صداقَةُ عُمرٍ في سبيلِ الرسالة
الدكتور فيليب سالم*
وكيف يمكنك أَن تسلخ منصور عن عاصي؟ لكأَنّهما كانا غصنَين من جذع شجرة واحدة. يوم دَفْن عاصي اتكأَ منصور على كتف صديقنا هنري زغيب وهمسَ في أُذنه: “الآن تدفنون مع عاصي نصف منصور”. ويوم مات منصور طلبتُ من صديقٍ لي أَن يحملَ إِكليلًا من الزهر إِلى ضريحه، ويقول له إِن قسْمًا مني سيبقى إِلى جانبه.
لم أَعُد أَذكُر كيفَ وأَين التقينا للمرة الأُولى. كلُّ ما أَذكرُهُ أَننا بعد تلك المرة الأولى التقينا أَلف مرة. ذكرياتٌ وحكاياتٌ تتمدَّد من أنطلياس إِلى بيروت إِلى أُوتيل قادري في زحلة إِلى مدارج بعلبك. وإِن نسيتُ، فلن أَنسى يوم كنّا ذاهبَين لحضور مسرحية رحبانية في بعلبك، إِذ تأَخَّرنا على الطريق، وإِذا بصوت منصور يهدُر في هاتفي: “وين صرتوا؟”، قلتُ: “بعد بدنا عشر دقائق”، فأَجاب: “عجّلوا صار وقت نبَلِّش، بس مش رح بلِّش تَ توصَلوا”.
إِنها صداقةُ عمْر، عمْر من المحبة والأُخُوَّة والفرح، عمْر من الكلام، عمْر من الصمت الذي يتكلَّم أَجمل من الكلام.
ماذا يجمع بين فنّانٍ مبْدع مثل منصور، وطبيب مثلي يعيش مع آلام الناس؟ أُمورٌ كثيرة جمعَتْنا، نعرف بعضها، ونجهل البعض الآخر. جَمَعَنا حبُّنا لبنان. وجمعَنا حبُّنا الضيعةَ في لبنان. أَنا ومنصور “ولاد ضيعة”، وُلِدْنا ورَبِينا في بيوت عتيقةٍ من حجر. نحن عقَدنا “صداقة مع القمر”. كم سهِرنا على “سطح الجيران” في ضوئه، وكم عملْنا مشاوير في الليل على “دربه”. نحن نعرف “دقَّة” جرس الكنيسة ومعناها. نحن عشنا في طفولتنا مع القنديل، وكم سقَيناه من زيته. نخن نعرف رائحة الأَرض عند “الشَتْوة” الأُولى. أَنا فخور بأَنني وُلدتُ وعشْتُ في ضيعةٍ من لبنان. وكم ردَّدتُ في كلامي إِنَّ مَن لم يعش في ضيعةٍ لم يعرف حقيقة لبنان.
وجمعنا حبُّنا، بل عشْقُنا لبنان. وفي ظنِّنا أَنْ ليس من وطنٍ في الأَرض يستحقُّ العشق كما يستحقُّه لبنان. لم يكن لبنانُنا لبنانَ الكيان السياسي المعترَف به في نصوص الأُمم المتحدة، بقدْرِ مَا كان لبنانُنا الكيانَ الحضاريَّ المعترَفَ به من شُعوب العالم كلِّه: لبنانُ الحضارة المميَّزة في الشرق. لبنان الرسالة إِلى العالم. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأَرض تُعانقُ المسيحيةُ الإِسلام. وهنا في هذه الأَرض تُعانقُ حضارةُ الشرق حضارةَ الغرب وحضاراتِ العالم كلِّه. وحدَهُ بين جميع بلدان هذا الشرق تعيشُ فيه وتحيا التعدُّدية الحضارية. وحدَهُ في هذا الشرق يحمل الرسالة الرسالة التي تقول إِنَّ الله واحد، وإِنَّ الإِنسان واحد.
في نيسان (أبريل) 2002 أُقيمَ ليَ احتفالٌ في قصر الأونيسكو شارك فيه منصور. ومما قال: “لا البيارق ولا الجيوش ولا ترسانات الأَسلحة التي تكدِّسها أَنظمةُ الشرق تَضعُنا في الانتصار. وحدَها سُبُلُ العلْم والاكتشافات والفنون تنقُلُنا من بلدٍ صغيرٍ يَستعطي على أَبواب الأُمم إِلى وطَنٍ رؤْيَويٍّ يُساهم في صنع مصير الإِنسان”.
منصور الرحباني، هذا الصديقُ والحبيب، هذا الذي رفع كلَّ واحد منا إِلى فوق، هذا الذي ملأَ سماءَ هذا الشرق بالفرَح، ماتَ وفي قلبه حُزن كبير وخوف كثير: حزْنٌ على لبنان، وخوفٌ على الرسالة.
- كلمة الدكتور فيليب سالم في مئوية منصور الرحباني التي أحياها مركز التراث اللبناني -الجامعة اللبنانية الأميركية (17 آذار/مارس 2025)
- الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.