أنا ودمشق والبعثُ الأسدي… مقاطع من سيرةٍ ذاتية سوريّة

الدكتور سعود المولى*

تفتح وعيي السياسي المُبكِر على كرهٍ عفوي للانقلابات العسكرية، على الرُغم من ناصريتي الطفولية المبكرة التي ورثتها من جوٍّ عائلي كانت فيه شقيقتي الكبرى هيام مُنتَمية إلى حركة القوميين العرب، وكنّا نسكن مدينة طرابلس شديدة الحماس لعبد الناصر وللقومية العربية… ومن المؤكد أنني لم أكن أُدرِكُ أنَّ الناصرية كانت هي أيضًا انقلابًا عسكريًا، لأنني عشتُ طفولتي وفتوّتي البيروتية ثم الطرابلسية في مرحلة صعود الناصرية العاطفي في لبنان: من حرب السويس وبورسعيد، إلى ثورة المليون شهيد الجزائرية (1954- 1962)، إلى الوحدة المصرية-السورية 1958 (التي لا يغلبها غلاب)… إلى الانفصال (1961) الذي خلّفَ جروحًا لا تندمل عند القوميين العرب… إلى ثورة أيلول (سبتمبر) 1962 وعبد الله السلال في اليمن الشمالي… إلى الجبهة القومية وثورة اليمن الجنوبي 1963… إلى زيارة الحبيب بورقيبة إلى لبنان ومظاهرات القوميين العرب ضده 1965… لكن التأثير الحاسم في ظنّي يرجع في اللاوعي إلى موقفي من انقلاب هواري بومدين ضد رفيق دربه أحمد بن بللا (19 حزيران/يونيو 1965)، الذي كان أيقونة حركة القوميين العرب ومجلّتها “الحرية”. ما زلتُ أذكر غلاف مجلة الحرّية وافتتاحيتها يومذاك ثم مقالاتها المتتالية ومظاهرات الحركة في طرابلس وبيروت ضد الانقلاب الذي اعتبرته خيانة للثورة.

أما عن انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، فأذكُرُ أنَّ منظّمة الاشتراكيين اللبنانيين (يسار حركة القوميين العرب) وجماعة لبنان الاشتراكي ومنظمة حزب البعث في لبنان (جناح نور الدين الأتاسي- صلاح جديد) أقامت مهرجانًا مشتركًا حاشدًا في سينما بيروت (كورنيش المزرعة)، للاحتجاج على الانقلابيين. وأذكر وقفة أمين سر منظمة حزب البعث اللبناني محمود بيضون وهو يلقي كلمته … طبعًا خُطِفَ بيضون بعد ذلك بأيام ليمضي في سجون حافظ الأسد هو ورفيقه البعثي الأردني ضافي الجمعاني (قائد منظمة الصاعقة)، حتى العام 1995، في حين هرب عضو القيادة القومية مالك الأمين (صاحب قصيدة: كذب الدعي بما ادعى… البعث لن لن يتصدّعا) إلى الجزائر لينضم إلى آخرين من سوريا ولبنان مكثوا في المنفى أيضًا حوالى ربع قرن. وفي ذاكرتي جملة مقالات نشرتها مجلة الحرية طوال العامين 1970و1971 تناولت الانقلاب الأسدي، تارةً من زاوية “اندراجه ضمن إطار النظام الإقليمي العربي الساعي إلى التسوية الأميركية بعد مجزرة أيلول في الأردن”، وطورًا من زاوية “تمثيله مصالح طبقية يمينية للتجار والضباط”، وأطوارًا كثيرة لجهة كونه “ديموقراطية بونابرتية لتغطية التراجعات السياسية والاقتصادية”… وكان استخدام المجلة لوصفة البونابرتية إعلانًا منها بدخول عوالم الماركسية… فالوصفة فيها إحالة إلى كتاب ماركس الشهير “18 برومير لويس بونابرت” الذي تناول انقلاب شارل لويس بونابرت (ابن أخ نابليون) في كانون الأول (ديسمبر) 1851 واستحواذه على سلطاتٍ دكتاتورية. وعنوان الكتاب سخرية من الانقلاب لأن تاريخ 18 برومير هو تاريخ الانقلاب الذي قام به نابليون بونابرت في 18 برومير من السنة الثامنة من التقويم الجمهوري الفرنسي (الموافق 9 تشرين الثاني /نوفمبر 1799)، وأطاح حكومة المديرين، وأوجد بدلًا منها حكومة القناصل، وفيها سيكون نابليون القنصل الأول. وقد أعلن لويس بونابرت نفسه إمبراطورًا بعد انقلابه الشهير… في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه، قال ماركس إنَّ القصد منه كان إثبات “كيف أنَّ الصراع الطبقي في فرنسا قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكّنت شخصًا سخيفًا متوسط المواهب من أن يؤدي دور البطل”. وكتاب 18 برومير هو مصدر إحدى أكثر مقولات ماركس اقتباسًا في أنَّ التاريخ يعيد نفسه: «المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة»، مشيرًا بذلك إلى نابليون الأول وإلى ابن أخيه لويس نابليون (نابليون الثالث).

توقفت مجلة الحرية عن الصدور في تشرين الثاني (نوفمبر) 1971 بعد أشهرٍ فقط على المؤتمر التأسيسي الذي أعلن ولادة منظمة العمل الشيوعي في أيار (مايو) عقب اندماج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ولبنان الاشتراكي وعدد كبير من كوادر اتحاد الشيوعيين اللبنانيين. سبب التوقّف خلافٌ يتعلق بالإشراف على سياسة المجلة من طرف مالكيها حيث اعتبر المالك الثاني، أي الفرع الفلسطيني من يسار حركة القوميين العرب وهو نايف حواتمه (الأمينال عام للجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين) أنَّ المالك الأول، أي الفرع اللبناني، ذهب بعيدًا في رسم سياستها بمعزل عن آراء ومواقف الفرع الفلسطيني. حين عادت المجلة إلى الصدور في تشرين الثاني (نوفمبر) 1972 كُنتُ أنا ومجموعة كبيرة من الطلاب خارج المنظمة (تموز/يوليو 1972) بسبب ما رأيناه خضوعًا لسياسات ومواقف “يمينية تحريفية” في القضايا الأممية والعربية، وانضواءً في خط الحزب الشيوعي “الإصلاحي التحريفي” (كما كنا نسميه) في القضايا اللبنانية. ورأينا يومها أيضًا أن هذه السياسة أنتجت تملقًا لبعض أنظمة “بورجوازية الدولة”، بحسب تسمية المنظمة لها. وقد اعتبر التقرير المشترك للمنظمة والجبهة حول عودة المجلة إلى الصدور أنَّ ثمة “تفاوتات واختلافات” في ما بين بورجوازيات الدولة هذه، بحيث جاز لاحقًا أن تصفحا صفحًا جميلًا عن نظامَي البعث السوري والعراقي وأن تقيما معهما علاقات جديدة. وهذا ما دفع بنا، من ضمن أسباب أخرى، إلى الانشقاق.

أول رحلة إلى سوريا كانت في صيف العام 1968… كان العالم العربي يغلي بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967 وصعود العمل الفدائي. وجاءت معركة الكرامة في 21 آذار (مارس) ثم جنازة أول شهيد لبناني في حركة “فتح” البيروتي خليل عز الدين الجميل في 27 نيسان (أبريل) لتُلهِب الشارع اللبناني حتى أنَّ رئيس الوزراء اللبناني آنذاك عبد الله اليافي صاحَ يوم تشييع الجمل في الجامع المنصوري الكبير: “كُلُّنا “فتح”… كلّنا فدائيون”. وتدفّق المتطوّعون من لبنان والعراق وسوريا والأردن إلى معسكرات “فتح” طلبًا للقتال. كنتُ في طرابلس فتحمّستُ في شهر تموز (يوليو) 1968 والتحقتُ بقافلة علي عكاوي (وكان في حركة القوميين العرب) لنذهب إلى دمشق بباصٍ عسكري ل”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ومعنا شقيقه خليل وعدد كبير من شباب طرابلس. أذكرُ أنَّ خليل  كان أصغرنا سنًا. اجتزنا الحدود إلى سوريا، وحطَّ بنا الباص في معسكرٍ في منطقة الهامة حيث بدأنا التدريب… لكن نشبَ نزاعٌ مسلّح داخل الجبهة الشعبية بين جماعة القوميين العرب وجماعة تابعة للمخابرات السورية بقيادة أحمد جبريل (نتج عنه لاحقًا تشكيل الجبهة الشعبية القيادة العامة) فاضطررنا نحن الفتية الصغار للاختباء في خيمتنا حتى جاءت شاحنة من جيش التحرير الفلسطيني ونقلتنا إلى معسكر آخر في منطقة ميسلون، ومنه أخذونا عبر الحدود إلى طرابلس لتسليمنا لأهالينا لأننا تحت السن أصلًا. طبعًا لم أزر دمشق ولا عرفتُ غير الهامة وميسلون. وطبعًا كان لميسلون وقعٌ خاص في قلوبنا ونحن الذي تربينا على تمجيد يوسف العظمة ووقفته البطولية في ميسلون.

في عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة (1972-1973)، وهي عطلة طويلة في مدارس لبنان، اندمجت مجموعتنا المُنشقّة عن منظمة العمل (أدهم وربحي وجميل وعبد الوهاب وهشام والمرحومين محمود فخر الدين وسامي زين الدين وأحمد سويدان وطلال طعمه) مع مجموعةٍ ماوية أخرى (أذكر منهم الرفاق الأحبة: روجيه ن. وروجيه ع. وإيلي ص. وطلال ج.، والمرحومين رينيه غرغور وفاسكين دادايان ومنى عاقوري) ونظمنا أول معسكر فكري-سياسي-عسكري مشترك في مركزٍ ل”فتح” في منطقة بيت نايم بريف دمشق، وذلك تحت إشراف ومشاركة المرحومين الدكتور محجوب عمر والشهيد جواد أبو الشعر.

مكثنا في المعسكر أسبوعين ولكننا لم نتعرّف خلالها على المنطقة، ولا زرنا دمشق.

لكن الصلة مع الشام بدأت منذ العام 1972… فكنّا (أنا وأصدقاء الأيام الأولى أدهم وربحي وجميل وعبد الوهاب) نذهب في كل عطلة تقريبًا مع رفيقنا وصديقنا السوري-اللبناني الشهيد رضا حداد إلى دمشق، وكان منزل أهله في زقاق المخلّلاتي في منطقة السويقة من حي الميدان… كنّا نعشق التجوُّل في زقاق المخللاتي والسويقة وأسواق الحميدية والبزورية والحريقة والعطّارين، وصولًا إلى ساحة المرجة وساحة العباسيين … كنا نتمشّى أيضًا في سوق ساروجة حيث كانت مدرسة رضا ومنازل بعض أصدقائه… وكان يحلو لنا التنزه خصوصًا في شارع التجهيز والجلوس في مقهى الكمال أو مقهى الهافانا أو دخول سينمات الكندي أو الفردوس… لكن المقهى المفضل عندنا كان مقهى الروضة في منطقة عرنوس غير بعيد عن مبنى البرلمان… حيث كان يحلو للرفاق شرب النرجيلة (الأركيلة) وكنا ننطلق منه إلى الشوارع المحيطة وصولًا إلى الصالحية. وكنا في كل مرة نزور سفارة الصين الشعبية (التي لم تكن لها سفارة في بيروت بعد) لأخذ كتب ومنشورات ماوية لزوم التثقيف الحزبي الرفاقي… أذكرُ أننا أول مرة زرنا السفارة أنا ورضا وربحي وأدهم وجميل وعبد الوهاب بعد أيام قليلة من انشقاقنا عن المنظمة، لقينا شابًا صغيرًا منهمكًا بطلاء واجهة المبنى فسألناه نريد مقابلة السفير… ردّ علينا أنا السفير تفضّلوا! طبعًا كان ذلك مدعاة لمزيد من الاندهاش والإعجاب بمنجزات الثورة الثقافية الصينية… كنا أيضًا نجول على مكتبات دمشق (أذكر منها خصوصًا مكتبة دار دمشق ومكتبة الآداب ومكتبة التنبكجي) نشتري ما نستطيع حمله من طلبات الرفاق في بيروت… وفي سنوات 1972- 1976 (بعد انضمامنا لحركة “فتح”) كنا نمكث (أنا والمرحوم أحمد سويدان وأدهم وجميل وربحي) لفترات متفاوتة (خلال الويك أند ومعظم العطل الرسمية) في معسكر ل”فتح” في منطقة عين الصاحب التي تقع بين بلدتي منين وحلبون (مع الصديقين الجميلين جمعة وكفاح من لجنة شؤون الأردن التابعة ل”فتح”) للإشراف على المتدرّبين من الطلاب اللبنانيين ومن الرفاق العرب والإيرانيين والأتراك. كنا نأخذ البوسطة من كراجات ساحة العباسيين في دمشق ونقول للسائق إلى حلبون… لننزل عند نقطة عين الصاحب ونحن نظنُّ أننا بذلك كنا نضلّل المخبرين والمخابرات. هذا الموقع استهدفته غارة صهيونية كبيرة في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2003. من عين الصاحب أذكر الأخ ابو الرائد قائد المعسكر والمدرب “الشيخ” الذي لم نعرف اسمه… كما أتذكر الشباب الفطانيين (من فطانيا المسلمة جنوب تايلاند) المتدربين عند “فتح”، وكان أدهم وسويدان يتوليان التدريب حين أصيب شاب منهم بشظية طفيفة في فخذه… كنا ننقله إلى المستشفى وهو يتحدث إلينا بعربية فصحى قائلًا: “قُتلنا يا أخي قبل أن نبدأ الجهاد”…

في الأيام الأولى لحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 اتصل بي الصديق نوّاف سلام يبلغني أنَّ الأصدقاء فاروق مردم بك وسهيل القش وصلا إلى بيروت ويريدون أن نذهب جميعنا إلى دمشق للمشاركة في أيِّ نشاط داعم للحرب، وفي الأقل لنعيش مع الناس أجواء دمشق… وبالفعل توجّهنا إلى دمشق في إحدى الليالي وتأخّرنا كثيرًا على الحدود لأسبابٍ معروفة طبعًا من “زناخة” ورشوة…إلخ. أول ما تجاوزنا نقطة جديدة يابوس باتجاه دمشق طلب فاروق من نوّاف التوقف ونزل من السيارة وسجد على الأرض يقبل تراب البلد صائحًا “الشام… يا عيني على الشام… يا روحي يا شام” … وأظن أنَّ فاروق سيفعل الشيء نفسه هذه المرة أيضًا. وصلنا دمشق حوالى الساعة 2 فجرًا وكنا في حالة جوع وإرهاق فتوجهنا إلى سوق الحميدية ولم نجد غير محل بوظة بكداش سهرانًا فأكلنا بوظة شامية حتى الشبع والبكداش ينادي ابنه “يا زياد شوف الشباب واهتم فيهن”… طبعًا كل “الشباب” صاروا اليوم في سن الشيخوخة ولكنهم لا ينسون طعم تلك البوظة ولا صرخة “أبو زياد”.

في العام 1975 كان الرفاق أدهم وربحي وجميل من طلاب الدفعة الأولى للكلية العسكرية التابعة لحركة “فتح”، في منطقة حمورية… وقد تخرجوا ضباطًا وكانوا النواة الأولى المؤسسة للكتيبة الطلابية لاحقًا. كنت أزورهم في حمورية ونخرج نسرح ونتصوف في حواري دمشق العتيقة مع رفيقنا رضا وأصحابه وحيد ومزيان.

خلال الاجتياح البعثي الأسدي في حزيران (يونيو) 1976، قام المجرم علي ديب بانتهاكات هائلة في منطقة بعلبك الهرمل واستباح القرى لشر الأعمال. أذكر خصوصًأ إعدامه مجموعات من الجبهة الشعبية والبعث العراقي وحركة “فتح” في أماكن متفرّقة أهمها ثكنة أبلح نفسها. وأذكر إجباره القرى على تجميع عدد كبير من قطع السلاح الفردي ليصادرها عسكره. كما قام بحملة واسعة من الاعتقالات كان من ضمنها عدد كبير من شباب قريتنا المنتمين إلى حركة “فتح”… وبالتالي فقد صرت مطلوبًأ للأمن السوري بتهمة أنني كنت المسؤول عن تنظيم هؤلاء الفتية.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية 1975 اضطرَّ رضا للعودة نهائيًا الى دمشق بسبب دمار منزل أهله وملحمة والده في منطقة عالسور (أي على السور والمقصود أحد أسوار مدينة بيروت عند باب يعقوب تحت الباشورة… وهي منطقة دمرت تمامًا مطلع الحرب الأهلية). درس رضا في جامعة دمشق ونال الليسانس في الأدب الفرنسي والترجمة وخدم سنوات التجنيد الإجباري، وصار صحافيًا ناجحًا في جريدة تشرين… كنت أزوره بعد ذلك حين يتيسر لي المرور عبر الخط العسكري احتياطًأ من خبث وغدر المخابرات. سكن رضا في منطقة الزاهرة الجديدة مع أهله … ومن ثم انتقل للسكن مع زوجته في منطقة المجتهد … ومن ثم في مساكن برزة (وكان قد أصبح لهما طفلة) حيث ألقي القبض عليه خارج منزله في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1980 في حملة اعتقالات الحزب الشيوعي-المكتب السياسي (رياض الترك ورفاقه)… بقي رضا في السجن حتى 16 تشرين أول (أكتوبر) 1995 حين قرر الأسد بضغط أميركي الإفراج عن العديد من المعتقلين من دفعة رضا وغيرها بعد محاكمات سخيفة مفبركة تقرّر فيها سجنهم المدة التي قضوها فعليًا في السجن وكانت بالنسبة إلى رضا 15 سنة. جاء رضا إلى بيروت في آخر أسبوع من العام 1995 طلبًا للعلاج من اللوكيميا. يومها تطوّعَ الصديق العزيز الطبيب والنائب الدكتور فارس سعَيد بشهامته ونبله وشجاعته ففتح لنا باب مستشفى سان انطوان واستضاف فيه رضا طوال شهور يعالجه ويضمن له أفضل أطباء لبنان من دون أي مقابل (لأن رضا سوري وبالتالي ليس عنده أي ضمان صحي ولا يمكن تسجيله على حساب وزارة الصحة ناهيك عن الخطر الأمني الكبير على حياته وحياة صاحب المستشفى) . في جلسات الدكتور فارس الليلية معنا ومع رضا بعد انتهاء زياراته لمرضاه كانت الأحاديث المطوَّلة التي قام رضا بتسجيلها لتصدر لاحقًا من ألمانيا في كراس صغير يحكي معاناته في سجون الطاغية، حمل عنوان “المواطن 61″، وهو الرقم البديل عن اسمه في سجون المجرمين والذي كان مجبرًا على التعامل به دائمًا تحت طائلة التعذيب المتجدد… اليوم صرنا نعرف لماذا يخرج عدد كبير من المعتقلين وقد نسوا أسماءهم. غير أنَّ الداء كان قد أتلف جسد رضا بالكامل وتمكّن منه، ولكن لم يتمكن من روحه التي ظلت ترفرف فوق دمشق الحبيبة. فجأة قرّر رضا العودة إلى دمشق ليموت فيها مساء الاثنين 10 حزيران (يونيو) 1996 بعد أسابيع فقط من الحرية… وكانت الحرقة أنني لم أستطع توديعه أو زيارة قبره إلى اليوم… أسميت ابني البكر رضا (1986) وكذلك فعل أدهم.

انقطعت زياراتي العلنية إلى دمشق منذ ليلة اعتقال رضا إذ لم أكن أعرف تفاصيل التحقيق معه… ولكن في أيلول (سبتمبر) 1981 سافرتُ أنا والسيد هاني فحص وأدهم إلى طهران في رحلة طويلة بالبوسطة من بيروت إلى دمشق ثم تركيا فإيران… طبعًا أوقفت عند الحدود لأنَّ إسمي كان موجودًا ولكن ليس كمطلوب مهم أو خطير… أعطوني ورقة بضرورة مراجعة فرع التحقيق 285 (وهو فرع مركزي مختص بالتحقيق بالمعلومات المحالة من الأفرع أو من بعض المصادر والعملاء)، كي يتسنّى لي مغادرة البلد. يومها تطوع سائق الباص- وهو سوري إيراني- بتهريبي معه في الباص (طبعًا مقابل بدل مالي) عند اجتياز الحدود إلى تركيا عند معبر باب الهوى، ومنها واصلنا الرحلة إلى إيران… بعد قضاء أكثر من شهر نجول كل إيران من أقصاها إلى أقصاها بسيارة خاصة مع مرافق ثوري، شيخ صغير أديب وشاعر أتحفنا بمحفوظاته من الفردوسي والخيام وحافظ وسعدي الشيرازي (اكتشفت يومها عمق تأثير الثقافة الإيرانية حتى في عقول وقلوب المشايخ)، رجعت من طهران إلى بيروت بالطائرة عبر اسطنبول. من هذه الرحلة أذكر أننا قبل السفر من دمشق نزلنا في فندق اسمه “الجامعة العربية” بساحة المرجة، وهو فندق شعبي رخيص… وفي الصباح التالي وقبل توجهنا لأخذ الباص (لم أعد أذكر من أي كراج)، سمعنا صراخًا وإطلاق نار فهرعنا مع غيرنا من النزلاء إلى بلكون الفندق الوحيد في الطابق الأول لنروع بمشهد الفتيات المظليات وعصابة سرايا الدفاع وهم يقومون بنزع حجاب النساء بالقوة في الشارع المؤدي لمدخل سوق الحميدية… طبعًا كتمنا غيظنا ورعبنا وتسللنا مسرعين إلى كراج الباصات للسفر.

لكن لم تنتهِ قصتي هنا… ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 (أي بعد 9 سنوات على آخر زيارة لدمشق) انتدبتني حكومة الرئيس سليم الحص مع مدير مكتبه د. محمود حطب لتمثيل لبنان في هيئة استشارية لمنظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون اليوم) تنعقد في طهران لصياغة ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان. كان علينا الذهاب عبر مطار دمشق لأن مطار بيروت متوقف بسبب الحربين المشتعلتين في لبنان: حرب الجنرال ميشال عون وا”لقوات اللبنانية”، وحرب “حركة أمل” و”حزب الله”. تشجعتُ وقلت لعله خير فأنا أحمل تكليفًا بمهمة رسمية باسم الحكومة اللبنانية ومعي مدير مكتب رئيس الحكومة، وأنا مستشار رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، كما إنني أستاذ في الجامعة اللبنانية…إلخ. طبعًا هذا كله لم يكن وليس له أي قيمة عند النظام الأمني الأسدي… لا بل إن المحققين تهكّموا على كل هذه العناوين. اعتُقِلتُ عند معبر المصنع حيث أمضيت ساعات رعب وإهانات… قبل نقلي إلى فرع فلسطين الشهير 235. أذكر أن الضابط الذي “استلمني” عند وصولي للفرع كان يجلس أمام مكتب قذر في غرفة قذرة وخلفه لوحة جدارية عليها آية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾”… سألني ما قصتك؟ قلت له أنا من جماعة “أولئك القوم”… طبعًا لم تعجبه النكتة لكنه خاف بسبب وضعي الملتبس والعناوين التي أحملها. كنا مساء الخميس وضباط المركز من المسؤولين في عطلة فوضعني في غرفة بانتظار الأوامر، ولكنه حرص على تقييد يدي ووضع دولاب تحت الكنبة للتذكير بالمصير المحتم. اليوم التالي كان يوم جمعة عطلة أيضًا… لكن جاء محقّقٌ صغير وبدأ التحقيق الروتيني معي بشكل عادي وذلك بسبب الخوف من التورّط في أيِّ إساءة جسدية… لكن كان هناك محقق صغير آخر يطل كل فترة من الباب ويسأل صاحبه “حكى واللا ما حكى”… بعد ساعات شاهدت من نافذة الغرفة مجموعة من العسكر تجر رجلًا ملتحيًا كبيرًا في السن ويبدَؤون ضربه بكلِّ أنواع الركلات والبوكسات والعصي وهو يردد “لا إله إلا الله”… عند الساعة العاشرة أو أكثر قليلًا رأيتُ بعض الجنود يفتح طاقة حديدية في أرض الساحة أمام النافذة ليخرج منها عشرات المعتقلين تبينت من وجوههم أنهم من حركة التوحيد بطرابلس وكان بينهم أحد الأصدقاء الذي رآني وابتسم من بعيد.

لكنَّ القدر شاء إنقاذي بعد يومين، إذ كانت دمشق تشهد خلال أيام 7 و8 و9 تشرين الثاني/نوفمبر اجتماعًا لكل القيادات الشيعية لوقف الحرب بين الأشقاء، حضره الشيخ محمد مهدي شمس الدين والرئيس حسين الحسيني إلى جانب الوزير علي أكبر ولايتي والعميد غازي كنعان وعبد الحليم خدام إضافة طبعًا إلى قيادات “حركة أمل” و”حزب الله”. اعتُقِلتُ مساء الخميس 8 تشرين الثاني (نوفمبر). وبلغ الوفد اللبناني خبر وجودي في فرع فلسطين في صباح اليوم التالي فبدأت الاتصالات والضغوط لإخراجي. ولولا تدخُّل الأصدقاء الأحبة المرحومين الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد حسين الحسيني والسيد عباس الموسوي، والأمينال عام للحزب الشيخ صبحي الطفيلي، لما خرجت حيًا من الفرع 235… فالداخل إلى السجون البعثية مفقود والخارج منها مولود.

نتج عن اجتماع القيادات توقيع اتفاق دمشق الثاني يوم الجمعة 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 الذي وضع حدًا للحرب الأهلية الشيعية بتسوية إيرانية-سورية تقاسم فيها البلدان والتنظيمان مناطق النفوذ في لبنان، إلى حين. أذكر وجه العميد هشام بختيار الممتقع والممتعض حين جاء صباح يوم السبت 10 تشرين الثاني (نوفمبر) لإطلاق سراحي وتسليمي للمجتمعين في أحد فنادق دمشق؛ وأذكر قوله لي إنه متأكد من أنني الشخص المطلوب بتهمة الانتماء ل”فتح”… أذكر أنه سألني عن علاقتي ببعض قيادات حركة “فتح” المعتقلين يومها عنده، ومنهم الشهيد محمد أبو داوود (مات تحت التعذيب) والأخ توفيق الطيراوي (خرج لاحقًا وروى قصته في سجون المجرمين)… لم أكن أعرف يومها الحقائق التي رواها لي رضا حداد بعد خروجه من السجن عن نوعية تحقيق الجلادين هشام بختيار وعلي دوبا وإصرارهما على معرفة صلته بتنظيمنا في لبنان.

منذ السبعينيات لم يهدأ صوتي ولم تخفت همتي في دعم الشعب السوري بكل أطيافه ومنظماته وشخصياته، وكنت أعتبر أنَّ لا خلاص ولا حرية للبنان إلّا بسقوط نظام الطغيان في دمشق. وأذكر هنا أنَّ أحد أسباب خلافنا القديم مع الأحزاب اليسارية اللبنانية كان موقفنا القائل بأنه لا يمكن قيام حكم ديموقراطي مدني (أو تقدّمي) في لبنان بوجود نظامَي إسرائيل والأسد على حدودنا… وأنا أعتقد أن هذا ما دفع ثمنه كمال جنبلاط.

بعد الانقلاب على الطائف صيف العام 1992 ابتدأ النظام السوري مع عصاباته حملات الترهيب والقتل… في مطلع العام 1993 كانت مشاركتي مع السيد هاني فحص إلى جانب سمير فرنجية وفارس سعيد وعشرات الرفاق بتأسيس المؤتمر الدائم للحوار اللبناني. تَشكّلَ المؤتمر بمبادرة من سمير فرنجية وقد نسقها مع الرئيس رفيق الحريري والبطريرك نصر الله بطرس صفير والزعيم وليد جنبلاط. ثم كان انضمامنا إليها بمباركة من الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي واجه بسبب ذلك حملات التحريض والتخوين والدعوات لطردي ونبذي باعتبار أنني خارج على الطائفة ومتحالف مع أعدائها. لكن الشيخ لم يكتفِ بالتمسُّك بالمؤتمر بل كان ينتدبني لتمثيله وتمثيل المجلس الشيعي في كل المناسبات الحوارية في الداخل والخارج وأهمها وأخطرها “السينودوس من أجل لبنان” الذي انعقد في الفاتيكان أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1995. أذكر هنا أيضًا أنَّ “حزب الله” شنَّ حملة تشكيك واتهامات على مشاركتنا نحن المسلمين في السينودوس الذي اعتبروه نسخة جديدة من مؤتمر كليرمون فران (الذي انطلقت منه الحملات الصليبية نحو الشرق). كان الشيخ شمس الدين هو الذي اختارنا (محمد السماك وعباس الحلبي وأنا) وأخذ موافقة الرئيس الحريري ووليد جنبلاط ليس فقط لتمثيل المسلمين في أعلى مؤتمر مسيحي عالمي، وإنما أيضًا ليقول للمسلمين في لبنان والعالم العربي ما كتبه لاحقًا في وصاياه: “من الوصايا الأساسية التي أُركّز عليها بالنسبة إلى المسلمين اللبنانيين، وبالنسبة إلى العرب جميعًا، هي الحرص الكامل التام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل والرضى الكامل، وعلى عدم أي شعور بالإحباط، أو بالحرمان، أو بالنقص، أو بالانتقاص، أو بالخوف على المستقبل، وما إلى ذلك. وهذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة وعلى الحسّ الإنساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية أساسية لا بد من مراعاتها…. وأنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم”. عندما رجعنا من السينودوس جاءت التعليمات للوفد الإسلامي بضرورة زيارة غازي كنعان وعبد الحليم خدام لاطلاع السوريين على ما جرى في المؤتمر الكاثوليكي الذي اعتبروه عاصفة ضدهم. طبعًا رفضت الذهاب وبقيت في بيروت.

في العام 1994، انتدبني الشيخ شمس الدين لتمثيله في مؤتمر ينعقد في طهران ضمن وفد لبناني كبير تشكل من “حزب الله” و”حركة أمل” والمجلس الشيعي. ذهبنا طبعًا عبر الخط العسكري إلى مطار دمشق حيث أوقفت مجددًا وقرر المسؤول في المطار واسمه العميد أبو نورس تحويلي إلى الفرع الداخلي 251 وكان يرأسه اللواء محمد ناصيف خير بك (أبو وائل). استقبلني اللواء ناصيف في مكتبه في حيّ الخطيب بدمشق (لذلك كان الفرع 251 يسمى فرع الخطيب)… ومن الأمور المضحكة يومها أنَّ الكهرباء انقطعت فجأة فسألت اللواء ببراءة “يعني عندكم تنقطع الكهرباء كمان”… طبعًا لم تعجبه النكتة ولكنه نزل عند وساطة الشيخ محمد مهدي شمس الدين وسمح لي بالسفر إلى طهران مع الوفد.

وكالعادة رجعت إلى بيروت عبر مطار اسطنبول.

في العام 1996 وبعد توقف القتال في حرب نيسان (أبريل) الشهيرة، ذهبت مع الشيخ شمس الدين لتشييع ضحايا مجزرة قانا. بعد التشييع طلب الرئيس بري منا ملاقاته للغداء عنده في مصيلح. كنت مع الشيخ وحضر غازي كنعان فاغتنم الشيخ الفرصة وطلب منه التوسط لحذف اسمي من لوائح المطلوبين على الحدود. كانت إجابة كنعان رهيبة: لا يمكن حذف أي اسم إلّا بقرار رئاسي. هل تعرف أن أسماء الوزراء عبد الله الأمين والدكتور علي الخليل لا تزال موجودة وهما لا يـزوران دمشق إلّا عبر الخط العسكري. أما وضع سعود فصعب لأنه كان ينتمي إلى السرية الطلابية في حركة “فتح” وهي التي أوقفت تقدم قواتنا في بحمدون في تشرين الثاني (نوفمبر) 1976 وبالتالي فإن هناك قرارًا عسكريًا بعدم التسامح معهم.

في العام 1998 دعي الشيخ شمس الدين لزيارة طهران في عهد الرئيس محمد خاتمي بعد انقطاع طويل بسبب موقف الشيخ من الوضع الإيراني. انطلقنا عبر الخط العسكري لكن وبشكل غريب طلبوا هويات الجميع بمن فيهم الشيخ نفسه. وحين رجع الضابط من تحقيقه بالهويات أعطاني ورقة بضرورة مراجعة الفرع 279. استقر الشيخ في منزل أحد أصدقائه بدمشق وأرسل معي سائقه ينتظرني وأنا أخضع للتحقيق في الفرع الذي يقع في منطقة كفرسوسة والذي اكتشفت أنه يسمى الفرع الخارجي ومهمته إدارة محطات الاستخبارات الخارجية في السفارات والقنصليات في دول العالم، ومتابعة ومراقبة المواطنين السوريين المغتربين، وكافة أشكال عملهم السياسي والاجتماعي. المحقق كان اسمه الدكتور أبو محمد. أول ما دخلت ارتعبت فهذا الوجه أعرفه. لقد كان رئيس اتحاد طلبة سوريا في باريس وكنت طردته من أحد اجتماعات الاتحادات العربية في العام 1982 لارتباطه بمخابرات الأسد. لم يتذكرني أبو محمد لكنه عرّفني بنفسه وأنه أستاذ بعلم النفس في جامعة دمشق وصار يحدثني عن مطالب أساتذة الجامعة اللبنانية وضرورة تلبيتها وأن موقف الحكومة اللبنانية منها معيب ولا يليق بالأساتذة. المهم أنني فهمت لماذا حولوني إلى هذا الفرع فقد طلب مني أبو محمد بكل بساطة التجسس لصالحه، إنما “تجسس ثقافي أنيق”. قال لي إن اسمي لن يرفع عن مراكز الحدود، ولكن في كل مرة أعبر الحدود يكون علي فقط المرور لعنده في الذهاب والإياب وكلما حضرت مؤتمرًا في الخارج من المفيد أن يطلع هو على تفاصيله والناس المشاركين فيه وأقوالهم …إلخ. هكذا بكل بساطة. طبعًا وكالعادة رجعت إلى بيروت من طريق مطار اسطنبول… ولم أرجع لدمشق حتى اليوم.

حين مرض الشيخ شمس الدين صيف العام 2000 وذهب للعلاج في باريس كنت قد كتبت سلسلة مقالات في مجلة المسيرة التابعة لحزب “القوات اللبنانية” المطارد والمعتقل رئيسه، منها مقال بعنوان “رسالة إلى سمير جعجع في سجنه”، طالبتُ فيه بإطلاق سراحه وبعودة ميشال عون وأمين الجميل من المنفى… قامت قيامة الزعامات الشيعية المرتبطة بالأجهزة الأمنية السورية مطالبة بمعاقبتي والتبرُّؤ مني… حتى وصل الأمر بالعميد مدير مكتب قائد الجيش (العماد ميشال سليمان يومها)، وكان هذا العميد تابعًا للقيادة الشيعية، أنه جمع بعض وجوه أسرتنا وطالبهم بإصدار بيان تتبرّأ فيه العائلة مني… أذكر أن أحدهم (كان في منصب كبير عينه فيه نبيه بري) هددني أنا وسمير فرنجية وفارس سعيد، ورفع صوته في الهاتف… لكن شابًا من الأسرة كان يومها عميدًا في الجيش أخذ الهاتف من يده وقال لي بالحرف “لا تخف يا ابن العم، أنا قلت للمجتمعين هنا إن كل ما تقولونه أو تفعلونه لا يؤثر ولا يفيد مع سعود المولى فهو صاحب رأي وموقف”…

استحصل لي الشيخ شمس الدين على تأشيرة إلى فرنسا بواسطة الصديق العزيز فرنسوا أبي صعب، ورافقت شمس الدين في رحلة علاجه الأخيرة بطلب منه خوفًا علي لو بقيت وحدي في بيروت. مكثتُ مع الشيخ في منزل المواطن الإماراتي مهدي التاجر بباريس حتى يومه الأخير هناك، حيث عدنا سوية ليل السبت 30 كانون الأول (ديسمبر) 2000. صباح الخميس 4 كانون الثاني (يناير) 2001 استدعاني الشيخ إلى منزله وأخبرني أنه اجتمع قبل ساعة مع سمير فرنجية وغسان سلامة وطارق متري متمنيًا عليهم مواصلة العمل من أجل بناء الدولة المدنية قائلًا لهم “أضع آمالي ووصيتي فيكم”. كان الشيخ استحصل لي خلال وجودنا في باريس، وبمساعدة عميد معهد العلوم الاجتماعية الدكتور محمد شيا وعضو مجلس الجامعة اللبنانية الدكتور رضوان السيد، على منحة فولبرايت ضمن إطار التبادل الثقافي بين الجامعات للتدريس لفصل واحد في أميركا. قال لي يوم الوداع وصوته متهدج “وضعي يتدهور وأخاف عليك من بعدي… سافر”… وطلب مني البقاء في الخارج حتى تنجلي الأمور… لكن القدر عاجله… وصلت إلى الجامعة في إنديانا مساء يوم الثلثاء 9 كانون الثاني (يناير) 2001 ولم أعرف إلا بعد يومين بوفاة الشيخ في يوم الأربعاء 10 كانون الثاني (يناير) 2001.  بعد انتهاء عقدي لمنحة فولبرايت طلبت مني الجامعة البقاء للتدريس فبقيت في جامعة إرلهام بإنديانا حتى مطلع أيار (مايو) 2005 حيث عدت إلى بيروت بعد أسبوع من خروج القوات السورية من لبنان، لتبدأ رحلة مشاكلي مع بقايا مخابراتها وأجهزتها في لبنان… لكن هذه قصة أخرى لا علاقة لها بسيرتي الدمشقية التي انقطعت منذ وفاة الشيخ.

اليوم يزداد حنيني وشوقي الى دمشق وياسمينها وحاراتها وشوارعها وأهلها… وإلى الشيخ الوالد محمد مهدي شمس الدين، والى الحبيب الغالي رضا حداد… وإلى رفاق دمشق تلك الأيام…

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى