رحلة إِلى ريشة سيزانّ (1 من 2)

صيادو السمَك

هنري زغيب*

“يُـمَدْرِسُونَهُ” رائدَ “ما بعد الحداثة”، بِما كان له من تأْثير على رسامي جيله التشكيلي. لكنَّ بول سيزانّ (1839-1906) أَبعدُ عراقةً وأَصالةً من جيله ومعاصريه. فهو ترك أَعمالًا لا تزال حتى اليوم موضوعَ دراساتٍ وتحاليلَ نقديةٍ تجعله رائدًا مميَّزًا في تاريخ الفن الحديث من الرسم الفرنسي، خصوصًا ببراعته في مزج الأَلوان وإِطْلاع تنويعاتٍ وفروقاتٍ لونيةٍ فريدة، وتركيزٍ على تفاصيل الخطوط قبل التلوين، تأَثُّرًا مباشرًا بأَعمال تيتيان (1506-1567) وروبنز (1577-1640)، حتى أَنه برع في تداوير وأَشكال هندسية جعلتْه سبَّاقًا إِلى التكعيبية قبل ولادة التكعيبية. وتُنقَل عنه عبارته الشهيرة: “الفن تَنَاغُمٌ بَيِّنٌ بين اللوحة والطبيعة”.   

لاستجلاء ريادته، هنا رحلةٌ إِلى ريشته في عَشْرٍ من أَبرز لوحاته.

جبل سانت فيكتوار
  1. سلَّة التفاح (1893)

لعلَّ هذه اللوحة أَبرزُ شاهد على تأْثير سيزانّ بالتكعيبيين لاحقًا، وفي طليعتهم بيكاسو (1881-1973). ففيما أَشكال التفاحات وأَرغفة الخبز وزجاجة النبيذ قريبة جدًّا من الشكل الطبيعي، تبدو الطاولة المستطيلة بعيدة عن المحاكاة الطبيعية التامة، إِلَّا في زاوية منها. فسلَّة التفاح مائلةٌ مستندةً إِلى قاعدة تحتها، وتقترب عموديتها من زجاجة النبيذ وما انهدَلَ نُزُولًا من شرشف الطاولة. ومن براعة سيزانّ أَنْ رَسَمَ التفاحات بما يوحي كأَنها ستتدَحرج وتنقلب عن الطاولة إِلى الأَرض. كل هذا يوحيه استخدام سيزانّ ريشته البارعة في أَلوان ممزوجة ببراعة النور والظل، ما يجعل سيزانّ من أَبرع رسامي عصره في نقْل الطبيعة الصامتة نابضةً بالحياة في لوحاته.

  1. صيَّادو السَمك (1875)

عرض سيزانّ هذه اللوحةَ في معرض الانطباعيين (باريس 1877). وفيها رجلٌ بثوب أَسود يتقدم من جمع صيادي سمك، فيما نساءٌ بأَثواب أَنيقة يتمتَّعن بنهار مشمس عند ضفَّة مياه. وهو مشهد شاءَه سيزانّ مشْرقًا هادئًا دافئًا، يشكِّل فاصلًا زمنيًّا وتشكيليًّا عن مرحلةٍ سابقةٍ للرسىام كانت لوحاته فيها داكنةً قاتمة قبل أَن تتغيَّر ريشته إِلى الأَلون الزاهية التي غمرت لوحاته لمعارض الانطباعيين خلال ثمانينات القرن التاسع عشر. ويرى النقاد أَن هذه اللوحة متأَثرةٌ باللوحات التي رسمَها خارجًا في الطبيعة كلود مونيه (1840-1926) وإدوار مانيه (1832-1883) مع تأَثُّر واضح برسامي عصر النهضة وأَخصُّهم تيتيان ورافاييل (1483-1520).

  1. جبل سانت فيكتوار (1882)

في هذه اللوحة تَظهر سلسلةُ قمم من جبل سانت فيكتوار (“سيدة النصر” – جنوبي فرنسا) ويظهر في البعيد جسر الوادي المتعدد القناطر. وهذه اللوحة واحدة من 79 لوحة رسمها سيزانّ للمشهد ذاته من زوايا متقاربة مع بعض الاختلاف في توقيت النهار. وهو رسَم المشهد عن تلةٍ قرب منزل شقيقته، وتعمَّد فيها الأَشكال الهندسية لتفاصيل الطبيعة. وفيما مساحةُ الفضاء الطبيعي واضحةٌ برُقْشات قصيرة سريعة من الريشة، تبدو البيوت كأَنها عُلَبٌ، ويبدو في البعيد جسرُ القطارِ الطويلُ فوق القناطر ذا مسحة رومنسية. وفي مقدمة اللوحة تنتصب شجرة بجذعها الطويل وأَغصانها العالية تغطِّي بعض الجبل وتتمايز عن لون الفضاء المائل بين الأَرزق والزهريّ والأَخضر المغاير. من هنا يرى النقاد في هذه اللوحة إِنجازًا تشكيليًّا لافتًا بأَشكاله وأَلوانه وجماله.

المستحمَّات
  1. المستحمَّات (1898)

هي أَكبر لوحة وضعها سيزانّ بين مجموعة بالموضوع ذاته. تتميَّز بالعري المشغول، فلا وقاحة ولا إِثارة، وبمهارة تشكيلية ناجمة عن وضعه تلك المجموعةَ لوحة بعد لوحة. لكن هذه اللوحة بالذات منتظمة في تركيبها. فالأَشجار عن الجانبين تُشكِّل قوسًا متوازيًا فوق المستحمَّات اللواتي يجلسْن معًا على ضفة النهر، أَو مستلقيات مسترخيات أَو ينظِّفن ثيابهنّ. تعمَّد سيزانّ أَشكالهنَّ تجريدية، وتقريبًا في رُقْشات لونية متقاربة، ما يجعل هذه اللوحة إِحدى روائع سيزانّ على الإِطلاق في ما سُمِّيَ “عصر الفن الحديث”.

الفلَّاح الجالس
  1. الفلَّاح الجالس (1892)

برع سيزانّ في هذه اللوحة بتصوير الفلَّاح على بعض حزن وكآبة. والظاهر فيها هنا هو عامل في مزرعة خاصة بأُسرة سيزانّ في إِكْسْ-آن-بروفانْس. وقد يكون من لاعبي الورق، وهو موضوع عالجه سيزانّ في أَكثر من لوحة. فالطاولة إِلى يمين الرجل شبيهة بتلك التي تظهر في لوحات سيزانّ عن لاعبي الورق حول طاولة. ويبدو هذا الرجل يفكر بكآبة عميقة بادية على وجهه. وفي ذلك ما تميَّز به سيزانّ برسمه أَشخاصًا ذوي نظرات تحتمل أَكثر من تفسير.

المقال التالي:  اللوحات الخمس الباقية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى