وقفة مستريحة على باب قلعة نيحا

هنري زغيب*

… ويكون لِطَاقة السيَّارة حدٌّ، فنترجَّل. “هي ذي القلعةُ هناك”، أَشار إِدي شويري (رفيق رحلات اكتشاف لبنان). أَلتَفِتُ، فأَرى في البعيد صخرًا كبيرًا، بين أَرض وسماء، رابضًا كأَسَدٍ دهريٍّ على المقْلب الآخر من الجبل، فيه تجويفةٌ تبدو كبيرة. “كيف نَبْلغُ الهناك، وبيننا وبينَه وادٍ؟” سأَلتُ مستغربًا. “نمشي بحذَر في درب ضيِّق وصعب”، أَجابني سعيد مرشاد (الدليلُ السياحيُّ الْكان ينتظرنا، على مدخل الموقع، في القاعة السياحية التابعة لـ”محمية أَرز الشوف”). ثم قال: “هَلُمُّوا”، فَـــ”اهْلَمَمْنا”.

رحنا نتقافَزُ فوق الصخور المسنَّنة، على الأَعشاب اليابسة، بين الحجارة المهمَلة، تحت أَشجارٍ تصافِحُنا أَغصانُها فنتلَمَّسُها ونمضي. بعد سويعةٍ، صرنا في قَفْرٍ لا يَسمع سُكونَهُ إِلَّا الطيورُ المتنزِّهة فوقَنا. “ما أَبلَغَ الفرادةَ في طبيعة لبنان!”، تنهَّدَت مي الريحاني، الشاعرةُ التي كانت يومها، وشقيقُها رمزي الريحاني، في ضيافة الصَديقَين وليد وندى فرحات، رفيقَينا كذلك في هذه الرحلة.

عند منعطف مفاجئ، يَنفصل المعبر. ها نحن على شفير وَهْدةٍ خطِرةٍ عميقةِ القاع. نَعبرها بحذَرٍ على جذوع ضخمة ممدودة تصل بين طَرَفَي الدرب المقطوع. أَلْتفِت حولي: وديان وتلال وصمْت كثير. أَتذكَّر مقطعًا من قصيدة منصور الرحباني: “… وتْلال خلْفْ تْلال، ما بْيقْطَعَا خيَّال… وما فيه حدا بْيمْرُق فيَا إِلَّا نحنْ، والريح، والموَّالْ، وشي كَمّ رف حْجالْ”.

نصل إِلى منعطَف خطِر آخَر: “لا درب هنا. ثَبِّتوا أَقدامكم فوق الصخور”. يُحذِّرُنا سعيد، وهو يتقدَّمنا بعافية الدليل وحماسة المؤْمن بفرادة المكان. نتوقَّف لاهثين. يَشرح سعيد: “نحنُ على علوّ 1200 متر. تعاقَبَ على هذه القلعة غُزاةٌ كثيرون في التاريخ. بينهم الصليبيون، أَطلقوا عليها اسم “تيرون”. احتلَّها صلاح الدين الأَيُّوبي. أَحرَقَها التَتَري والي صيدا سعد الدين بن نزار شهاب الدين بن بُحْتُر. استولى عليها السلطان بيبرُس المملوكي. سنة 1585 لجأَ إِليها الأَمير قرقماز، ولاحقًا ابنُهُ الأَمير فخر الدين الثاني، بلغَها سنة 1633، واتَّخذها ملجأً له ولأُسرته وبعض جنوده، بعدما هزمه العثمانيون بقيادة والي دمشق الكُجُك أَحمد باشا. عندما اكتشف الكجك مكان لجوء الأَمير، حاصرَهُ طويلًا فلم يستسلم. استخدَم الكُجُك المياه الجوفية الجارية إِلى القلعة من نبع الحلقوم، فسمَّمَها بدماء البهائم. اضطُرَّ فخر الدين إِلى مغادرة القلعة، ولجأَ إِلى جوارها في مغارة جزين. وشى به أَحد الخَوَنة، فأُلْقِيَ القبض عليه واقتيدَ إِلى اسطنبول حيث قُطِع رأْسه سنة 1635″.

“نُكمل الرحلة يا سعيد”؟ “نكمل”. وأَكملْنا. ها نحن نقترب فنَعبُر ممرًّا لا هو دَرب ولا هو ممرّ. هو خط ضئيل لا يتجاوز عرضه نصف متر، على طرَف شير مُرعب شاهق، علينا سلوكُهُ من دون النظر إِلى تحت. تذكَّرتُ عبارة الأَخوين رحباني عن دروب المهرِّبين في الأَحراج والوديان: “الحجَر لولا وقَع… كان انْوَجَع” (مسرحية “يعيش يعيش”).

ثم… وصلْنا. ها نحن في قلب الجَوف الكبير الذي كنتُ رأَيتُه من بعيد، واستهجنْتُ أَن نتمكَّن من الوصول إِليه. مغارة محفورة في الصخر. حدَّها مغاورُ أُخرى صغيرةٌ وآبارٌ عميقة. أَقفُ على طرف الجُرف الهائل. صمتٌ واسعٌ يتمطَّى. أَتذكَّر معنى نيحا السرياني: “الهدوء والراحة”. ها أَنا في لحظةٍ فريدةٍ مستريحة بين أَرض وسماء. أَتأَمل المنظر يَكْرُجُ أَمامي: وديان وتلال… في البعيد: قضاء جزين بجلاله وجماله وأَخضره الفريد. في الأَبعد: أَرضُ الجنوب الأَغلى على قلب كل لبناني. خِلْتُني لِلَحظاتٍ خارجَ المدار… أَليس لبنانُ، بفرادته وتراثه، خارجَ المدار العادي؟

في درب العودة: الحذَر ذاتُه. العَبَّاراتُ الخشبيةُ ذاتُها. التَعرُّجاتُ الأُفعوانيةُ ذاتُها. ساعةٌ مطَّاطةٌ من المشي البطيء الدقيق. جولةٌ لا تُنسى، في بلدةٍ لبنانيةٍ لا تُنسى. أَعود منها بِوَمْضَتَين: في بالي ذكرى لبنانيةٌ ناصعة، وفي كَفِّي قَصْفَةُ زعترٍ بَرّيٍّ أَحفظُ نكْهتَها لِموسم الجنى.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى