كَيفَ يُمكِنُ للذكاء الاصطناعي غير المُقَيَّد أن يُؤدّي إلى حربٍ نوويّة

مع انتشار الأسلحة النووية في العالم هل يُمكِن التعويل على استخدام الذكاء الاصطناعي لمنع أو ردع أيِّ حربٍ نووية؟

شي جين بينغ وجو بايدن: إتفاقهما يجب أن يتقيد به زُعماء العالم.

مايكل أوهانلون*

اتفق الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي السابق جو بايدن في أواخر العام 2024 على أنه لا ينبغي أبدًا تمكين الذكاء الاصطناعي من اتِّخاذِ قرارٍ بشنِّ أيِّ حربٍ نووية. وقد تمَّ إرساءُ الأساس لهذا القرار السياسي الممتاز على مدى خمس سنوات من المناقشات في الحوار الثاني بين الولايات المتحدة والصين حول الذكاء الاصطناعي والأمن القومي الذي عقدته مؤسسة بروكينغز ومركز الأمن الدولي والاستراتيجية في جامعة تسينغهوا. من خلال فحص العديد من الحالات من التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة، يُمكنُ رؤيةُ ما كان ليحدث لو كان الذكاء الاصطناعي موجودًا في تلك الفترة وتم تكليفه بمهمّة اتخاذ القرار بإطلاق الأسلحة النووية أو منع هجوم نووي مُتَوَقَّع – وكان مُخطِئًا في اتخاذ القرار. في ضوءِ الأفكارِ والعقائد والإجراءات السائدة في ذلك الوقت، ربما كان نظام الذكاء الاصطناعي “المُدَرَّب” على تلك المعلومات (من خلال استخدام العديد من السيناريوهات الخيالية التي تعكس الحكمة التقليدية الحالية) قد قرَّرُ إطلاقَ أسلحةٍ نووية، مع نتائج كارثية.

لحسن الحظ، في الأمثلة التي سأتناولها -أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962، وأزمة الإنذار الكاذب في أيلول (سبتمبر) 1983، وتمرين “آيبل أرتشِر” (Able Archer) في تشرين الأول (أكتوبر) 1983- أظهر الإنسان وعيًا أكبر بالمخاطر وحسًّا سليمًا أفضل من الحكمة والمبادئ الموروثة في ذلك الوقت. سيكون من غير الحكمة أن نفترضَ أنَّ البشر سيُظهرون دائمًا ضبط النفس في مثل هذه المواقف، وأنَّ أنظمة الذكاء الاصطناعي المُدَرَّبة جيدًا قد تُوفّرُ مدخلات مفيدة للقرارات البشرية. مع ذلك، فمن المثير للقلق أنَّ البشر، عندما واجهوا الاحتمال الحقيقي للكارثة النووية، أظهروا مستوى من التفكير والرحمة لم تكن لتمتلكه الآلات المدرّبة بطُرُق “عقلانية” باردة في ذلك الوقت وقد لا تمتلكه في المستقبل.

ثلاث مناسبات قريبة لنهاية العالم نوويًا

بدأت أزمة الصواريخ الكوبية عندما علمت الاستخبارات الأميركية أنَّ الاتحاد السوفياتي كان يُرسِلُ صواريخ قادرة على حَملِ رؤوسٍ نووية وأسلحة نووية تكتيكية إلى كوبا على مدار العام 1962، في محاولةٍ لتحسين التوازن النووي مع الولايات المتحدة. ورُغمَ أن غالبية مستشاري الرئيس الأميركي آنذاك جون كينيدي لم تكن على علمٍ بالمدى الذي وصلت إليه الأسلحة النووية السوفياتية بالفعل على الأراضي الكوبية، فقد أوصت أالرئيس، بما في ذلك هيئة الأركان المشتركة، بشنِّ ضرباتٍ جوية تقليدية ضد المواقع السوفياتية. وكان من الممكن أن تؤدّي مثل هذه الضربات بسهولة إلى تصعيدٍ سوفياتي، ربما من خلال قادة الغواصات السوفياتية القريبة (المسلحة بطوربيدات ذات رؤوس نووية) ضد السفن الحربية الأميركية، أو من خلال القوات البرية السوفياتية في كوبا (ربما ضد القاعدة الأميركية في خليج غوانتانامو). واختار كينيدي مزيجًا من الحجر البحري لكوبا (لمنع أي أسلحة أخرى من الوصول إلى الجزيرة من طريق البحر) والديبلوماسية الهادئة من خلف الكواليس مع رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك نيكيتا خروتشوف والتي تضمّنت عروضًا بإزالة الصواريخ الأميركية من تركيا وعدم غزو كوبا أبدًا. تمَّ إقناعُ السوفيات بقبول هذه الصفقة وسحب صواريخهم وأسلحتهم النووية من كوبا ووقف أيِّ حشدٍ عسكري آخر على الجزيرة التي كانت تحت إدارة فيدل كاسترو وحكومته آنذاك.

في أزمة الإنذار الكاذب في أيلول (سبتمبر) 1983، رأى ضابط مراقبة سوفياتي يُدعى ستانيسلاف بتروف مؤشّرات من أنظمة الاستشعار بأنَّ الولايات المتحدة كانت تهاجم الاتحاد السوفياتي بخمسة صواريخ باليستية عابرة للقارات (ICBMs) من شأنها أن تنفجر ربما في غضون 20 دقيقة. في الواقع، ما التقطته أجهزة الاستشعار كانت انعكاسات لأشعّة الشمس من تشكيلاتٍ سحابية غير عادية؛ لم تكن أجهزة الاستشعار “ذكية” بما يكفي للتعرُّف على الانعكاسات على حقيقتها. وإدراكًا منه أنَّ أيَّ هجومٍ أميركي على الاتحاد السوفياتي سيكون بالتأكيد أكبر بكثير -لأنَّ الهجومَ الصغير لن يؤدّي إلّا إلى استفزاز الانتقام السوفياتي ولن تكونَ لديه سوى فرصة ضئيلة للتسبّب في أضرار جسيمة للقوات النووية السوفياتية- اختار بتروف بمفرده عدم تصعيد الموقف وعدم التوصية “بالانتقام” ضد الضربة الأميركية المزعومة. لا أحدَ يستطيعُ أن يجزُمَ ما إذا كان نظام الذكاء الاصطناعي كان سيتوصّل إلى الاستنتاج الحكيم نفسه، عندما كانت العقيدة السائدة تقول إنَّ أيَّ هجومٍ مُقبلٍ يتطلّبَ ردًّا فوريًا. في هذه الحالة، ارتجل إنسانٌ مسؤول، مستخدمًا الغريزة أكثر من البروتوكول الرسمي، موقفًا للوصول إلى القرار الصحيح عندما واجه احتمالًا لا يمكن تصوُّره باندلاع حرب نووية فعلية. ويبدو أنَّ جوهر بيتروف وشخصيته البشرية الأساسية أنقذا الموقف، على الأقل في هذه الحالة.

وبعد شهرين فقط في تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، شرع حلف شمال الأطلسي في مناوراتٍ عسكرية كبرى عُرِفَت باسم “آيبل آرتشر” خلال عامٍ متوتّرٍ للغاية في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. كان الرئيس رونالد ريغان قد ألقى خطابه عن “حرب النجوم” في آذار (مارس) من ذلك العام، بعد وقتٍ قصيرٍ على إعلانه بأنَّ الاتحاد السوفياتي إمبراطورية شريرة؛ ثم في أيلول (سبتمبر)، أسقط الطيارون السوفيات طائرة الخطوط الجوية الكورية رقم 007 عندما ضلت طريقها من طريق الخطَإِ فوق الأراضي السوفياتية، ما أسفر عن مقتل كل من كانوا على متنها. وكانت الولايات المتحدة أيضًا في طور الاستعداد لنشر صواريخ “بيرشينغ 2” القادرة على حمل رؤوس نووية في أوروبا، مع وقت طيران قصير للغاية إلى موسكو إذا ما تمَّ إطلاقها.

وعلى هذا، عندما أجرى حلف شمال الأطلسي مناورات “آيبل آرتشر”، كان القادة السوفيات قلقين من أن تُستخدَمَ كغطاءٍ للتحضير لهجومٍ حقيقي للغاية، ربما بهدف قطع رأس القيادة السوفياتية. وفي مرحلة ما من المناورات، قامت قوات حلف شمال الأطلسي بمحاكاة الاستعداد لهجومٍ نووي من خلال وضع رؤوس حربية وهمية على طائراتٍ قادرة على حمل رؤوس نووية. وشهدت أجهزة الاستخبارات السوفياتية الاستعدادات ولكنها لم تتمكّن بالطبع من معرفة أنَّ الرؤوس الحربية كانت مُزَيَّفة. وعلى هذا فقد “استجاب” القادة السوفيات بتجهيزِ أنظمةٍ قادرةٍ على حملِ رؤوسٍ نووية برؤوسٍ حربية حقيقية. وبدورها شهدت أجهزة الاستخبارات الأميركية هذه الاستعدادات ــ ولكنَّ الجنرال الماهر في سلاح الجو الأميركي ليونارد بيروتز أدرك ما كان يحدث وأوصى رؤساءه بأنَّ الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تردَّ بوضع رؤوس حربية حقيقية على أنظمتها. ولا أحد يستطيع أن يجزم ما إذا كان هذا من شأنه أن يستفزَّ أحد الجانبين أو الآخر لشنِّ ضربةٍ استباقية؛ ولكن قرب الأسلحة من بعضها البعض، والمخاوف المتبادلة من هجومٍ مفاجئ ساحق، كان من شأنه أن يجعل مثل هذا الموقف بالغ الخطورة.

هل كان الذكاء الاصطناعي ليحقق نتائج أفضل؟

في كل الحالات الثلاث، ربما كان ليختار الذكاء الاصطناعي بدء حرب نووية. فخلال أزمة الصواريخ الكوبية، اعتبر المسؤولون الأميركيون أنَّ نصف الكرة الغربي يُشكّلُ ملاذًا آمنًا من القوى المُعادية، وكان الرأي المُتَّفَق عليه لصالح منع أيّ تعدٍ سوفياتي أو شيوعي. وكانت الولايات المتحدة، في العام الذي سبق، حاولت من خلال وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية العمل مع المنفيين الكوبيين لإطاحة كاسترو. من المؤكد أنَّ وضع الأسلحة النووية السوفياتية على مسافةٍ تقلُّ عن مئة ميل من الشواطئ الأميركية كان ليثير تفكيرًا أميركيًا سائدًا حول ما هو مقبول وما هو غير مقبول. وبما أنَّ أجهزة الاستشعار لم تكن قادرة على تحديد غياب الرؤوس الحربية النووية السوفياتية، فإنَّ النهج “الحذر” القائم على عقيدة ذلك اليوم كان ليقضي بالفعل بالقضاء على تلك القدرات السوفياتية قبل أن تُصبحَ جاهزةً للعمل. إن الرئيس الأميركي الحقيقي الوحيد ــالذي ازدادت غرائزه الحذرة بعد أن شهد المعارك في الحرب العالمية الثانية وشاهد البيروقراطية الأميركية وهي تُفسِدُ هجوم خليج الخنازير على كوبا في العام الذي سبق ــ كان يعتقد خلاف ذلك. ويوضح هذا المثال أنَّ الحظرَ المفروض على بدء الذكاء الاصطناعي لحربٍ نووية ينبغي أن يشملَ الحالات التي قد تُستَخدَمُ فيها الأسلحة التقليدية لضرب أسلحةٍ أو أنظمة أسلحة قادرة على حَملِ رؤوسٍ نووية.

ومع أزمة الإنذار الكاذب في أيلول (سبتمبر) 1983، كان لزامًا على شخصٍ ذكي أن يُدرِكَ عدم احتمالية أن تُهاجِمَ الولايات المتحدة بعددٍ قليل من الرؤوس الحربية. والواقع أنَّ ضابطًا مختلفًا، أو مركزَ تحكُّمٍ مُوَجَّه بالذكاء الاصطناعي، كان ليُقدِّر على الأرجح أنَّ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الخمس كانت تحاول توجيه ضربة قاضية ضد القيادة، أو ربما كان ليتوصّل إلى استنتاجٍ خاطئ بشأن ما كان يجري. وربما كانت النتيجة ضربة “انتقامية” كانت في الواقع ضربة أولى، وكان من المرجح أن تُسفِرَ عن ردٍّ نووي أميركي حقيقي للغاية.

لكن في حالة “آيبل آرتشر”، وبما أنَّ المسؤولين الأميركيين كانوا يعلمون أنهم كانوا يجرون تدريبات عسكرية فحسب، وكانوا يعلمون أنَّ السوفيات كانوا يعلمون ذلك، فلا بُدَّ أنَّ كثيرين قد أُصيبوا بالذهول عندما رؤوا السوفيات يضعون رؤوسًا حربية حقيقية في وضعية الإطلاق. وربما استنتج معظمهم أنَّ السوفيات كانوا يستخدمون تدريبات حلف شمال الأطلسي كوسيلةٍ لخداع مسؤولي الحلف وحملهم على خفض حذرهم في حين كان الاتحاد السوفياتي يستعدُّ لهجومٍ حقيقي للغاية. ومن المرجح أن تُوصي أنظمة الذكاء الاصطناعي المُدَرَّبة على المبادئ والإجراءات القياسية السائدة في ذلك الوقت على الأقل بإنذارٍ نووي أميركي. وبما أنَّ القوّتَين العظميين كانتا تُخطّطان لشنِّ ضرباتٍ أولى ضخمة في تلك الأيام، بهدف تقليص احتمالات الجانب الآخر في شنِّ ضربةٍ ثانية قوية، فإنَّ الموقف الذي يكون فيه كلٌّ من الجانبين في حالة تأهُّبٍ قصوى للحرب قد يكون خطيرًا للغاية.

نعم، من الممكن أن يكون الذكاء الاصطناعي المُدرَّب بشكلٍ جيدٍ للغاية قد قرر أنَّ ضبطَ النفس أمرٌ ضروري في مثل هذه الحالات ــوقد يفعل ذلك في موقفٍ مستقبلي ــ ربما بشكلٍ أفضل حتى من بعض البشر. ومن الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتقييد التفكير والسلوك البشريين. ولكن هذه الأمثلة تؤكد مدى خطورة الوثوق في الآلة لاتخاذ القرار الأكثر أهمية في تاريخ البشرية. لقد اتخذ شي وبايدن القرار الصحيح، وينبغي للقادة في المستقبل أن يلتزموا به.

  • مايكل أوهانلون هو أول حامل لكرسي فيليب إتش نايت للدفاع والاستراتيجية ومدير الأبحاث في برنامج السياسة الخارجية في مؤسسة بروكينغز، حيث أنه متخصصٌ في استراتيجية الدفاع الأميركية والميزانيات، واستخدام القوة العسكرية، وسياسة الأمن القومي الأميركية.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى