الطوائفُ المَأزومة في دولةٍ مأزومة
رشيد درباس*
اِشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجي
قد آذنَ لَيْلُكِ بالبَلَجِ
(ابن النحوي القيراوني)
شهد الشهر الماضي حُزنَين كبيرَين، اتَّسَما بالحماسة الشعبية والانضباط. قامَ سعد الحريري بزيارته السنوية فتحلّقَ حول الضريح جمهورٌ غفير، رَفعَ الأعلامَ اللبنانية، وعبَّرَ عن تمسّكه بعودة رئيس تيار المستقبل إلى العمل السياسي. كان احتفالُ الرابع عشر من شباط (فبراير) الماضي علامةً على أنَّ الفراغَ الذي تركه سعد الحريري لم تسنح الظروف لأحد من تعويضه بشكلٍ مُرْضٍ يتلاءم مع الآمال المعقودة على العهد الجديد والحكومة الجديدة.
في الثالث والعشرين، امتلأ النهار والشاشات والمدينة الرياضية والشوارع بحشود المواطنين الذين كادوا يُغْرِقون المكان بدموعٍ وهتافاتٍ تحدت زئير الطائرات الإسرائيلية التي حامت حول التشييع، كعادةِ المجرم الذي يحرصُ على مراقبة مكان الجريمة.
إذا تجاوزنا العواطف الفائضة، فإنَّ المشهدَين يدلّان بوضوٍح على طائفتَين مأزومتَين، كلٌّ منهما فقدت زعيمها، لكنهما تصرّان على إبقاءِ دورَيهما بوسائل مختلفة. الرئيس الحريري الذي منحه جمهور أبيه الشهيد ثقته، مارس نقدًا ذاتيًّا عمليًّا، بتعليق نشاطه السياسي بعد أن تبيَّنَ له أن التسويات والمُراهنات التي اعتمدها، قوبلت بالجحود وقلّة المسؤولية. لكن لا بُدَّ من الملاحظة أنَّ عودته الأخيرة لم تحمل في خطابه معالم خطة واضحة لاسترداد الزخم السابق، خلا ما أكده عن تأييد رئيس الجمهورية والحكومة السلامية في نهج النهوض والإصلاح والعودة إلى الالتزام بالشرعية الدولية والعربية، ففعل بهذا حسنًا، إذ حسم الجدل حول علاقته بالحكم الجديد، رئيسًا وحكومة.
لكن الاحتفال لم يُخْرِجْ جمهور رفيق الحريري من مأزقه الوطني، إذ إن مشروعَ الشهيد قد قام على رؤيةٍ ونَهجٍ للعمران وتخطّي التنابُذ الطائفي، وإعادة بناء الدولة على أساس الاستحقاق والجدارة والنزاهة. لقد كَتَّلَ رفيق الحريري من أجل تحقيق أهدافه إمكانيات متعددة، محلية وعربية ودولية، ومارس المرونة السياسية بالسير بين الألغام، إلى أن انفجرَ به اللغم الكبير بغرض وأد مشروعه الإنقاذي كله، لكن الشعب اللبناني جبه ذلك الاغتيال، وصمد في ظروف صعبة للغاية، وأمَّنَ أكثريات نيابية لاستئناف المشروع، إلى أن ضيَّعت قوى الرابع عشر من آذار البوصلة والحصافة، ما أتاح لقوى “الممانعة” من إحكامِ قبضتها على كثيرٍ من مفاصل الحكم والاقتصاد، كما جنّدت كذلك الطوابير المقاتلة المُدرَّبة لأغراضٍ تتخطّى الحدود والمصالح اللبنانية، فصارت قوة إقليمية يُحسَبُ لها حساب حتى أنها أحبطت الانتفاضة السورية، وذَخَّرَت الحوثيين والتنظيمات العراقية الحليفة بالسلاح والخبرة وتجربة القيادة. بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على فلسطين ولبنان، واستبسال “حزب الله” بالتصدّي للعدوان، أسفر المشهد عن نتائج مفجعة: دمار مُمنهَج، وآلاف الشهداء، واختراقات خطيرة، واستعمال التفوُّق التكنولوجي الذي وضعنا جميعًا تحت الرقابة الدائمة، ثم كانت الذروة باغتيال القادة، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب الشهيد السيد حسن نصر الله.
الإنصافُ يقتضي الإقرار بأنَّ الحزبَ استطاعَ أن يستردَّ تنظيمه، ويرصَّ جمهوره المُهَجَّر عن بيوته، وينظّمَ تلك المشهدية المهيبة، موجِّهًا عبرها رسائل متعددة، منها قدرته على الضبط والربط وتنزيه التشييع عن أية شائبة أمنية، ومنها أيضًا قبوله تنفيذ القرار 1701 مع بعض الالتباس، بحسب ما أكده خطاب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الذي جاء فيه: “إنَّ لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه، ونحنُ من هؤلاء الأبناء”، لكن الرسالة الأهم هي قولُ الشيخ نعيم إنَّ للحزب فضلًا بانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، وهذا يعني أنَّ الممانعة تتجه -بعد مُمانعة- إلى قيادة جمهورها في المرحلة الجديدة التي يبدو أنها ستكون خالية من الحروب، وبعيدة من “وهج السلاح”. فَتَقَلُّصُ الدور الإقليمي للطائفة الشيعية لا يعني خروجها من المسرح اللبناني، لأنها ذات عدد وحزم وعزم ومصالح.
الحزنان الكبيران إذن، لم يُشَكّلا مجلسَي عزاءٍ فحسب، بل علامات على محاولات جدية وملموسة للخروج من الحالة المأزومة المُشار إليها بانتظار مزيدٍ من توضيح المواقف.
من جانب آخر، شكّلَ موقف الأحزاب المسيحية (بما فيها “التيار الوطني الحر”) -وهي صاحبة أحزان أيضًا- مع نداءات البطريرك الراعي والمطران عودة، عوامل صلابة ومناعة أسهمت في خروجنا من مأزق الفراغ الذي دام طويلًا. لا يَنكُرُ أحدٌ هذا الدور، ولكن القضية بأصلها ليست قضية مسيحية، ولا مسألة دفاعٍ عن الوجود المسيحي، بل قضية الوجود اللبناني، دولةً ودستورًا وشعبًا. فيقتضي، بعد كل ما مرَّ بلبنان من مآسٍ ومخاطر، استغلال الظروف الطيبة والرياح المؤاتية، للعناية بأزمات الدولة، لا بالطوائف المأزومة. فكلُّ مَن يُدافعُ عن مصالح المسلمين أو المسيحيين، لن يجدَ ضالته إلّا باستعادة الدولة إلى دستورها والقوانين، فأزمات الطوائف تذوب في محلول الوطنية الصافية.
تشوبُ المرحلة الجديدة المُبَشِّرة، هواجس وشكوك داخلية، وتُحيقُ بها من خارجٍ مخاطر تتفاقم يومًا بعد يوم، تتمثّلُ بالإصرار الإسرائيلي على عدم الانسحاب التام، وبالعدوان على سوريا وفلسطين في ظلِّ شهيةٍ جشعة، يباركها ويؤازرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لكنَّ تكوين السلطة من خارج مشاعر التأزُّم، يُحبطُ مزاعم إسرائيل بأنها راعية الطوائف والأقليات في المنطقة، وهذا ينطبق أيضًا على سوريا وفلسطين.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).