لبنان: اتفاقُ وَقف إطلاقِ النار على مِحَكِّ انتخابِ الرئيس
الدكتور انطوان حدّاد *
مضى أربعون يومًا على توقيع تفاهُم وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”، وما تَبَقّى من مهلةِ التنفيذ لا يتجاوز الثلاثة أسابيع يُفتَرَضُ خلالها أن يكونَ الطرفان قد أخليا تمامًا، على الأقل، منطقة جنوب الليطاني حتى الخط الأزرق. نقولُ “على الأقل” لأنَّ الاتِّفاقَ يتضمّنُ التزاماتٍ أخرى من غير المعروف بدقّة موعد تنفيذها، ومنها خصوصًا ما يَتّصِلُ بوقفِ التحليقِ الإسرائيلي، وبالقرار ١٥٥٩ حولَ حلِّ التنظيمات المسلَّحة، والقرار ١٦٨٠ حول حرمة الحدود الدولية.
وإذا كانت ثمّةُ تطوّرات دراماتيكية أحاطت أخيرًا بالقرار ١٦٨٠ سوف تساعد بلا شك على تطبيقه كأمرٍ واقع بعد سقوط نظام بشار الأسد والانتكاسة الاستراتيجية التي حلّت بمُجملِ الوجود الإيراني في سوريا، فإنَّ تنفيذَ القرار ١٥٥٩ ما زال يفرضُ نفسه بقوة على جدول الأعمال رُغمَ عدم وضوح آليةِ وروزنامةِ التطبيق.
بالعودة إلى جنوب الليطاني، وهو الحدُّ الأدنى المطروح للتنفيذ مُباشرةً، لا شيءَ ظاهرًا حتى الآن يوحي بجدّيةِ التطبيق، ومع تسجيلِ خروقاتٍ شبه يومية من الجانب الإسرائيلي. بعضُ هذه الخروقات يرقى إلى توغُّلاتٍ وغاراتٍ جوية تُضاهي عنف ما قبل وقف إطلاق النار.
مَن يتحمّل مسؤولية المُراوَحة في تنفيذِ الاتفاق؟ وما هي السيناريوات المُحتَملة بعد 27 كانون الثاني (يناير)، موعد انتهاء الهدنة التي تستمر 60 يومًا وفق الاتفاق؟
“حزب الله”، الذي قبل بوقف إطلاق النار، ربما كخيارٍ وحيدٍ مُتاح بعد أن تكبّدَ خسائر كبيرة في القيادة والعتاد والأفراد، يبدو أنه يُراهن على هذه الاستراحة القصيرة لإعادة بناء هيكليته وتنظيم صفوفه. هذه الاستراتيجية تُتيحُ له ايضًا إعادة تقييم خسارته للعمق الجغرافي وقواعده الخلفية وخطوط إمداده بعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
أمّا إيران، فهي، كما يبدو، في طورِ إعادةِ تقييمِ دور “حزب الله” في هذا السياق الجديد الذي يَتَّسِمُ بفقدانها الممر السوري نحو البحر الأبيض المتوسط ولبنان والحدود الإسرائيلية.
بالنسبة إلى إسرائيل، يبقى التأثير الدقيق للتغيُّرِ الجيوسياسي في سوريا على حساباتها تجاه لبنان غير واضح أيضًا. فمن غير المعروف بدقّة بعد ما إذا كانت إسرائيل تعتبرُ تاريخ 27 كانون الثاني (يناير) الجاري محطّةً حاسمة لإنهاء “آخر الحروب مع لبنان”، أو فرصةً لمواصلة مهمّتها في تفكيك “حزب الله”، والتي بدأت في أيلول (سبتمبر) بتفجير أجهزة اتصالات الحزب ثم اغتيال زعيمه السيد حسن نصر الله. في هذا السياق، تتشابك الاعتبارات الاستراتيجية الكلاسيكية بشأن التهديدات المُتبقّية التي يُشكّلها “حزب الله”، مع حساباتٍ شخصية لرئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، تتعلّقُ بمستقبل دوره السياسي، وعوامل دولية مُرتَبطة بتسلُّم دونالد ترامب مهامه رسميًاً في موعدٍ يسبقُ بأسبوع موعد انتهاء الهدنة في لبنان.
لهذه الأسباب كلها، تحتفظ إسرائيل، داخل إطار الاتفاق وخارجه، بجميع الوسائل التي تُمكِّنها من استئناف الحرب ضد “حزب الله” ولبنان إذا رغبت في ذلك.
داخل لبنان، تتقاطعُ حساباتُ تنفيذِ الاتفاق مع حساباتِ الصراعِ على رئاسة الجمهورية، وحسابات مَن يملأ هذا المنصب الشاغر منذ أكثر من سنتين. ففيما يُفتَرَضُ بالجيش اللبناني أن يتولّى هو تنفيذ الاتفاق عبر تسلُّمِ مراكز ومواقع وعتاد “حزب الله” جنوب الليطاني، لا تُوجَدُ حتى الآن دلائل حسّية كافية على حصول هذا الأمر. البعضُ يعزو غياب الدلائل الملموسة إلى مقتضيات حفظ ماء وجه الحزب تسهيلًا للمهمّة التي يُقالُ أنها تجري على قدمٍ وساق. فالحزب هو من كبار الناخبين في البرلمان ليس من حيث عدد النواب فحسب بل من حيث احتكاره مع حلفائه، وأبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، تمثيل الطائفة الشيعية في البرلمان.
البعضُ الآخر يعزو غياب الدلائل إلى بطءٍ حقيقي في التنفيذ بانتظار حسم معركة رئاسة الجمهورية فيما أبرز المرشحين غير المُعلنين لتبوُّؤ هذا المنصب هو قائد الجيش نفسه العماد جوزيف عون.
من جهة الحكومة، فإنَّ امتناعها، والسلطة السياسية عمومًا، عن اتخاذ القرارات التوجيهية الحاسمة لتنفيذ الاتفاق، ليس أقل أهمّية في ما يتعلق ببطء التنفيذ. فرُغمَ المواقف المُعلنة لرئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، وزياراته المُتكرّرة للجنوب دعمًا لمهمّة الجيش، لم تَصدُر عن مجلس الوزراء مُجتَمِعًا قراراتٌ تنفيذية واضحة تدعم هذا التوجُّه، لا بل أنَّ بعضَ أعضائه المحسوبين على الحزب عادوا إلى نغمة الإشادة ب”المقاومة” بوصفها الخيار الوحيد أمام لبنان.
هذا الموقف المُلتبس والمُراوغ حيال موجبات تنفيذ الاتفاق يضعُ لبنان أمام مخاطر لا يمكن تقدير مداها في حال قررت إسرائيل مُعاودَةَ حربها المفتوحة، التي قد لا تقتصرُ هذه المرة على “حزب الله”، وربما بغطاءٍ دولي قد لا يعفي لبنان الرسمي من المسؤولية.
في البرلمان وبين النواب عمومًا، وبعد تحديد موعد ٩ كانون الثاني (يناير) الجاري لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية، تراجَعَ شَكلًا الاهتمامُ المباشر باتفاقِ وَقفِ إطلاق النار الذي لم يُعرَض أصلًا للتصويت عليه، مثله مثل اتفاق الترسيم البحري في العام ٢٠٢٢، وذلك في نموذجٍ مُتكرّر لاحتكار القرارات الاستراتيجية للدولة اللبنانية، ومن ضمنها ما يتعلق بالحرب والاتفاقات الدولية، ضمن حلقةٍ ضَيّقة تتمحوَرُ فعليًا حول “حزب الله” وخارج الآليات الدستورية.
ويُفهَمُ انتقالُ اهتمام النواب من وقف إطلاق النار إلى انتخاباتِ الرئاسة باعتبار أنَّ جلسةَ ٩ كانون الثاني (يناير) ستكون مفتوحةً وبدوراتٍ عدة، خلافاً للجلسات السابقة، وآخرها كان في حزيران (يونيو) ٢٠٢٣، والتي كانت تُعَطَّلُ كلّها بتطيير النصاب بعد الدورة الأولى، ما يرفعُ من احتمالِ انتخابِ رئيسٍ للجمهورية في تلك الجلسة.
وإذا كانت دقائق تنفيذ الاتفاق ليست من اختصاصِ مجلس النواب، فإنَّ موقفَ مرشَّحي الرئاسة المُحتَمَلين من هذا الاتفاق ونظرتهم إلى تنفيذه وقدرتهم على الالتزام به تُشكّلُ كلّها عناصرَ أساسية في موقف الكتل النيابية من هؤلاء المرشحين.
هذا التداخل، سواء من حيث المضمون أو من حيث التوقيت، بين اتفاقِ وقف إطلاق النار وجلسة انتخاب الرئيس تجعل من الاتفاق، بمعنى من المعاني، “ناخبًا رئيسًا” في هذا الاستحقاق. في المقابل، فإنَّ شخصَ الرئيس الذي سيُنتَخب في ٩ كانون الثاني (يناير)، إذا أثمرت الجلسة بالطبع، سيُحدّدُ إلى حدٍّ ما مصير الإتفاق.
أمّا عدم انتخاب رئيس في تلك الجلسة، أو قبل نهاية الشهر الحالي في أبعد تقدير، واستمرار غياب سلطة شرعية كاملة الأوصاف في لبنان، فهو احتمالٌ يضعُ مجمل اتفاق وقف إطلاق النار في مهبِّ الريح.
- الدكتور أنطوان حدّاد هو باحثٌ لبناني في السياسات العامة، ونائب رئيس جامعة القديس جاورجيوس في بيروت. له مؤلفات عدة منها كتاب “مسيرة الانخراط في الحرب السورية”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره بالفرنسية في صحيفة “لوريان-لو جور” (بيروت).