أيها اللبنانيون، إحذروا أصواتَ الفتنة الآتية من واشنطن

أثارت زيارةُ المبعوث الأميركي توم برّاك إلى بيروت، برفقة شخصياتٍ سياسية وديبلوماسية بارزة، جدلًا واسعًا في الأوساط اللبنانية. هذه الزيارة لم تحمل حلولًا فعلية للأزمات المعقدة، بل كشفت عن توجُّهاتٍ أميركية أكثر ميلًا نحو فرضِ الإملاءات والضغط العسكري.

السفير توم براك: هل انتهت مهمته؟

مايكل يونغ*

ما الذي يُمكننا استنتاجه من الزيارة الأخيرة إلى بيروت التي قام بها المبعوث الأميركي السفير توم برّاك، برفقةِ المبعوثة السابقة التي يبدو أنها لا تزال مبعوثة، مورغان أورتاغوس، والسيناتورَين ليندسي غراهام وجين شاهين والنائب جو ويلسون؟

من حيث الشكل، أحدثَ هذا الوَفدُ ضجّةً كبيرة. قامت أورتاغوس بتصفيفِ شعرها لدى مُصفّف شعرٍ محلّي بارز، ونُشر الفيديو لهذا الحدث على وسائل التواصل الاجتماعي. أما برّاك فقد وصف الصحافة اللبنانية بأنها “حيوانية”، ما أثارَ موجةً من الجدل. وغراهام، بعد أن تحدّث إلى اللبنانيين بنبرةٍ مُتعالية، أضاف: “لا تسألوني عمّا ستفعله إسرائيل حتى تنزعوا سلاح “حزب الله”. إذا نزعتُم سلاح “حزب الله”، يمكن أن يكون لدينا حوارٌ جيد. وإذا لم تفعلوا، فالحوارُ سيكونُ بلا معنى”.

فما الخلاصة من هذه الزيارة الكارثية؟ عندما يسافر مسؤولو إدارة ترامب إلى لبنان، فإنهم إلى جانب استمتاعهم بالمظاهر الترفيهية، يتجاهلون تعقيدات البلد ويفضّلون الإملاءَ بدل الاستماع. أما في القضايا الجوهرية، فلم يُقدّم الأميركيون شيئًا. برّاك كان من المفترض أن يعودَ من إسرائيل وقد حصلَ على موافقةٍ إسرائيلية لتسهيل خطته لنزع سلاح “حزب الله”، لكن الإسرائيليين أبلغوه أنهم لن يُخفّفوا من هجماتهم في لبنان ولن ينسحبوا من المناطق المحتلّة جنوبًا. وقد أكّدت تعليقات غراهام أنه لن تكونَ هناك معاملة بالمثل بين الخطوات اللبنانية والإسرائيلية، وهو ما ألمحَ إليه برّاك سابقًا بأنه ممكن: “على لبنان نزع سلاح “حزب الله” أوّلًا، وعندها فقط ستقدّم إسرائيل تنازلات”.

النتائج كانت واضحة: أوّلًا، إنَّ الرحلة إلى لبنان كانت فاشلة منذ البداية. لذلك لم يكن مستغربًا أن تعتبرَ الحكومة اللبنانية خطّة برّاك، بما تتضمّنه من جدول زمني لنزع سلاح “حزب الله” بحلول نهاية العام، لاغية وباطلة، حتى وإن كانت أولوية الدولة في فرض احتكار السلاح لم تتغير. ثانيًا، إنَّ برّاك لم يَعُد محاورًا صالحًا، إذ لم يكن يحظى بدعمٍ من الإدارة الأميركية يَفرُضُ على إسرائيل التنازُل وقبول شروط خطته. ومن غير المُستبعَد أن يتنحّى قريبًا عن موقعه كمبعوثٍ مؤقت للبنان، فيما توحي عودة أورتيغاس إلى بيروت هذا الأسبوع، من دون برّاك ولكن برفقة القائد الجديد للقيادة المركزية الأميركية، بأنها عادت لتتولّى زمام الأمور، بمباركةٍ إسرائيلية كاملة. وليس مفاجئًا أن تكونَ زيارتها مُتَمَحورة حول الشؤون الأمنية.

هل سيكون هذا مفاجئًا؟ أثناء وجوده في إسرائيل بعد رحلته إلى بيروت، أشار غراهام إلى هذا الاتجاه بقوله: “إذا لم نتمكّن من التوصُّلِ إلى حلٍّ سلمي لنزعِ سلاحِ “حزب الله”، فعلينا النظر في الخطة البديلة. والخطة البديلة هي نزع سلاح “حزب الله” بالقوة العسكرية. ما لانقبل فيه هو عدم نزع سلاح الحزب. أفضّل أن يكون ذلك من خلال العملية السياسية… لكن السماح ل”حزب الله” بامتلاك أسلحة ثقيلة أمرٌ غير قابل للتفاوض، ولا مستقبل للبنان بوجودها، والتهديدات جسيمة للغاية لدرجة لا تسمح بحدوث ذلك”.

تتجه الولايات المتحدة بسرعة نحو تفضيل العمل العسكري ضد “حزب الله”. وقد لمس قائد الجيش رودولف هيكل هذا التوجه بالتأكيد عندما هدّدَ أخيرًا بالاستقالة بدلًا من الضغط عليه لاتخاذ مثل هذه الخطوة. ونظرًا لقربه من الرئيس جوزيف عون، فمن المشكوك فيه أن يكون هو والرئيس ينظران إلى الأمور بشكلٍ مختلف. إذا اتفق قائدا الجيش الحالي والسابق على أنَّ الحلَّ العسكري سيكون كارثيًا، فلا بدَّ أنهما يعرفان شيئًا لا يعرفه الأميركيون. ولكن على ما يبدو لا شيء يستطيع أن يُثني أو يُقنِع  إدارة ترامب، ولا يمكن أن نتوقّعَ منها أن تُدركَ أنَّ رفضَ إسرائيل الانضمام إلى خطة برّاك ربما كان يهدفُ إلى دفع الجيش إلى مواجهةٍ عنيفة مع “حزب الله”، والتي قد تستفيد منها إسرائيل.

“حزب الله” حتمًا سيقاوم ويرفض نزع سلاحه المفروض، وستقف غالبية الطائفة الشيعية إلى جانبه. جميع الدلائل من الماضي تشير إلى أنَّ أيَّ عملية عسكرية ستتعثّر وتُغرق سريعًا البلاد في مأزق. هذا هو الدرس المستفاد من محاولتَين سابقتين للجيش اللبناني لنزع سلاح الميليشيات – في العامين 1983 و1984، عندما حاول نزع سلاح الميليشيات الموالية لسوريا بدعمٍ أميركي، ومرة ​​أخرى في العام 1990، عندما حاول هزيمة “القوات اللبنانية” المسيحية. في الحالتين، هاجم الجيش ثم وقع في حالة جمود، ليقصف مناطق مدنية ويوسّع عملياته بلا جدوى. النتيجة كانت كارثية، والجيش خرج أضعف مما كان.

كان أعضاء القيادة العليا الحالية للجيش اللبناني، وحتى جوزيف عون نفسه، ضباطًا شبابًا في ذلك الوقت، ويدركون مدى حماقة تكرار أخطاء الماضي. وتُشكّل معركة نهر البارد الطاحنة في العام 2007 أحدث تحذيرٍ لما قد يحصل. يُدركُ الجيش أيضًا أنه لا ضمانة لبقائه مُوَحَّدًا في مواجهة مثل هذه الضغوط، ولن يكونَ قادرًا على إدارة الغضب اللاحق في المجتمع الشيعي، والذي قد يتحوّلُ إلى حالةٍ من التمرُّدِ المُستمِرّ.

والأسوأ، إذا تدخّلت إسرائيل ضد “حزب الله”، فماذا سيفعل الجيش؟ هل سينحاز إلى عدوٍّ ضد مواطنيه؟ من الصعب جدًا تخيّل ذلك، حتى لو حلم الأميركيون بمثل هذا السيناريو. في الواقع، لن يؤدّي هذا التطوُّر إلّا إلى تعزيز سردية “حزب الله” بأنَّ الجيش والحزب يجب أن يتّحِدا ضد إسرائيل.

بكلِّ أبعاده، سيكون اللجوء إلى القوة هو الخيار الأسوأ على الإطلاق للبنان. لن ينجحَ، وسيتسبّبُ في سقوط العديد من القتلى، لا سيما بين المدنيين، وسيُعيدُ إحياء العداوات الطائفية. ويُمكننا أيضًا أن نؤكّد أنه بمجرّد أن تبدأ هذه العملية في فقدان زخمها، سيتخلّى الأميركيون عن اللبنانيين، كما فعلوا في العام 1984، وكما يفعلون دائمًا بعد دفع الدول إلى حروبٍ عبثية غير حاسِمة.

ومع ذلك، ليس غراهام وحده لديه هذا الحماس للحلّ العسكري. إذ يُعربُ خبراءٌ مؤثّرون في مراكز الأبحاث عن مشاعر مماثلة. كتب ديفيد شينكر، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب الأولى، أخيرًا: “في النهاية، قد يُضيّعُ لبنان فرصةً أخرى لا تُتاح إلّا مرةً واحدةً في كل جيلٍ لسيادة الدولة، سواءً بالتردّد في تجنُّب المواجهة المسلحة أو بإثبات عدم كفاءته في أداء المهمة العسكرية على الرُغم من سنواتٍ من التدريب والتمويل الأميركيين. ومع ذلك، ينبغي على إدارة ترامب مواصلة ضغطها من خلال الاستفادة من التمويل الأميركي [للقوات المسلحة اللبنانية]، والتهديد بفرض عقوبات على السياسيين المُعرقلين، وربط إعادة الإعمار بتنفيذ خطة نزع السلاح”.

شينكر ليس مُخطئًا عندما يقول إنَّ لبنان قد يُضيّع فرصةً، لكنه مُخطئٌ في افتراضه أن هذا سيكون أسوأ ما يحدث. إنَّ حربًا أهليةً تُشعلها الولايات المتحدة ضد “حزب الله” وتُؤدّي إلى طريقٍ مسدودٍ قاتلٍ ودموي هي أخطر بكثير من التقدُّم ببطءٍ والتوصّل في النهاية إلى تسويةٍ مؤقتةٍ مع الحزب تتجنّب الصراع الداخلي. هناكَ من يَتوقُ إلى حلولٍ سريعة، وهو أمرٌ مُبَرَّر، ف”حزب الله” قد أثقل كاهل لبنان وبلاه بمصائب كثيرة لسنواتٍ طويلة. لكنَّ الأميركيين كثيرًا ما اندفعوا وراءَ تفاؤلٍ مُفرِط في حروبٍ سابقة، وانتهى الأمر بمآسٍ كُبرى. ولا أحدَ من اللبنانيين اليوم مُستَعدٌّ لدفع ثمن هذه المغامرات غير المسؤولة.

من المفيد للأميركيين أيضًا أن يُدركوا حقيقةً واضحة في لبنان. إنَّ الطائفة الشيعية اليوم هي قلقة بشأن سوريا أكثر من إسرائيل. فقد تولّى السلطة في دمشق نظامٌ سنّي سلفي، يضمُّ عددًا لا بأس به من الجهاديين. وقد ساعد ذلك على توحيد الشيعة حولَ شعورٍ مُشتَرك بالقلق الطائفي. إنَّ الأميركيين متمسّكون بالموقف الإسرائيلي لدرجةٍ تمنعهم من التفكير مَليًّا في هذه المخاوف، ولكن من الأفضل لهم أن ينتبهوا جيدًا. فالهواجس الطائفية لطالما كانت مُحرّكًا أساسيًّا للديناميكيات في لبنان، ولا يمكن للطائفة الشيعية، تمامًا كما هو الحال مع سائر الطوائف اللبنانية، أن تغفلَ عن مُراعاة هذا الأمر في أيِّ قراراتٍ تتعلّقُ بأسلحتها.

قد يكونُ لبنان في مأزقٍ صعب حقيقي، لكنَّ الأمورَ ستكون أشدَّ ضررًا على البلاد إذا استمع قادته إلى صيحات االفتنة الصادرة من واشنطن. إذا كانت إدارة ترامب عاجزة حتى عن إجبار إسرائيل على الانسحاب من تلة أو تلّتَين في جنوب لبنان للمضي قدمًا في خطة مبعوثها لنزع السلاح، ناهيك عن احترام اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل الذي تفاوض عليه المسؤولون الأميركيون بأنفسهم، فكيف يمكن لأيِّ شخصٍ في لبنان أن يثقَ بالولايات المتحدة؟ يُعامَلُ لبنان كأنه بلدٌ مهزوم في حرب، وربما يكون هذا صحيحًا إلى حدٍّ ما. لكنَّ الدخولَ في صراعٍ أهلي لإرضاء واشنطن وتل أبيب هو انتحارٌ سياسي. لا سببَ على الإطلاق ليُدَمِّر اللبنانيون أنفسهم بذريعةِ إنقاذِ أنفسهم.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى