف إطلاق النار. انتشار هذه القوة سيكون مشروطًا بـ “حزام دعم” (“شبكة أمان”) على الأميركيين توفيرها. ومن المرجح أن يكون هذا الحزام (ربما الغطاء الجوي) مثبطًا لأي محاولة من جانب روسيا لانتهاك اتفاق السلام والدخول في نزاع مع القوات الأوروبية المنتشرة في أوكرانيا. ولذلك لا يمكن أن يتعلق الأمر بـ”قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة”، وإنما هي قوة مكينة، تتألف من كتائب من دول أوروبية عدة، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (أشارت بريطانيا بالفعل إلى أنها ستشارك في عملية النشر هذه، مثلها مثل فرنسا والسويد وفنلندا). تشكيل هذه القوة يوجه ثلاث رسائل متداخلة. فهي ستكون إشارة قوية إلى نظام موسكو لثنيه عن استئناف الأعمال العدائية. وستكون هذه إشارة تضامن مع أوكرانيا، ورسالة واضحة إلى الأميركيين: يأخذ الأوروبيون هذا الضمان الأمني على محمل الجد، وهم على استعداد لقبول ما يحمله من المخاطر. والحقيقة أن السلام الدائم في أوكرانيا لن يكون ممكنًا من دون الأوروبيين، وهذا ما يعرفه سيد الكرملين.
وإضافةً إلى الضمانات الأمنية، تحتاج أوكرانيا إلى الكثير من الاستثمار الأجنبي لإعادة بناء اقتصادها وتحقيق الرخاء. وهنا تكمن الفرصة للولايات المتحدة. وكما سبق أن اعترفَ ترامب، فإنَّ أوكرانيا غنية بالمعادن الأساسية في التربة النادرة التي تحتاجها أميركا، على الرغم من وجود بعضها في دونباس أو جوارها. ويعتقد ترامب أنه ينبغي أن تتوفر للولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى هذه الموارد، مع منع الصين وروسيا من الوصول إليها. والرئيس الأميركي ملتزم هنا بمنطق المعاملات المالية الذي يجيده، واشتهر به، وهو يرى في ذلك وسيلة للتعويض عن المساعدات العسكرية والمساعدات المالية الأميركية لأوكرانيا.
4. ترامب وسابقة أفغانستان
نحن هنا نلمح نهج ترامب تجاه أفغانستان خلال فترة ولايته الأولى يكرره في نهجه تجاه أوكرانيا. للتذكير، تفاوضت إدارة ترامب على اتفاق السلام الأول مع طالبان في الدوحة، واستثنت الحكومة الأفغانية من هذه المحادثات. في نهاية المطاف، أعطى الاتفاق الأولوية للإنهاء السريع للحرب مع تحديد موعد نهائي قصير الأمد للانسحاب الأميركي. احترمت إدارة بايدن الاتفاق –لكن مع تأخير الانسحاب الكامل لمدة أربعة أشهر فقط- والباقي نعرفه ويعرفه العالم.
ويرى المراقبون الأميركيون والأوروبيون أنه لا مصلحة لترامب في أن تكون أوكرانيا أفغانستان جديدة. وإذا كان على حق في محاولة إنهاء الحرب، فإنَّ أيَّ اتفاق متفاوض عليه على عجل على حساب حلفائه وشركائه سيكون خطأ جسيمًا. وهذا يمكن أن يشجع خصوم أميركا، ويكسر التحالف الأطلسي، ويجعل التحول نحو آسيا أكثر صعوبة ويظهر فشلًا مريعًا للديبلوماسية الأميركية، ناهيك عن تقويض رغبة ترامب في أن يؤخذ بعين الاعتبار كصانع للسلام النهائي.
ويبدو أنَّ أحدَ حسابات ترامب هو إعادة التواصل مع روسيا لفصلها عن الصين. ويتمثل ذلك في تجديد رهان كيسنجر في العام 1972 الذي نظم التقارب مع بكين لفصل الصين عن الاتحاد السوفياتي. وإذا كانت هذه هي الحسابات الأميركية، فما هي مصلحة الاتحاد الأوروبي هنا؟ إن أوروبا تواجه خيارَين. الأول يتمثّل في السير في اتجاه الحسابات الأميركية، وبالتالي استئناف الحوار مع روسيا لإعادة إدخالها في نظام أمني لعموم أوروبا من شأنه أن يسمح بأن تتحرر موسكو من الصين. والثاني يكون، على العكس من ذلك، في الدفاع عن نوعٍ مُعيَّن من عولمة التجارة التي تدعمها الصين وبالتالي التوصل إلى اتفاق مع بكين، من خلال تحدي واشنطن وموسكو في الوقت نفسه.
هل نتجه نحو نظام جيوسياسي عالمي جديد؟
تغيّرَ الوضع في الشرق الأوسط بشكلٍ جذري في غضون أسابيع قليلة في نهاية العام 2024. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد إنهاء الحربين المستمرتين في الشرق الأوسط وأوكرانيا، فيفرض وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط (غزة ولبنان). ثم يطرح رؤيته الخاصة جدًا للمستقبل المحتمل لقطاع غزة. كما أعاد الاتصال بالرياض بينما كانت إدارة جو بايدن على علاقة سيئة مع السعودية وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وقد أعلن ترامب أنه يريد وقف إطلاق النار في أوكرانيا، ما يسمح لواشنطن بإعادة توجيه إنفاقها نحو المسارح الأخرى. هذا ناهيك عن رغبته الجشعة في الوصول إلى ثروة المعادن الأوكرانية.
من جهة أخرى، وفي وقت سابق أعلن ترامب عن سلسلةٍ كاملة من العقوبات الجمركية ضد شركاء أميركا الرئيسيين: كندا، المكسيك، الصين، الاتحاد الأوروبي، ما يعزز الحرب الاقتصادية ضد حلفاء واشنطن. وبالتالي فإنَّ ما عرفناه منذ عقود عن غرب ذي رأسين ينهار أمامنا بشكل مفاجئ. ومن الواضح أنَّ ترامب يدافع عن مصالح بلاده، وفق شعاره: “أميركا أوّلًا”، وليس عن القيم المشتركة مع الأوروبيين الذين وقفوا مذهولين أمام سلسلة الهجمات التي كانوا هدفًا لها. تزعزع استقرارهم لأنه منذ الحرب العالمية الثانية كان قربهم من واشنطن قويًا جدًا. لقد بُنِيَت أوروبا الموحَّدة تحت جناح الولايات المتحدة واتخذتها نموذجًا لها. فهل يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يعيش من دون القرب من أميركا ودعمها؟ أثار التهديد بفرض رسوم جمركية تبلغ 25% على المنتجات الأوروبية، ردود فعل غاضبة، ووعودًا باتخاذ تدابير انتقامية.
والحال أنَّ الاتحاد الأوروبي في أزمة مقلقة على كافة المستويات العسكرية والديبلوماسية والجيوسياسية، ناهيك عن الاقتصادية، لأنه سيواجه صعوبة كبيرة في استمرار تمويل أوكرانيا بمئات المليارات، وتقديم تضحيات كبيرة جدًا من الأوروبيين لبلد يُعاني فعليًا من الفقر المدقع والضرر بسبب ثلاث سنوات من الحرب. وتواجه إدارة أورسولا فون دير لاين مأزقًا اقتصاديًا (الركود الاقتصادي الذي أبرزه تقرير ماريو دراغي في أيلول/سبتمبر 2024)، وفي الطاقة، بين نهاية واردات الغاز الروسي، واستيراد الغاز الصخري الأميركي القذر والمكلف، وضرورات اعتماد الطاقة الخضراء، وضغوطات المجتمعات لإزالة الصناعات التي تتزايد آثارها الضارة من غازات سامة وقاتلة … وهي تواجه أيضًا طريقًا مسدودًا جيوسياسيًا، إذ إنَّ واشنطن وموسكو وبكين تتفاوض حول وقف إطلاق النار في أوكرانيا، من خلف الاتحاد، وخارج عاصمته بروكسِل، فتختار المملكة العربية السعودية كمكان مفضّل للتفاوض، وهذه هي الطامة الكبرى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي.
وأعلن الرئيس الأميركي عن خططٍ للاستيلاء على الثروات المعدنية الأوكرانية، وأنَّ على الأوروبيين تمويل إعادة إعمار هذا البلد الذي أنهكته الحرب بشدة. أحد الاحتمالات الممكنة أوروبيًا تشكيل قوة لحفظ السلام على الأراضي الأوكرانية لا يشارك فيها الأميركيون. ويطالب الرئيس زيلينسكي بقوة من 200 ألف رجل. ومن بين السيناريوهات المحتملة التي تدرسها باريس ولندن إرسال ثلاثين ألف جندي. ووفق مصادر برلمانية وعسكرية فإنَّ هذا من شأنه أن يتوافق مع جهدٍ مالي ربما يصل إلى ملياري يورو لفرنسا، التي يقدر دعمها لأوكرانيا بنحو ثلاثة مليارات يورو للعام 2024. ومن غير الواضح إن كان الأميركيون سيشاركون في هذا الجهد المالي. بالإضافة إلى ذلك، يقدر البنك الدولي والأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية أن إعادة إعمار أوكرانيا تتطلب 506 مليارات يورو (524 مليار دولار) .
5. ماذا بعد لقاء ترامب-زيلينسكي العاصف؟
نحن فقط في بداية محطة تاريخية جديدة، الأمر الذي سيستغرق بعض الوقت للتبلور.
بعد مرور أسبوع على الزلزال الديبلوماسي بين الرئيس ترامب ونائبه فانس والرئيس الأوكراني زيلينسكي، لا يزال العالم يعيش الصدمة والارتجاجات .
في أوروبا، اندفع القادة لإلقاء التصريحات واجتمع حلفاء أوكرانيا الأوروبيون، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في لندن يوم الأحد 2 آذار (مارس) لصياغة خطة سلام خاصة بهم واتفقوا على زيادة الدعم لكييف.
في موسكو، واصل المسؤولون الترحيب بنهج ترامب ومقاربته للنزاع – ولسياسته الخارجية بشكلٍ عام. وصرح ديمتري بيسكوف الناطق بلسان الكرملين: “إن الإدارة الأميركية الجديدة تغير بسرعة جميع قواعد السياسة الخارجية”. وأشار إلى أنَّ “هذا يتوافق إلى حد كبير مع رؤيتنا”. ووصف التلفزيون الروسي الرسمي ما يحدث بأنه صياغة نظام عالمي جديد بفضل وجود ترامب في البيت الأبيض: “الآن يتقرر كل شيء من داخل مثلث كبير: روسيا والصين وأميركا. وفي هذا، سيؤتي البناء الجديد للعالم ثماره. ولم يعد الاتحاد الأوروبي، كقوة سياسية موحدة، موجودًا”.
في واشنطن، أوضح مسؤولو الإدارة أنَّ الأمر متروك لزيلينسكي لإصلاح الأمور إذا كانت هناك أي فرصة لتوقيع صفقة المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا. وقال أحد المسؤولين لشبكة أن بي سي نيوز: “يعتقد الرئيس أن على زيلينسكي أن يعود إلى الطاولة ويجب أن يكون هو الشخص الذي يأتي ويصلح الأمر”. وحثت الزعيمة الإيطالية جورجيا ميلوني زيلينسكي أيضًا على مدِّ غصن زيتون إلى البيت الأبيض وحذرت من مخاطر “الغرب المُنقَسِم”.
هل كان ترامب وفانس يتنمرّان أمام أعين العالم على حليفٍ محاصر (كما زعم إيلي ليك إثر ذلك مباشرة[2])؟ أم إننا كنا نشاهد البيت الأبيض يقف مدافعًا عن دافعي الضرائب الأميركيين (كما قالت باتيا أونغار سارغون Batya Ungar-Sargon )[3]؟ هناك أسئلة أكبر: هل سياسة ترامب في أوكرانيا اعترافٌ متأخر بحدود القوة الأميركية؟ أم أنها خطأ غير متعمَّد يعرّض للخطر ليس فقط حلفاء أميركا بل وأميركا نفسها؟ هل يمكن أن تكون نهاية حلف شمال الأطلسي “على بُعدِ أيامٍ فقط” من هذا الحدث، كما قال القائد الأعلى السابق لقوات الناتو الأدميرال جايمس ستافريديس[4]؟ أم أنَّ حالة عدم اليقين والتأرجح السائدة قد تدفع الدول الأعضاء أخيرًا إلى تلبية متطلبات الإنفاق الدفاعي التي يعتمد عليها التحالف؟ وما هي فرص اتفاق سلام مشرف لأوكرانيا؟
هناك أمر واحد واضح: نحن عند لحظة تاريخية فاصلة ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا بل وللنظام العالمي.
ختامًا: أميركا والسياسة الواقعية
مصير الحرب ليس في صالح الأوكرانيين. لقد صمدت قواتهم بطريقة لم تحسب لها موسكو اي حساب، وذلك بفضل المساعدات الغربية. لكن الإدارة الأمريكية الجديدة لم تعد ترغب في الاستمرار في تمويل حرب لم ولن تحسم على الأرض، في حين أن الأولوية الاستراتيجية الأمريكية تكمن في المحيط الهادئ. وقد أعلن الرئيس ترامب أنه لا يرغب في انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ولكن يبدو من غير المرجح أن تقوم روسيا بإجلاء قواتها من الأراضي التي احتلتها عسكريًا. ومن المرجح أن تجري المفاوضات من دون الأوروبيين، لا بل وحتى من دون الأوكرانيين.
المقابلة التي جرت في واشنطن يوم 28 شباط (فبراير) 2025 بين الرئيسين زيلينسكي وترامب أمام الكاميرات، أظهرت للعالم وبفجاجة معنى السياسة الواقعية الجديدة. لقد عبّر ترامب بطريقة فظّة إلى حدٍّ ما عن سلطته وسطوته ليُظهِرَ لضيفه أنهما ليسا على قدم المساواة. وذكّر ترامب بالهشاشة الكبيرة التي تعاني منها أوكرانيا التي تحتاج إلى الولايات المتحدة في مواجهة روسيا. وهذا بالطبع مثالٌ آخر على سوء معاملة الولايات المتحدة لحلفائها، وعلى تحطيم العلاقات الدولية، ناهيك عن تسعير الخوف الأوروبي من انقسام المعسكر الغربي وانهيار توافقاته ومشاريعه.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
هوامش
[1] ماكرون: لا يجب على الدول الأوروبية تفويض قضاياها الأمنية لواشنطن إلى الأبد – RT Arabic
[2] A Fiasco in the Oval Office – by Eli Lake – The Free Press
[3] What Average Americans Think of Trump’s Zelensky Showdown
[4] Former Nato commander warns end of alliance could be ‘days away’
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.