مَنطِقُ المُحاسَبة في لبنان: لا تَمُسّ الكارتيلات… وافعل ما شِئت

البروفِسور بيار الخوري*

في لبنان، البلدُ الذي اعتادَ على الفسادِ المؤسّسي حتى صارَ جُزءًا من دورةِ العملِ اليومية، يبدو مَشهَدُ توقيفِ ومُلاحَقَةِ وزراءٍ ومسؤولين كبار وكأنّهُ صحوةٌ عدلية طالَ انتظارُها. لكن مَن يتأمّلُ تفاصيلَ الملفّات التي أوقعت بكلٍّ من الوزيرَين السابِقَين أمين سلام وجورج بوشكيان، وقبلهما حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، يُدرِكُ سريعًا أنَّ المسألة لا تتعلّقُ بمُواجَهَةٍ حقيقيّةٍ مع منظومةِ الفساد الكبرى، بل بحساباتٍ دقيقة تَتَّصِلُ حصرًا بمصالح القطاع الخاص النافذ، رُغمَ أنَّ توقيفَ سلامة مُرتَبِطٌ بضغوطٍ خارجية ايضًا.

أمين سلام، وزير الاقتصاد السابق، الذي أمضى فترة ولايته وهو يَتنقّلُ بين ملفّاتِ الدَعمِ والقمح والبطاقات التمويلية، لم يَسقُط بسبب هدره لأموالِ اللبنانيين، أو بسببِ سوءِ إدارته لأحد أخطر المراحل الاقتصادية في تاريخ لبنان. سُقوطُهُ جاءَ على أيدِي لوبي شركات التأمين. الملفّات التي أطاحته تَدورُ حولَ اتهاماتٍ بابتزازٍ مباشر لشركات التأمين مقابل تجديد التراخيص، وتهديدها بإجراءاتٍ عقابية إن لم ترضخ لمطالبه ومطالب مَن حوله. هذه ليست مجرّد قضية فساد إداري، بل مَسٌّ مباشر بمصالح مجموعةٍ من أكبر الكارتيلات الاقتصادية في لبنان، التي لطالما عُرِفَت بحمايةِ نفسها من أيِّ تهديد، حتى لو جاءَ من وزيرٍ في الحكومة.

جورج بوشكيان، وزير الصناعة السابق، لم يَكُن أفضلَ حالًا. الاتهاماتُ التي لاحقته تتعلّقُ بمَنحِ رُخَصٍ صناعية بطريقةٍ استنسابية، وشبهاتٍ بتقاضي رُشى عبر مدير مكتبه لقاء تسهيلات صناعية غير مُستحقّة. مرة أخرى، ليس ملف المال العام هو ما أزعجَ القضاء، بل الضررُ الذي لحق بمصالح رجال الأعمال والمستثمرين والصناعيين النافذين. هؤلاء الذين يتعاملون مع الوزارات باعتبارها امتدادًا لمكاتب خدمات خاصة، ويفترضون أنَّ مسارَ التراخيص يجب أن يبقى تحت سيطرتهم وحدهم.

رياض سلامة بدوره، ورُغمَ كلّ ما ارتكبه بحقِّ الاقتصاد اللبناني، لم يَسقُط بسبب انهيار النظام المالي أو ضياع ودائع الناس أو سنوات من السياسات النقدية الكارثية. الرجلُ أوقِفَ وسُحبت منه الحصانة، وأُخضِعَ للتحقيق والملاحقة… بسبب شركة “فوري”. شركةٌ تحومُ حولها شبهات حصولها على عمولاتٍ غير قانونية من المصارف نفسها. كما بسبب قضايا مع القضاء الأوروبي.

الخَيطُ الرابط بين هذه القضايا الثلاث يبدو أوضح من أن يُخفى. هناكَ رسائل صارخة لكلِّ من يُفكّرُ بمخالفة القاعدة الذهبية غير المكتوبة في لبنان: يُمكِنُكَ أن تنهبَ ما شئت من أموال الدولة، يُمكِنُكَ أن تُفلِسَ الخزينة، يُمكِنُكَ حتى أن تَرهَنَ مُستَقبَلَ أجيالٍ بكاملها… لكنَّ الاقترابَ من جيوب الكارتيلات، أو العبث بمصالحها المباشرة… فهو خطُّ أحمر، وخطأٌ لا يُغتَفَر.

العدالةُ في لبنان لم تَصحُ بعد. كلُّ ما في الأمر أنَّ ميزانَ القوى بين أطرافِ المصالح تغيّرَ مؤقتًا. والنتيجةُ أنَّ مَن تجرَّأ على اللعبِ خارج الحدودِ المرسومةِ له… دفعَ الثمن سريعًا.

يبقى السؤال المفتوح: هل نحنُ أمامَ بدايةٍ لتصفيةِ حساباتٍ داخلية أوسع بين أجنحة المنظومة الاقتصادية؟ أم أنَّ هذه التوقيفات ليست سوى استثناءاتٍ مَحسوبةٍ هدفها ترهيب باقي الوزراء والمسؤولين، وتذكيرهم بأنَّ الفسادَ مسموح… شرط أن لا يلامس مصالح الكارتيلات؟

مهما كان الجواب، الحقيقة الثابتة تبقى واحدة: في لبنان… مَن يَسرُقُ الدولة والشعب يُكافَأ… ومَن يُزعِجُ الكارتيلات… يُعاقَب.

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى