الغني الفكريُّ الطالع من طرابلس لبنان
هنري زغيب*
في دُرْجة سائدةٍ سائرة، أَن تُنادى طرابلس بــ”العاصمة الثانية” تاليةً جوهرتَنا بيروت. غير أَنني، في غير مناسبةٍ منبرية أَو كتابية، أَبدَيتُ ميلي إِلى وقْف تلك المناداة ورفضِ اعتبار طرابلس ثانيةً بعد أُولى. فهذا التصنيفُ لا يشبه طرابلس التي هي أُولى بجميع التصنيفات، وكلُّ مدينةٍ في لبنان هي أُولى في ميزاتها وعطاءَاتها اللبنانية الخيِّرة.
وعلى ذكْر العطاءات، تحظى طرابلس بهمَّةٍ نادرة من ابنِها ناصر جَرُّوس المتنسِّك لها بَنَويًّا ووطنيًّا وتاريخيًّا وسياحيًّا لمجدها الخالد. فقبْل عامَين أَصدر كتابَه/السفْر “طرابلس في عيون أَبنائها والجوار”، وهذا الأُسبوع، تعاوُنًا مع “مؤَسسة الصفدي”، أَصدر سِفْره الثاني “طرابلس حاضنةُ الثقافة لكل الأَزمان”، في عنوان تستاهله طرابلس، لؤْلؤَتُنا المتوسطية الخالدة.
قلتُ إِنه سِفْر ولم أُبالغْ. فمدى 416 صفحة من الحجم الموسوعي الكبير الحاضنِ نصوصًا وصُوَرًا ووثائق، شَهَرَ خمسون باحثةً وباحثًا مرآةَ طرابلس في ثلاثة فضاءات: الأَول “طرابلس منارة العلْم والثقافة” ويضمُّ لُمَعًا عمَّا فيها من معالِم الحياة الفكرية والثقافية والفنية وما فيها من مؤَسسات ثقافية ناشطة فاعلة مؤَثِّرة. والفضاء الثاني مخصَّصٌ للمعالم الدينية والسياحية وما أَبهى تَنَوُّعَها في طرابلس. وتسطع في الفضاء الثالث رؤًى مستقبليةٌ لِما ستكونُه طرابلس أَو يمكنُ أَن تكونَه لتتواصل مسيرتُها اللؤْلؤيةُ على جبين لبنان وعلى خصر المتوسط.
كلُّ هذا العطاء تناوَلَهُ الباحث الأَكاديمي المعمِّق الدكتور جان جبور محرِّرًا نصوصَه ومشرفًا على تنسيقِها، ولافتًا إِلى أَن هذا السفْر الجديد ليس تكرارًا لِما قد يكون ورد في الكتاب السابق، بل هو يحتفظُ بفرادته لِما فيها من “إِضافات تُسهم في تكوين صورة حقيقية عن المدينة بكل إِشراقاتها”. وإِنه كذلك فعلًا، هذا الكتاب، بما يقدِّم من مشهدٍ عن الحياة الثقافية لدى مسيرة المدينة في حقول الأَدب من نتاجٍ أَدبي وشعري، وفي حقول العلْم من جامعات ومدارس، وفي الفضاء الديني من مساجدَ وكنائس، وفي المدى السياحي من خانات وحمَّامات وأَسواقٍ قديمةٍ وجُزُر، وفي مروحة غنية من الفنون بين صالات سينما ومسرح ونتاج تشكيلي رسمًا ونحتًا ونتاجٍ موسيقي وظاهرةٍ لافتة في التصوير الفوتوغرافي والمنتديات الثقافية والحِرَف التراثية والمهَن، وكلِّ ما يشكِّل هوية طرابلس الوطنية والثقافية والحضارية في الماضي المجيد كما في هذا الزمن وفي كل زمن.
في مقدمة الكتاب للناشر ناصر جَرُّوس – بعد إِهدائه إِياه إِلى شقيقته الراحلة رندة الْكانت شريكته في إِعداد الكتاب كما الكتاب السابق – بدا مغتبطًا لخروج الكتاب برنامجًا متكاملًا لطرابلس الغد، لأَن “كلَّ من ساهم فيه كتَبَ بشغَف وحب ورؤْية مستقبلية تعكس ما في طرابلس من مقوِّمات ثقافية وإرثٍ عريقٍ يجعلُها مدينةً حاضنةً منارةَ الثقافة في كل الأَزمان”. لذا يعتبر ناصر جروس أَنَّ طرابلس “على رغم ما لحِق صورتَها من تشويه مقصود، تبقى مدينةً متميزةً بآثارها وعمرانها ومهارات مهنييها وحرفييها ومثقفيها وفنانيها ومربِّيها، وبأَرَج ليمونها الذي ما زال يعبق في كل زاوية وشارع”.
وإِنما هذا الأَرجُ الحضاري هو الذي يُعلن أَن طرابلس منارةٌ لبنانيةٌ خالدةٌ تُنير وجهَ لبنان الحضارة، ويمتدُّ نورُها على كل واحة تتشرَّف بأَن تكون على الغنى الفكري الذي تتميَّز به طرابلس لبنان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib