ماذا يَعني تَغييرُ النظامِ في إيران؟
إيران جديدة قد تنبثق من الصراع الحالي مع إسرائيل، ولكن لا تتوقّعوا أن تكون ديموقراطية.

آراش عزيزي*
من المرجّحِ أن تُعيدَ حربُ إسرائيل الشرسة على إيران تشكيلَ مسارِ تاريخها جذريًا. لكن من غير المرجح أن يكون هذا التشكيل تغييرًا للنظام كما يُتَصوَّرُ عادةً، أي استبدالٌ سريعٌ للجمهورية الإسلامية بنظامٍ ديموقراطي. الأرجح أنَّ الحربَ ستُسرِّعُ عمليةً كانت جاريةً بهدوءٍ قبل وقتٍ طويل من انطلاق الطائرات الإسرائيلية في 13 حزيران (يونيو) لقصف إيران.
في هذا التحوُّل، ستنتقل إيران من طرفٍ إيديولوجي إلى دولةٍ استبدادية تُرَكِّزُ على المصالح. لن تُعرَّفَ بالإسلام، بل بالحضارة الإيرانية. ستتوقّف عن الهوس بمدى إسلامية مواطنيها، وستُحاول بدلًا من ذلك توفيرَ الخدمات الأساسية لهم. ستسعى إلى التنمية الاقتصادية، لا إلى سُبُلِ تصديرِ ثورتها. ستُحاولُ التجارةَ مع الغرب، لا مُحاربته. سيقودها الأوليغارشية والجنرالات، لا رجال الدين والإيديولوجيون. باختصار، ستُشبه معظم جيرانها في العالم العربي.
وصلت إيران إلى هذه المرحلة بسبب الإخفاقات الفادحة للرجل الذي قادها منذ العام 1989، المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. كان خامنئي ثوريًا مُتديِّنًا منذ أيامه كشاعرٍ وناشطٍ بوهيمي في ستينيات القرن الماضي، ولطالما حلم بتغيير العالم. وعلى عَكسِ العديد من قُدامى ثورة 1979، لم يتَطوَّر أو يتكيَّف مع العصر، بل استمرَّ في استخدامِ بلدٍ بأكمله لتحقيق هدفه اليائس.
إنَّ الصراعَ المستمر مع إسرائيل ليس سوى المرحلة الأخيرة في سلسلةِ إخفاقاتِ خامنئي الطويلة. لطالما كان هدفه تحقيق الطموحات المزدوجة لسلفه، آية الله روح الله الخميني. ففي رؤيتهما، كانت إيران مجتمعًا إسلاميًا مُتزمِّتًا، حيث يختار الرجال والنساء بسعادة عيشَ حياةٍ إسلامية. وعلى الصعيد العالمي، كان من المفترض أن تقود إيران حملة مقاومة لا هوادة فيها ضد أميركا وإسرائيل، مُسلِّحةً حلفائها الإيديولوجيين في كلِّ مكان، ساعيةً وراء الاعتماد على الذات حتى حَدِّ العزلة.
لقد فشلَ كلا الحلمَين فشلًا ذريعًا وواضحًا. تُعَدّ إيران اليوم من بين أقلّ المجتمعات تَدَيُّنًا في العالم الإسلامي. يُعَدُّ الإيرانيون من بين أكثر مستهلكي الثقافة الشعبية العالمية شغفًا، ولا يكترثون كثيرًا للحساسيات الإسلامية. ورُغمَ أنَّ قانون الحجاب الإلزامي لا يزال ساريًا، إلّا أنَّ النظام قرّرَ أخيرًا عدم تطبيقه بجدية، وتتجوّلُ ملايين النساء الآن حافيات الرؤوس. لم تَعُد طهران تبدو مدينةً إسلامية نموذجية.
على صعيد السياسة الخارجية، كان خامنئي قادرًا على ادِّعاءِ بعض النجاحات، حتى لو كان ذلك على حسابِ عُزلةٍ دولية باهظة لإيران. سيطرت القوات الموالية لطهران على أربع عواصم عربية (صنعاء، بغداد، دمشق، بيروت)، وحوصِرَت إسرائيل بما يُسمى “محور المقاومة”، وهو شبكة من الميليشيات المُمَوَّلة والمُسلّحة والمستوحاة من إيران. لكن القوّة المشتركة للمبادرات الديبلوماسية العربية، وضرب إسرائيل للمحور، وسقوط نظام الأسد في سوريا، دمّرت كل ما بناه الرجل العجوز. لم يَقضِ سقوطُ المحور على الإنجاز الإيديولوجي لخامنئي فحسب، بل قضى أيضًا على عقيدة الجمهورية الإسلامية الدفاعية ضد إسرائيل. بسبب ضعفه وعدم تكيُفه مع العصر، تمكّنت إسرائيل من نقلِ الحرب إلى إيران. سيُعرَفُ خامنئي الآن كقائدٍ جلبَ لشعبه بؤسًا اقتصاديًا وقمعًا داخليًا وحربًا دموية.
لطالما كان فشلُ المرشد الأعلى واضحًا للكثيرين في النخبة الاقتصادية والعسكرية والسياسية الإيرانية. لقد تشبّث الرجلُ العجوز بالسلطة، لكن في السادسة والثمانين من عمره، لم يبقَ رحيله بعيدًا، والمعركة على خلافته مُحتَدِمة بالفعل. من بين الفصائل المتنافسة على السلطة في إيران ما بعد خامنئي، تقود معظمها شخصيات ذات توجُّهٍ براغماتي لا تتفق مع أيٍّ من مبادئ خامنئي الثورية. إذا كانت لديهم إيديولوجية، فهي مزيجٌ من القومية الإيرانية والتكنوقراطية. يراقبون بحسدٍ جيران إيران وهم يطوون صفحة صراعاتهم القديمة ويسعون إلى التنمية الاقتصادية.
لطالما كانت هذه النخب البراغماتية طرفًا في السياسة الداخلية المتوتّرة للجمهورية الإسلامية لعقود. وكان عرّابهم هو أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس القوي في التسعينيات، الذي همّشه خامنئي تدريجًا قبل أن يموت ميتةً مُريبة في العام 2017. قاد تلميذ رفسنجاني الرئيسي، الرئيس حسن روحاني، المحادثات الديبلوماسية مع إدارة باراك أوباما التي أسفرت عن الاتفاق النووي لعام 2015، الذي كان يهدف إلى رفع العقوبات عن الاقتصاد الإيراني وفتحه أمام الغرب. كان رفسنجاني وروحاني جُزءًا من الجيل المؤسّس لثورة 1979 الذي شهد تحوُّلًا جذريًا وخلص إلى أنَّ أفضلَ سبيلٍ لتحقيق مُثُلِ الثورة هو إعطاء الأولوية للحكم الرشيد والازدهار.
لو لم ينسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من هذا الاتفاق في العام 2018، لكان من الممكن أن ينتهي الأمر بانتصارٍ تاريخي للنخب البراغماتية في مواجهة المتشددين الإسلاميين. كان إلغاء ترامب للاتفاق بمثابةٍ ضربةٍ مُوجِعة للبرغماتيين أضعفتهم لسنوات. لكنَّ المُتشدّدين لم يتمكّنوا من كسب المعركة الداخلية. خامنئي نفسه يعلم أنه وحيدٌ في القمة. في خطابٍ تاريخي في العام 2019 بمناسبة الذكرى الأربعين للثورة، قال إنَّ إيران المستقبلية يجب أن يقودَها “شبابٌ مُتَدَيِّنٌ وثوري”، مُدرِكًا تمامًا أنَّ النُخَبَ الراسخة لم تتطابق مع المعايير.
في السنوات الأخيرة، شجّعَ فشلُ خامنئي المستمر البراغماتيين. ومن المفيد أن تكونَ أفكارهم أكثر انسجامًا مع الجمهور الإيراني. منذ العام 1997، في أيِّ وقتٍ مُنِحَ فيه الإيرانيون خيارًا ذا معنى في صناديق الاقتراع، كانوا يصوِّتون ضد المتشدّدين ولصالح البراغماتيين. في الصيف الماضي، اختاروا الإصلاحي مسعود بزشكيان رئيسًا وتجاهلوا المتشدد سعيد جليلي.
تمَّ تهميشُ المتشدّدين في معظم مستويات السلطة. بالإضافة إلى بزشكيان، لا يتعاطف رئيسا فرعَين آخرين من فروع الدولة -البرلمان والسلطة القضائية- مع المتشددين أيضًا. فالحرس الثوري الإسلامي القوي غالبًا ما لا يُبدي اهتمامًا كبيرًا بالمتشددين الذين يُنظَرُ إليهم على أنهم مُثقفون، ومتشددون، ويشكلون خطرًا على التوازن الاجتماعي في إيران بسبب إصرارهم على فرض التشدد الاجتماعي بقوة السلاح.
ساهمت التغيُّرات في المنطقة في تعزيز موقف البراغماتيين. فهم يُقدّرون المملكة العربية السعودية وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، لما أحدثه من تغييراتٍ اجتماعية سريعة في بلاده، واستغلاله المُلفت لعلاقته مع ترامب. بدأت عملية المصالحة الإيرانية-السعودية في العام 2023، واكتسبت زخمًا منذ ذلك الحين. في نيسان (أبريل)، زار وفدٌ عسكري سعودي كبير إيران. وتحرصُ المؤسسة الحاكمة في طهران الآن على علاقاتها الجيدة مع الرياض، وتسعى جاهدةً إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية مع حليفتَي السعودية، مصر والبحرين.
لن يُسهِمَ الصراعُ مع إسرائيل إلّا في تسريع عمليٍة كانت جارية بالفعل. تعمل النخب الإيرانية الآن بجدٍّ للدفاع عن بلادها ضد الهجمات الخارجية. لكن أعضاءها على الأرجح غاضبون من خامنئي لإيصالهم إلى هذه النقطة بسبب افتقاره الكارثي للاستراتيجية وحملته الشرسة طويلة الأمد ضد إسرائيل. وقد عبّرت فائزة هاشمي، النائبة السابقة الصريحة وابنة رفسنجاني، عن رأي الكثيرين عندما قالت إن إيران، في مواجهة الهجمات الإسرائيلية، “تجني ما زرعته”.
عندما يستعيدُ البراغماتيون رباطة جأشهم، سيأخذون زمام الأمور ويحاولون التوصُّلَ إلى هدنة، بما في ذلك من خلال وعد الغرب وإسرائيل بالتخلي عن العداء الدائم تجاههما. سيقدّمون التنازلات اللازمة بشأن البرنامج النووي للحفاظ على امتيازاتهم ومنع المزيد من تدمير إيران وبنيتها التحتية.
قد يتّخذ هذا أشكالًا مختلفة. قد يعود روحاني ويُمنح قيادة البلاد بشكلٍ غير رسمي. ربما يُعلن نائبًا للقائد العام، وهو لقب حمله رفسنجاني خلال حرب 1980-1988 مع العراق، عندما أدار رفسنجاني المجهود الحربي بفعالية لأنَّ الخميني كان متقدمًا في السن وضعيفًا. ربما تستطيع مجموعة من القادة العسكريين عزل خامنئي رسميًا وتولي السلطة لأنفسهم. من بين المرشحين للقيادة العسكرية محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان، أو علي شمخاني، مستشار الأمن القومي السابق القوي الذي كاد أن يُقتَلَ في الغارات الإسرائيلية.
لكن أيًا كان شكله، فإنَّ معالم هذا السيناريو المحتمل واضحة: ستُدفن ثورة إيران لعام 1979 أخيرًا. ستتخلى إيران عن عدائها الطويل للغرب.
يمتلئ تاريخ إيران الطويل بالعديد من الأبطال العسكريين، ولكن حتى وهي تجد نفسها في واحدةٍ من أسوَإِ حروبها على الإطلاق، يبحث الإيرانيون عن بطلٍ ديبلوماسي بدلًا من ذلك. إنهم يتساءلون عما إذا كان بإمكان بلادهم أن تحظى بعباس ميرزا آخر، ولي عهد القاجار في أوائل القرن التاسع عشر. كان عباس ميرزا مكروهًا تقليديًا في التأريخ الإيراني بسبب معاهدات السلام المُثيرة للجدل التي وقّعها مع روسيا، والتي تخلّت بموجبها عن أراضٍ إيرانية في القوقاز. لكنه الآن يحظى بإشادة الكثيرين كرجلٍ استطاعَ الحفاظ على سيادة إيران سليمة. نعم، خسرت إيران الكثير، لكنها عاشت لتُقاتِل يومًا آخر. ستكون هذه مهمة البراغماتيين الإيرانيين اليوم.
- آراش عزيزي هو خبير في الشؤون الإيرانية وزميل زائر في مركز فريدريك س. باردي لدراسة المستقبل الأبعد مدى بجامعة بوسطن. نُشر كتابه “ما يريده الإيرانيون: المرأة والحياة والحرية” في كانون الثاني (يناير) 2024.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازِيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.