في محبسة شربل
هنري زغيب*
من زمان لم أَزُرهُ في صومعته. منذ غنَّتْ ماجدة الرومي لحنَ جوزف خليفة لقصيدتي “نشيد شربل” في عشية صافيةٍ من حزيران/يونيو 1980. ليلتها راحَ صوتُ ماجدة مُرتِّلًا يتردَّدُ في الوديان حولنا كأَنها تَنْقُل وجْهَ القديس بَرَكَةً من خَشْعة تلك التلَّة العالية.
بعد 45 سنة، زُرتُهُ من جديد. تغيَّرَتْ ملامحُ المكان. لكنَّ الرهبةَ لم تتغيَّر. ها هو جاثٍ فوق، في صمْت السنوات فوق، في هذه المحبسة التي قضى فيها 23 سنة مغلَّفًا بعطر القداسة.
قلتُ أَزورُهُ، وفاءً لنَذْر قطَعَتْهُ ملاكَتي الحانية أَن أُشفى من وعكةٍ قاسية. ارتقَينا أَدراجًا تُظلِّلها أَشجار لا بدَّ بين أَوراقها نسَماتٌ من حضوره. درجاتٌ درجات، ثم… ها هي المحبسة أَمامنا بجلالها القُدُّوسيّ. وقفتُ طويلًا قبل أَن أَدخل. استحضرتُ تلك العشية الحزيرانية قبل 45 سنة. ليلتَها كانت معنا الصديقة مي منسى (فراشة “النهار” التي غابَت عنا قبل سنواتٍ لكن بَسْمتَها الحلوةَ لا تزال معنا). تذكَّرتُ كيف كَرَجَتْ دموعُها الحافية حين ردَّدَتْ ماجدة لازمةَ القصيدة “يا شربل ساعدنا، يا شربل احمينا”.
نَدخل. تَغمُرُنا الكنيسةُ الصغيرة. تجثُو ملاكَتي قدَّام المذبح الذي سقطَ عنه القديس فاقدًا وعيَه من إِرهاق، ليلةَ عيد الميلاد (24 كانون الأَول/ديسمبر 1898)، فهرع إِليه رفيقُه الأَب مكاريوس. لكنَّه لم يُفِق. كان انتقَل إِلى الهناك، يَفتَتح مسيرةَ قداسته.
من الكنيسة نَدلِف إِلى قِلِّيَّته. ها هو طبَقُ القصَب في الزاوية، حَدَّه الجذع. لأَجلهما كتبتُ في قصيدتي: “شو يُغْمُر كتابَك مخدِّة الحطَب.. وتْبَوِّس ركابَك طبَق القصب.. يا شربل ساعدنا.. يا شربل احمينا”. القِلِّيَّة مُقفَلَةٌ بأَمر الرؤَساء. لكنَّ جارتها الغرفة الضيِّقة مفتوحةٌ، تشعُّ فيها عذراء بيضاءُ الثوب والقلب. طلبَت ملاكَتي أَن نجثُو، جَثَونا. وأَن نَنذُر، نذَرنا. وأَلَّا يُفرِّقَ بيننا حدَثٌ ولا أَحد، فاكتمل النذْر بشهادة بُرعُمٍ رافق زيارتَنا فاستقام وفاءً.
خرجْنا إِلى القنطرة الواطئة. هنا كان يجلس حين ليس في نيرفانا السُكْر بالله. يجلِس ويصلِّي. يتأَمَّل ويصلِّي. نجتاز القنطرة إِلى الباحة قُدَّامها. نُشْرف على كرومٍ في ربيع موسمها. كان يُشَذِّبها ولا يَذُوق حبَّةً من عنقود. أَتذكَّر قولي في قصيدتي: “تضْحكْلَك الكرمة، تعصُرَا وما تدُوق”. وأَذكُر ما قرأْتُ عن طاعته المدَوِّيةِ السكُوت ولا سؤَال. يُحطِّب. يَجمع الأَغصان اليابسة. يعود من الكروم مُرهقًا، ولا اعتراض. لذا سمَّيتُه في قصيدتي “عريس الطاعة”.
الزوَّار حولنا يتنقَّلون في مهابة المكان. صامتين يتنقَّلون، خاشعين، مُصلِّين. هذا مكانٌ خارجَ ضوضاء العالم. خارجَ زيف العالم. خارج عوابر العالم. هذا مكانٌ تَنبسطُ عليه أَشعَّةُ الشمس كي تغتذي حرارتُها، ويَنسكبُ عليه أَلْماس القمر كي يُرافقَ العاشقين الأَنقياء…كم نحن في حاجةٍ إِليه، هذا المكان. كم نتوقُ إِليه في خلواتنا، في زحمة نهاراتنا وأَرَق ليالينا. هذا مكانٌ طالعٌ من الحلم وعائدٌ إِليه. لا يمكن وصفُه، بل الإِحساسُ بِـهَيْبته وصمْته ونُذُور حجارته تُردِّد أَصداءَ ذاك الذي لم ينْطِقْ في حياته بكلام، واليوم يستقْطرُ كلامَ الدنيا بعجائبَ تَخرُج من ضريحه شفاءً يَهزُّ العالم.
“نَعود”؟ قالت ملاكَتي. “نَعود”، قلتُ. حضنَتْ بكفِّها كفِّي. عُدْنا ننزل الأَدراج، بعدما وقفْتُ هنيهاتٍ أَستذْكر هذه الساحة قبل 45 سنة، وكيف تَقَطَّر صوتُ ماجدة حنانًا وصلاةً وتماوُجاتِ خشوع.
غادرْنا المحبسة. أَحسَسْتُني شُفيتُ مرَّتين: أُولى بشفاعته، والأُخرى بصلاة ملاكتي الحانية، بِحُنُوِّها أَعادت إِليَّ رعشةَ ضوءٍ كنتُ توَّاقًا إِليها بعد طُول صحرائي.
وغادرنا المكان، تاركَيْن فيه صلاةً حافيةً ناذرةً خاشعةً، لا يَسمَع عُمقَها إِلَّا قدسُ الذي غادرناه فوق، وحده، يصلِّي لكي تتحقَّق نُذُور الخاشعين في قلِّيَّة التلَّة العالية.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).