التكليفُ الشرعي كمَدخَلٍ لتسليم “حزب الله” سلاحه للدولة: فَصلُ الدين عن السياسة
تطرح هذه المقالة مسألة تعديل حدود التكليف الشرعي من الولي الفقيه علي خامنئي لجماعة “حزب الله” كضامنٍ لنبذ الحزب العمل العسكري وعدم عودته إليه في أيِّ استحقاقٍ مُقبلٍ تشتبك فيه إيران مع خصومها من طريق وكلائها في المنطقة، وكمدخلٍ ضروري لدخول الحزب قولًا وفعلًا تحت سقف إتفاق الطائف والدولة اللبنانية كوطنٍ نهائي لجميع أبنائه.

ملاك جعفر عبّاس*
تحتلُّ مسألةُ نزع سلاح “حزب الله” الصدارةَ من حيثُ أهمّية الاستحقاقات التي تنتظرُ عهد الرئيس جوزيف عون وحكومة الرئيس نوّاف سلام. كان خطاب القسم والبيان الوزاري واضِحَين لا لُبسَ فيهما حول احتكار الدولة للسلاح، كما إنَّ اتفاقَ وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، والذي وافق عليه كلٌّ من “حزب الله” ورئيس مجلس النواب نبيه بري وووقّعته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، يُحَدِّدُ الأجهزة العسكرية والشرطية التي يحقُّ لها حملَ السلاح حصرًا وبالاسم. وقد أكّدَ الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، في خطابه الأول بعد الحرب، أنَّ الحزب “تحت سقف الطائف” واتّسَمَ تعامُلُه ببراغماتية مع تسمية العماد عون لرئاسة الجمهورية والمشاركة في حكومة سلام وإعطائها الثقة.
لكن من جهة أخرى أثارت تصريحاتُ قاسم وبعض المسؤولين في “حزب الله” حول تسليم السلاح جنوب النهر لا شماله والحاجة إلى استراتيجيةِ أمنٍ قومي علاماتَ استفهامٍ كبرى حول جدّية الحزب في كلِّ ما سَبَقَ وتَعهَّدَ به. كما إنَّ بعضَ المُمارساتِ على الأرض يطرحُ أسئلةً جدّية حول مدى إمساك القيادة الجديدة للحزب بمفاصله العسكرية وشارعه، ما يُثيرُ مخاوفَ حقيقية من أنَّ قرارًا من الأمين العام للحزب بسحب السلاح (إن حدث) قد لا يُطبّقهُ مَن يحملُ السلاح فعليًا على الأرض. فاحتمالاتُ انشقاق الحزب واردة، وقد حدث هذا الأمرُ مع كثيرٍ من الحركات المسلّحة التي قتلت قياداتها أو وقّعت اتفاقات اعتُبِرَت مُذلّة من تيارات داخلها كجيش التحرير الإيرلندي “الحقيقي” الذي انشقَّ عن جيش التحرير الإيرلندي إثر التوقيع على اتفاق “الجمعة العظيمة” مع الحكومة البريطانية في العام ١٩٩٨، وقام بالعملية الأكثر دموية والتي راح ضحيتها أكثر من ٢٢٩ شخصًا بين قتيل وجريح. كما إنَّ احتمالاتَ انفلات الوضع على الحدود وفي الداخل من خلال إشكالاتٍ امنية أيضًا وارد. فإسرائيل ما زالت تحتلُّ خمس نقاط في الجنوب اللبناني، وتنتهك الاتفاقَ ليلَ نهار ما قد يُشكّلُ ذريعةً لتلك العناصر “المُنفلتة” أو “المشبوهة”(حسب وصف قناة المنار-الذراع الإعلامي للحزب)، والتي رأيناها على طريق المطار خلال الاحتجاجات على منع طائرة “ماهان إير” من الهبوط في مطار بيروت، للقيام بعمليات عسكرية بحجة مقاومة الاحتلال ما سيؤدّي الى تفجير الحرب من جديد.
الواقع أنه من الصعب تصوُّر طريقة سلمية لتسليم الحزب سلاحه شمال النهر إن لم يأتِ القرارُ من طهران بطيِّ صفحة “حزب الله” كفصيلٍ في الحرس الثوري من خلالِ تكليفٍ شرعيٍّ من الولي الفقيه علي خامنئي. وحتى لو سلّمَ الحزبُ سلاحه شمال النهر أو وَعَدَ بذلك، ما الضمانة في أنه لن يأخُذَ لبنان في متاهاتٍ مُدمّرة أخرى بتكليفٍ شرعي آخر يَخدُمُ مصلحةَ إيران في لحظات اشتباك آتية تتحضّر لها إسرائيل لاستهداف المفاعلات النووية الإيرانية ويُعاد ترتيب الاحجام والتوازنات في الإقليم من جديد؟
ما هو التكليف الشرعي؟
التكليفُ الشرعي في العقيدة الدينية الإثني عشرية أمرٌ يَصدُرُ من الولي الفقيه يُعادلُ في قيمته الأمرَ الإلهي وطاعته واجبٌ ديني لإثبات الفرد تسليمه وانقياده لتعاليم دينه. والتكليفُ الأوّل هو كلمة الله التي نزلت في النص القرآني وتولّى النبي محمد نقلها للمُكلّفين من عموم المسلمين، ثم توالى على نقلها الأئمة المعصومون. وفي زمن الغيبة انتقلَ التكليفُ إلى الولي الفقيه. ويستندُ مؤيّدو هذه الفكرة إلى ما نُقِلَ عن الإمام الصادق “فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حَكَمَ بحُكمِنا فلم يُقبل منه، فإنّما استخفَّ بحُكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على الله”. لذا، فمسألة طاعة الولي الفقيه ليست انتقائية ولا يُمكِنُ المُجادلة في فحواها، وهي تُغطّي كافةَ مناحي الحياة من الشخصي إلى السياسي.
فعندما أصدر آية الله خامنئي تكليفه الشرعي ل”حزب الله” بالدخول إلى سوريا في العام 2012، كما تروي مذكرات أستاذ الحروب غير المتكافئة، القائد في الحرس الثوري حسين همداني “رسائل الأسماك”، ونَقَلَ التكليف قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى السيد حسن نصر الله، لم يستطع نصر الله رَفضَ التكليف بحدِّ ذاته علمًا أنه كانت لديه ملاحظات كثيرة على الخطة التي وُضِعَت من قبل الإيرانيين لتنفيذ التكليف. فوضع ملاحظاته على الخطة شاطبًا أجزاءً كبيرة منها وردّها مُعدَّلة مع سليماني إلى خامنئي الذي وافق على التعديل. هناكَ هامشٌ للحركة في الكيفية لمن هم بمصافي نصر الله لكن لا مجالَ للرفض لأيٍّ كان. وينسحب هذا المثال أيضًا على حربِ الإسناد لغزة التي بدأها “حزب الله” في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) وقضت عليه أو كادت.
تؤمن تياراتُ الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبها بأنَّ الإسلامَ دينٌ ودولة، وحدود الإسلام هي الأُمّة الإسلامية لا الدولة وإلّا طاعة لقانونٍ وضعيٍ إذا كان الله قد أنزل في المسألة نفسها آيةً قرآنيةً او أفتت الشريعة فيها. وما “معركة المصحف” التي خاضها حسن البنّا مؤسّس حركة “الإخوان المسلمين” في العام 1948 لحمل الدولة المصرية على اتِّباع القرآن في الحُكمِ والتشريع إلّا خير مثال على ما نقول. وهذه مسألةٌ جوهرية تضعُ هذه التيارات بشكلٍ عام في صدامٍ مع حكومات الدول التي تنمو وتنشط فيها. فالشعب مصدرُ السلطات، بما فيها السلطة التشريعية، في الدول الديموقراطية، وهدف القوانين هو تحقيق العدالة الأرضية للمواطنين ولا يمكن المُواءمة بين جماعةٍ تتبعُ القانون الوضعي وأُخرى تتبع قانونًا سماويًا أو أمرًا إلهيًا آتيًا عبر الحدود من زعيمٍ روحي هو نفسه رأس دولة أخرى. وقد يُحاجِجُ البعضُ هنا أن غالبية المسيحيين تتبع زعيمها الروحي في الفاتيكان وهو رأس دولة أخرى! صحيح، لكن الكنيسة الكاثوليكية دخلت في مخاضاتٍ كبيرة، عبر قرونٍ من تاريخها، كفّت يدها عن التدخُّل في الشؤون السياسية وقرارات الحرب والسلم وتسليح جماعات مؤيدة لها، وكلّف هذا التاريخ ملايين الأشخاص حياتهم. وشيعة “حزب الله” مدعوون اليوم للتفكير في هذا التاريخ وحسم خيارهم في الانتماء للبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه وهم أبناء هذا الوطن ودفعوا الغالي والنفيس دفاعًا عنه. فأن تكونَ لبنانيًا خالصًا يقتضي منك أن يكون دستورك الأول والأخير هو الدستور اللبناني، وهذا يقتضي التفكير في حدود التكليف الشرعي في شقّه السياسي. وقد أجرت جماعات الإسلام السياسي ك”الإخوان المسلمين” مراجعات عدة في تاريخها، نبذت العنف وعادت إليه ثم نبذته من جديد، ولا يضير قادة “حزب الله” ومفكروه أن يقرَؤوا تجارب الآخرين، وأن يُمسكوا بأيدي جماعتهم للعبور الى كنف الدولة. ف”الإخوان المسلمون” الذين انجرفوا وراء أفكار سيّد قطب التكفيرية اعادوا قراءة منهجهم وهم في السجون، ونبذوا العنف في مراجعتهم الشهيرة أواخر الستينيات الفائتة مُعتبرين أنَّ هدفهم هو نشر الدعوة والفكر لا التكفير لمن نطق بالشهادتين كما جاء في كتاب “دعاة لا قضاة” المنسوب الى المرشد حسن الهضيبي. والمطلوب في حالة “حزب الله” ليس تخطئة التكليف الشرعي كما خطّأ الاخوان سيد قطب، إنّما البحث عن اجتهادٍ يسمحُ بفصل الدين عن السياسة، ويرسمُ حدود الزعامة الروحية للولي الفقيه بمسائل العبادة لما فيه خير الأمة. ففي السياسة تدركُ إيران أنَّ تصديرَ ثورتها انقضت مدة صلاحيته ولن يعودَ منه إلى بلد المنشأ إلّا الوبال، وقد أثبت أداؤها الكرتوني في الحرب الأخيرة على غزة ولبنان أنها تركت أذرعها تُلاقي مصيرها المحتوم ونجت بنظامها.
لقد حان الوقت لكي يُدركَ “حزب الله” أنَّ سلاحه بات عبئًا عليه وعلى بيئته كما أدرك عبد الله أوجلان مُتأخِّرًا، وأن دوره في المجتمع يجب ألّا ينحصر في رمي أبنائه حطبًا في حروبٍ بلا أُفُق. حان الوقت لأن يُقطَعَ الحبلُ السرّي مع إيران، لكن هل من أحدٍ يملك جرأة حمل المقصّ؟
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة وصحافية لبنانية عملت في مؤسسات لبنانية وعربية وعالمية عدة. وهي متخصصة في مكافحة الإرهاب ودراسة الجماعات المسلحة. يمكن متابعتها عبر “لينكد إن” على: linkedin.com/in/malakjaafar
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.