المصالحُ الوطنية والقومية تتقدَّمُ على القِيَمِ والعُهود

السفير فيكتور الزمتر*

مُنذُ عَودَته المُظَفَّرَة إلى البيت الأبيض، والرئيسُ دونالد ترامب مالِئُ الدنيا وشاغلُ الناس وباعثُ شغفهم باكتناه ما يدورُ في خِلدِه من أفكارٍ، جاهدين للتَيَقُّن من جدِّيتها، بعدما جاهر بطلب الإستحواذ على جزيرة غرينلاند وكندا وقناة بَنَما وقطاع غزَّة.

هذا ما دفعَ البعضَ إلى ردِّ تلك الأفكار إلى كونها مُجرَّد إفرازات النَزَق والنرجسية والمِزاجية .. بينما وجدَها البعضُ الآخرُ من عِدَّة شغل جهابذة المُتاجرة والمُقايضة. ولئن لم يُجافِ الرأيانُ الواقعَ بالمُطلق، فإنَّ مُراجعةَ نجاحات الرئيس ترامب، في عالم الأعمال والمُقاولات، تدلُّ على أنَّ الرجلَ لديه من الذكاء والكفاءات والمهارات ما يدحضُ تحليلَ خطواته على أنَّها مُرتجلةٌ ووليدةُ شُرودٍ عن العقل السليم، على ما يحلو لمعارضيه أن يُلْصِقوه به من نُعوتٍ وأوصافٍ قد تكون جائرةً بحقِّه.

يومَ أمس، خاطبَ الرئيس ترامب الكونغرس، بغُرفتَيه النيابية والمشيخية، عن حال الإتحاد، أكَّدَ فيه على مُثابرته للسيطرة على غرينلاند وقناة بنما .. فهذه المُثابرةُ لا تأتي من فراغٍ، بل تدلُّ على إنَّها مستندةٌ إلى خطَّةٍ مدروسةٍ من قِبَل خبراء، تؤمِّنُ عناصرَ نجاحها. إذ من السذاجة الإعتقاد بأنَّ الإصرارَ على تنفيذ فكرةٍ، وإن بدت عبثيةً للبعض، إنَّما هي مُجَرَّدُ نَزَقِ مُقاولٍ، بل قد تكونُ نَزَقًا سُلطويّاً، لا بدَّ للرئيس المُقتدِر، الذي يخشاهُ الحُلَفاءُ قبل الخُصوم، قد أمَّن له فُرَصَ نجاحه.

وللدلالة على جديَّة السيطرة على قناة بَنَما، أعلنَ الرئيسُ ترامب، يومَ أمس من على منبر الكونغرس الأميركي، أنَّ بلادَه باشرت السيطرةَ على القناة، غداةَ إبرام صفقةٍ بين شركة ” CK Hutchison Holding”، وهي شركةٌ مالكةٌ لموانئ على طرفَي قناة بنما، بين المُحيطين الأطلسي والهادئ، إلى شركة “بلاك روك” ( BlackRock)، إحدى أبرز ركائز الدولة العميقة في الولايات المُتحدة، وأكبر شركةٍ لإدارة الأُصول في العالم.

وبالنسبة إلى جزيرة غرينلاند، قال: “حقّاً، نحن بحاجةٍ إليها من أجل الأمن العالمي الدولي، وأعتقد أنَّنا سنحصلُ عليها، بطريقةٍ أو بأُخرى”…

أمّا جارتُه كندا، فتوعَّدَها “بمزيدٍ من التصعيد في الحرب التجارية”، بعد فرضه رسومًا عليها بنسبة ٢٥٪؜.

لا شكَّ بأنَّ العالمَ ذُهل من أفكار ترامب المُجافية للفكر البشري التقليدي، القائم على نهج المُسلَّمات، لا على مُبادرات الصدمات. ولكن، بقليلٍ من التبصُّر يسهلُ تَصَوُّر مردود الإقدام والمجازفة، كأسلوبٍ لرجالِ الأعمال والمُقايضة المُغامرين لجني الأموال الطائلة من الصفقات الجريئة. وهذا “مربطُ خيل” الرئيس ترامب وميدانُهُ المُفضَّلُ.

هذا النوعُ من المُقاربات الصدامية لا تعني حُكمًا ضمان نجاح المُطالبة بمُلكية الكون، فالأمرُ مُجرَّدُ طرح أفكارٍ لجسِّ النبض وانتظار ردَّة الفعل، ليكون على ضوئها  الإقدامُ أو التراجُعُ.

وعليه، يُشكِّلُ طلب ترامب الإستحواذَ على قطاع غزَّة مِثالًا يختبِرُ قُدرةَ العرب على الوقوف المُتراصِّ، رفضًا قاطعًا لشهوة التسلُّط على القطاع المُدَمَّر. فمَن يَعِشْ يرَى، علمًا أنَّ مُقاربات العرب مع قضاياهم المصيرية، ومع قضية فلسطين تحديدًا، لا تُبشِّرُ بالخير.

إلى ذلك، يبدو أنَّ المُلاسنةَ المشهودةَ تحت أنظار الملايين، بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، لم تكن سوى رأس الجليد لما يعتملُ في العلاقات بين ضفَّتَي الأطلسي، بعد عُقودٍ من الحضانة الأمنية الأميركية لأوروبا.

وهنا، يجدُرُ التذكيرُ بماضي العلاقات المُتوتِّرة بين الولايات المُتحدة والدُول الأوروبية، في الفترة السابقة للحرب العُظمى، المعروفة جوازًا بالحرب العالمية الأُولى. “ومبدأُ مونرو”، صاحبُ شعار “أميركا للأميركيين”، الذي أطلقَه الرئيس الأميركي “جايمس مونرو”، مطلع كانون الأوَّل (ديسمبر) ١٨٢٣، أبلغُ مِثالٍ على المخاصمة والمُنافسة اللَّتين اتسمت بهما تلك العلاقات.

وإذا أضفنا إلى ذلك التذكير بأنَّ الرئيس ترامب هو جمهوريٌّ مُحافظٌ، يستند إلى قاعدةٍ انتخابيةٍ مُتشدِّدَةٍ بموروثاتها اللّصيقة بالقُيَم وبالأرض الأميركية، نُدركُ مغازي الحساسية التي تكُنُّها تلك القاعدةُ حيال كلِّ ما هو غيرُ أميركي، بالرُّغم من  التنوُّع العرقي والديني للمُكوِّنات المجتمعية الأميركية، والتي هي أصلًا وافدةٌ إلى العالم الجديد، من شتى أصقاع المعمورة.

وفي تصريحٍ له، أواخر الشهر الفائت، لفتتني عبارةٌ مُعبِّرةٌ ذَلَّ بها لسانُ الرئيس الأميركي، لدى تصريحه بأنَّه يُحبُّ بُلدان أوروبا، قبل أنْ يُتابعَ: “.. لكن لنكنْ صريحين، الإتحادُ الأوروبي تمَّ تأسيسُه للإضرار بالولايات المُتحدة، كان هذا هو الهدف وقد نجحوا بذلك”.

باختصارٍ، إنَّه زمن المصالح الوطنية والقومية، على حساب العَولمة والتحالُفات. فهاجسُ الولايات المُتحدة الحالي يكمنُ في انبعاث الصين مُنافسًا جديًّا لزعامة واشنطن الآحادية، على عرش العالم. وبنظر الرئيس المُقاول، يُشكِّلُ الإقتصادُ والتكنولوجيا الممرّان الإلزاميان للإبقاء على الصدارة العالمية.

وعليه، لا ضيرَ أن ينطلقَ الفراقُ بين العالم الجديد والقارَّة العجوز، إنْ صحَّ لهذا الطلاق المصلحي القسري أن يحصلَ، أن ينطلقَ على جُثَّة أوكرانيا وغرينلاند، وما يختزنان من المعادن النادرة. من هنا، لا يُستبعدُ أن تكون مُغازلةُ ترامب للقيصر بوتين مُرتبطةً بمُبادلة الموافقة الأميركية على ابتلاع موسكو منطقة “دونباس” الأوكرانية، مقابل غضّ الطرف الروسي عن ابتلاع واشنطن لجزيرة غرينلاند، المحاذية نسبيًّا لروسيا، والإستحواذ على ثروات أوكرانيا من المعادن النادرة الدفينة.

والله أعلم بنيّات المُقتدرين!

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني مُتقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى