إثنا عشر يومًا

رشيد درباس*

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا
سورة الأعراف أية 179

لفتني دولة الرئيس تمام سلام إلى كتاب الدكتور غسان سلامة: “la Tentation de Mars” الذي وردت فيه إحصائية عن الميزانيات العسكرية لإحدى عشرة دولة، تشيرُ إلى أنَّ ميزانية الولايات المتحدة الأميركية في العام 2022 بلغت 877 مليار دولار أي بما يوازي الدول العشر الأخرى مجتمعة، فميزانية الصين هي 292 مليار وروسيا 86 مليار والهند 81 والمملكة المتحدة 69 مليار و56 مليار لألمانيا و54 مليار لفرنسا وهكذا.

لا شكَّ أنَّ هذه الأرقام تفاقمت في العام 2025، وهي تُشكّلُ الآن محورَ تجاذُبٍ كبير داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي انعقدت قمته الأسبوع الماضي في لاهاي. ما زال الرئيس دونالد ترامب يُهدّدُ حلفاءه بأنه لن يكون شرطيًا لأمنهم، فيما هم ينعمون بنُظُمِ عملٍ مُريحة ويوجّهون معظم إنفاقهم نحو التنمية ورفاهية شعوبهم، في الوقت الذي يُعاني مواطنو الولايات المتحدة من ساعاتِ عملٍ طويلة يقتضيها غلاء المعيشة وحركة الانتاج المتسارعة.

وافقت دولُ “الناتو” بالنتيجة (ما عدا إسبانيا) على رفعِ الإنفاقِ العسكري إلى نسبة 5 % من الناتج الوطني استجابةً لرغبات الرئيس (ترامب)، وهو الرجلُ الأكثر فجاجةً في التعبير عن نظرةِ الولايات المتحدة للعالم وضرورة إعادة رسم ملامحه من خلال مصالح أميركا الاقتصادية المُدَجَّجة بآلةٍ عسكرية فائقة التطوُّر، جاهزةً دائمًا لتأديب المعترضين، سواء بالتلويح أو بالتدخُّل الفعلي، أو بالتنصُّل من التزاماته تجاه حلفائه.

لقد شرعت إدارة ترامب فعليًا بتنفيذ برامج متنوِّعة ومُتشابكة للاستثمار المتأخِّر في انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ أنَّ الزمان الذي تراخى بين ذلك الانهيار وأيامنا هذه، كان موضعَ استغلالٍ محموم، غزت فيه البضائع الصينية ذات الأسعار المُتدنّية أسواق العالم، ووجد فيه الرئيس فلاديمير بوتين فرصةً سانحة ليعلن نفسه بديلًا مرهوبًا عن التوازن المفقود فحاولَ اجتياحَ اوكرنيا، في حين استسلمت أوروبا إلى استرخاءٍ مريح، وتفشت الاقتصادات الأسيوية بجدارة وقوة في ساحات الإنتاج، مُبديةً تفوُّقًا كبيرًا في أمور التطور التكنولوجي.

أمّا على طرفَي الخليج، فكان المشهدُ مُتناقضًا، إذ انصرفت دول التعاون الخليجي إلى ورشاتٍ إنمائية وانفتاحية غير مسبوقة، وذلك في ظلِّ قلقٍ جدّي، تُسبّبه الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي رَكّزَت على تحشيدِ وتطويرِ بُنيتها العسكرية وتجهيز حلفائها في كلٍّ من اليمن والعراق وفلسطين ولبنان بالإمكانيات الحربية والمالية لتكون دائمًا في حالة تأهُّبٍ وفق تطورات المنطقة.  في الفترة المُشار إليها، يخالُ المراقب أنَّ توازُنَ خوفٍ قد نشأ في منطقة الخليج والشرق الاوسط، وأنَّ إسرائيل باتت مُطَوَّقة من حركة “حماس” و”حزب الله”، ونظام الأسد الصديق لإيران والحوثيين، وهذا يجعل بنيامين نتنياهو، على حَدِّ رؤيتهم، يستشعرُ الخطرَ مما قد يشكله هذا الحلف على الكيان الاسرائيلي.

لكنَّ الحُكمَ الإيراني لم يأخذ بعين الاعتبار أنَّ القيادة الأميركية تنتقل من “صبر الحمار الديموقراطي” إلى              “جموح الفيل الجمهوري” كما إنَّ “محور الممانعة” لم يُعِدْ النظر في فرضياته المُسبَقة بعَجزِ إسرائيل عن حربٍ طويلًة، وفَتحِ جبهتَين معًا، وأنها أوْهى من أن تتحمّلَ سقوطَ الصواريخ والمسيِّرات عليها. لم تكن تلك التوقُّعات في محلّها، إذ تمكنت إسرائيل أن تُلحِقَ بلبنان خسائر فادحة كما أصابت “حزب الله” -الذي فقد برَّه السوري- إصابات شديدة الإيلام.

كتب “توماس فريدمان” في 15-10-2024 في “نيويورك تايمز” مقالًا حذّرَ فيه إيران من أنها فقدت كثيرًا من قدراتها الدفاعية، وأنها مكشوفةٌ أمنيًا تمامًا بحُكمِ الاختراقات الاستخبارية الخطيرة والتجسُّس الالكتروني، كما إنَّ برنامجها النووي تحت المراقبة الدقيقة على مدار الوقت، وأنه مُعَرَّضٌ دائمًا لضربات طائرات “B2” الأميركية. كانت قراءته صحيحة إلى حدٍّ بعيد، وها هو الآن يتوقع أو يقترح في مقاله في “نيويورك تايمز” تاريخ 22-6-2025 وبعد  استعراضه لنتائج الضربة الأميركية التي حكى عنها مسبقًا، بأنَّ عاملَ الرحمة يتمثّلُ في أن تُطَبِّعَ إيران وممانعيها، العلاقات الصحّية والطبيعية مع دول الخليج، وأن يضغطَ ترامب على الإسرائيليين للخروج من غزة لتُدار من سلطة فلسطينية جديدة التشكيل.

على هامش هذا لا بُدَّ من تسجيلِ بعضِ الملاحظات، وهي أنَّ “ترامب” قد أعلن أنَّ إسرائيل ضعيفة ولا تملك قوة ضرب المشروع النووي الايراني بدون الإسناد الأميركي، وأنَّ ايران لن تجرؤ بالمقابل على ترميمِ ما دمّرته الطائرات الأميركية، وأنَّ الاثنين معًا أشبه بولدين يلعبان بالنار، ولا بُدَّ من تأديبهما بين حينٍ وآخر؛ ولم يَفُتهُ شكر إيران على إخطارها له بموعد رشقاتها الصاروخية على القاعدة الأميركية في قطر.

كما يُلاحَظُ أنَّ ترامب يؤنّبُ الإسرائيليين ويتّهمهم بالسخافة لوجود ملاحقةٍ بارتكاب الفساد ضد “نتنياهو” الذي يصفه- بعد أن أشبعه سخرية- بأنه أهم قائد في تاريخ إسرائيل. المفارقة أنَّ نتنياهو يُلاحَقُ بتُهَمِ الفساد من جهة ويُبَجَّل ويُعَظَّم بصفته سفاح عصره من جهة أخرى.

هذا الاستعراض ينطوي على دلالاتٍ واضحة، تُلزِمُ اللاعبيين الذهاب إلى تقويمٍ جديد للواقع الجديد، كما تدعونا نحن اللبنانيين إلى شجاعةِ الاعتراف بسوءِ التقدير وخَطَإِ التدبير، وإلزامية بناء دولة جديدة، حدودها الحيطة، وقوامها المواطنة وجوّها الانفتاح، وبحرها متوسط في الحضارة.

متى نغادر السكنى في المصالح الصغيرة؟

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى