إشكاليّةُ السِلمِ والحَربِ بَينَ إيران والغرب

يشكّل تاريخ العلاقات الأميركية–الإيرانية أحد أكثر الملفّات تعقيدًا وتشابُكًا في السياسة الدولية الحديثة. فمنذ بداياتها في القرن التاسع عشر، مرورًا بحقبة النفوذ الأميركي المطلق في عهد الشاه، وصولًا إلى القطيعة الحادة بعد الثورة الإسلامية عام 1979 وما تلاها من صراعات، ظلّت هذه العلاقة تتأرجح بين الوعود والأوهام، وبين السلم المعلَّق والحرب المحتملة.
المسلسل الذي بين أيدينا يسعى إلى تتبّع مسار هذه العلاقة، من جذورها الثقافية والدينية والتاريخية. والحلقة الثالثة تضيء على عزلة الشاه محمد رضا بهلوي وقصة مرضه المخفي، وتخلي حلفائه عنه، والتي تكشف كيف امتزجت السياسة بالسرطان، لتصنع نهاية
ً مأساوية لرجلٍ حكم بلدًا على فوهة بركان.

قمة غواديلوب ضمَّت من اليمين: رئيس الحكومة البريطانية جايمس كالاهان، الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، الرئيس الأميركي جيمي كارتر، والمستشار الألماني هلموت شميدت.

(3)               

ماتَ الشاه…عاشَ الإمام

 

سليمان الفرزلي*

مات شاه إيران محمد رضا بهلوي، كما عاش، وحيدًا لا عزاءَ لهُ.

أُخفي مرضه بالسرطان عنه، وعن الإيرانيين، وعن بقيّة العالم، ظنًّا من مساعديه المُقرَّبين، ربما، بأنَّ كَشْفَ سرطانه الجسدي، يُفاقِمُ السرطان السياسي في البلاد. وهناكَ في التحليلات الطبية، مَن قال إنَّ التكتُّمَ على مرض الشاه، كانَ من العوامل الأساسية التي أدَّت إلى تسريعِ موته، لأنه لم يَحصَل على العلاجِ الصحيح في وقتٍ أبكر.

تلك السرِّية، لأسبابٍ سياسية، عجَّلت في وفاة الشاه وهو في الستين من العمر، ويُقال إنَّ التقارير الطبّية الأوَّلية في ربيع العام 1974، خصوصًا منها تقارير الأطبّاء الأجانب، قد تمَّ تَحريفُها لإخفاءِ المرضِ عن الشاه نفسه، بحيثُ أنّه لم يعلم بحقيقةِ مرضه إلّا في العام 1978، بعد فوات الأوان طبِّيًا وسياسيًّا.

قبل وفاته بخمسة أشهر، وتحديدًا يوم 17 كانون الثاني (يناير) 1980، أجرى الصحافي البريطاني الراحل السير دايفيد فروست مقابلةً أخيرة مع الشاه، اعترفَ له فيها “ملك الملوك” بعزلته، على النحو التالي:

فروست: أن تكونَ “الشاهنشاه”، لا بُدَّ أنّكَ كُنتَ في عُزلة.

الشاه: نعم، إنها حالةٌ خاصة، إذا جازَ التعبير.

فروست: بأيِّ معنى هي حالةٌ خاصة؟

الشاه: أقصُدُ، كما قُلت أنت، “ملك الملوك”.

فروست: تعني، أنّكَ كُنتَ وحيدًا لأنه ليس هناك مَن هو أرفع منك لترجع إليه؟

الشاه: لا… هنالك الله دائمًا.

إنَّ إدخالَ “الله” في مُعادَلاتِ السلطة، إن من الشاه، أو من خصمه الإمام العنيد، له وَجهان للتفسير في هذه الحالة:

تفسيرُ المتنبي القائل: وما يدٌ إلّا يدُ الله فوقها / وما من ظالمٍ إلَّا ويُبلى بأظلمِ

وتفسير زُهير القائل: وما من يدٍ إلَّا يدُ الله فوقها / ومن شيم المولى التلطّفُ بالعبدِ

يدٌ تمتدُّ بالقسوة والشدة، ويدٌ تمتدُّ باللطف واللين. أما الشاه فقد بُلي بأعظم ولم يتلطَّف به أحد!

*****

يُمكنُ القول من خلالِ تلك المقابلة إنَّ الشاهَ وَجدَ قاسمًا مشتركًا له مع الإمام الخميني، خصوصًا أنه أعلن في تلك المقابلة أنه كان ينوي تشكيلَ حكومةٍ جامعة لكلِّ أطياف المجتمع الإيراني من غير استثناء (ربما أراد أن يقول إنَّ حكومته تلك تتسع للخميني أيضًا). لكنه انتقد الخميني لكونه يرى أنَّ تاريخ إيران ابتدأ به، وكل ما قبله لا قيمةَ له، ولا يعنيه. وقال أيضًا إنه هو يعترف بما كانت عليه إيران قبل مجيء والده إلى العرش، ويعرفُ كيف كانت خلال حكمه، وكيف تطوّرت الأمور خلال مجيئه الأوّل بعد أبيه، ومجيئه الثاني بعد الدكتور محمد مُصدِق.

ما لم يقله الشاه ليس أٌقل أهمية. هو لم يقل إنَّ هناكَ نقطةً مشتركة بين الشاه الراحل والإمام القائم، غير سلطة الله العليا، فوق الملوك والأئمة، هي العداء للاتحاد السوفياتي والشيوعية، مما جعل سياسة إيران الخارجية في مدارٍ شبهِ حتمي إلى جانب الغرب. لكن مرجعية “الله” هي الأنسب، لأنَّ الله رحمته واسعة، تتيح لمَن شاء أن يستخدمها في أيِّ أمر، خصوصًا في السياسة والحكم.

*****

كانَ إخفاءُ مرض الشاه، عنه وعن الناس، فعلًا سياسيًّا مُتعَمَّدًا، أعطى نتائج عكسية على الشاه وعلى نظامه. لكن مرضه لم يبقَ سرِّيًا تمامًا، لأنَّ أجهزة استخبارات الدول الغربية علمت به تباعًا، بدءًا من الفرنسيين، لأنَّ الأطباء الفرنسيين كانوا أوّل مَن عالجوا الشاه في طهران، فعلمت بذلك الاستخبارات الفرنسية الخارجية التي كان يقودها ألكسندر دو مارانش في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان.

ثم بعد ذلك بفترة من الزمن غير طويلة، علمت به أجهزة الاستخبارات البريطانية والأميركية، مما استدعى عقد قمة متأخّرة بين قادة الغرب الأربعة في ذلك الوقت (4 – 7 كانون الثاني/يناير 1979)، ضمَّت الرئيس الأميركي جيمي كارتر، الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، رئيس الحكومة العمالية البريطانية جايمس كالاهان، والمستشار الألماني هلموت شميدت، التأمت في جزيرة غواديلوب الكاريبية قبل أيامٍ قليلة من مقابلة دايفيد فروست مع الشاه في طهران. وقد رَشَحَ يومها أنَّ غايةَ المؤتمر بحث إمكانية إنقاذ نظام الشاه في اللحظة الأخيرة، وربما كان هذا من قبيل التضليل، لأنَّ مداولات المؤتمر تشيرُ إلى أنهم قدَّروا، بما لديهم من معلومات، أنَّ إنقاذَ الشاه بات مستحيلًا، على الأقل بسبب مرضه. كما إنَّ موضوعَ إيران والشاه لم يكن الموضوع الوحيد على بساط البحث، بل كان أهمها مسألة معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي.

تَبَيَّنَ لاحقًا أنَّ قادة الغرب الأربعة توصّلوا في مؤتمر غواديلوب إلى قرارٍ بأنَّ البلدان الغربية لا يجوز أن تقطعَ علاقاتها مع حكومة إيران الجديدة، واتفقوا على طريقةٍ تسمحُ لهم بإقامة علاقات طيبة، وتعاون اقتصادي مثمر، مع النظام الجديد.

أهمية مؤتمر غواديلوب، أنه أول مؤتمر لقادة الغرب لوحدهم منذ الحرب العالمية الثانية، لبحث قضايا استراتيجية عالمية النطاق. واللافت أيضًا أنَّ فرنسا هي التي نظَّمت المؤتمر، في وقتٍ كان الإمام الخميني لاجئًا فيها. واللافت أكثر أنَّ الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان أعلن أمام نظرائه في المؤتمر، أنه لا يُصدِّق بأنَّ الشاه لم يَعُد له مكانٌ في إيران!

كذلك اعتبر جيسكار ديستان أنَّ تقارير سفيره في طهران (فرانسوا بيديل) عن حتميَّة مغادرة الشاه لبلاده “نذير شؤم”، مع أنَّ هذا السفير بالذات هو الذي نسَّق عودة الخميني إلى طهران، بما في ذلك استئجار الطائرة الفرنسية التي أقلته مع مرافقيه في تلك الرحلة.

لكن يبدو أنَّ الرئيس الفرنسي كان بالفعل مُشوَّشًا من تقارير سفيره في طهران، فأوفد إلى العاصمة الإيرانية مبعوثًا خاصًا، هو ميشال بونياتوفسكي، الذي تربطه صداقة مع الشاه. والثابت أنَّ جيسكار ديستان دعا إلى المؤتمر الرباعي في غواديلوب بناءً لتحليله المقارن بين تقارير السفير وتقرير المبعوث الخاص.

الفارق بين تقارير السفيربيديل، وتقرير المبعوث بونياتوفسكي، أنَّ الأول نقل معايناته عمّا يجري على أرض الواقع في طهران، بينما تضمّن تقرير بونياتوفسكي وجهة نظر الشاه، وهذا وجه فرادته.

قال الشاه لمبعوث ديستان: “تركوني وحيدًا على المسرح السياسي. تخلّوا عنّي (يقصد زعماء الغرب). إنني أسأل نفسي ما إذا كانوا قد أداروا ظهورهم لي في السياسة الخارجية أيضًا. ألا يعلمون أنني تجاوزت نقطة اللارجوع؟ هل قرّروا التخلّي عني؟ إذا كان هذا هو الحال، فإنه من الأفضل أن تبلغني ذلك الآن وفورًا، لكي أتخذ القرارات اللازمة وأبني على الشيء مقتضاه. أبلغني الأميركيون أنهم معي، ويدعمونني في كل الأحوال، إنما لدي شكوكٌ حولَ هذا الزعم”.

كان حدس الشاه في محله، فقد أداروا له ظهرهم في السياسة الخارجية أيضًا، لأنَّ مؤتمر غواديلوب بحثَ مطوَّلًا في الدخول مع الاتحاد السوفياتي بمحادثات جديدة للحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية والوصول إلى معاهدة “سالت ” (SALT II) في العام 1979.

من الواضح أنَّ كلام الشاه هذا يبدو مشوَّشًا، ومنقطعًا عن الواقع. وربما كان ذلك تحت وطأة تفاقم المرض في جسده، لأنَّ هناك تقارير طبيَّة أفادت في ما بعد، بأنَّ الدواءَ الذي وصفه له الأطباء في البداية لوقف تفشّي السرطان، له مفعولٌ سلبي وأعراضٌ جانبية، مثل الغثيان، والتشوُّش الذهني، وتعكُّر المزاج.

مع ذلك، شجَّع الرئيس الفرنسي زعماء الغرب على دعم الشاه، معتبرًا أنَّ سقوط الشاه من شأنه أن يحفِّزَ التدخّل السوفياتي في إيران، وهو ما يجب على قادة الغرب أن يأخذوه في الحسبان، مُفصحًا لهم بأنَّ الشاه طلب منه اتخاذ إجراءات مشتركة لمواجهة التدخل السوفياتي. وأعلن أمامهم كذلك، بأنَّ عليهم أن يوجّهوا تحذيرًا لموسكو، لكي يُشعِروا السوفيات بجدّية قلقهم من الوضع في إيران.

نقل جيسكار ديستان إلى قادة الغرب الثلاثة الآخرين، ما تبلَّغه من مبعوثه بونياتوفسكي، بأنَّ الشاهَ يجد نفسه وحيدًا في الساحة، وقال لهم: “إنَّ الشاه هو أيضًا الوحيد القادر على مواجهة الحركة الدينية”.

*****

الدليل على أنَّ جيسكار ديستان كان مشوَّشًا بين تقارير سفيره وتقرير مبعوثه الخاص، أنه استهل مؤتمر غواديلوب بالطلب إلى رئيس الحكومة البريطانية، جايمس كالاهان، بأن يُقدّمَ إلى المؤتمر عرضًا بآخر المستجدّات، حول وضع الشاه وإيران، كما استقاها من سفيره وأجهزته، فقال كالاهان في الخلاصة التي قدَّمها: “الشاه لم يَعُد قادرًا على ضبط الوضع، وليس من بديل حقيقي له (بالنسبة إلى الغرب). الشخصيات السياسية الأخرى محدودة القدرة والهيبة. وفوق ذلك فإنَّ معظمهم كانت له ارتباطات مع نظام الشاه، ومنهم من كان مواليًا له تمامًا”.

ثم تساءل كالاهان ما إذا كان بمقدور الجيش أن يلعبَ دورًا انتقاليًا، وبادر الى تقديم الجواب بالنفي، قائلًا: “لا. لأنَّ الجيش يفتقرُ إلى الخبرة السياسية، وقادته ولاؤهم للشاه”.

الكلمة الأخيرة، والفاصلة، كانت للرئيس الأميركي جيمي كارتر الذي قال: “إنَّ الوَضعَ في إيران قد تغيَّرَ كُلِّيًا. الشاه لا يستطيع أن يبقى بعد الآن أبدًا. الشعب الإيراني لم يعد يريده. ليس هناك أيُّ رجل دولة مُقتدِر في إيران يرغب في التعاون معه. لكن علينا ألَّا نقلق. القوات العسكرية جاهزة، ويستطيعون الاستيلاء على السلطة. معظم القادة العسكريين الإيرانيين درسوا في مدارسنا، وهم يعرفون قادتنا العسكريين جيدُا. إنهم ينادون بعضهم البعض بأسمائهم الأولى”.

آخر ملحق عسكري إسرائيلي في طهران، إسحق سيغيف، الذي كانت تربطه علاقة وثيقة مع الرئيس كارتر وإدارته، قال إنَّ الرئيس الأميركي، عندما تخلّى عن الشاه، كان يعتقد بأنَّ ذلك سوف يساعد على إقامةِ حُكمٍ ديموقراطي في إيران. وقد وصف سيغيف الموقف الأميركي في حينه بأنه “ساذج”، لتصوُّره بأنَّ كونَ الخميني مُعاديًا للشيوعية، فإنه سوف يراعي المصالح الأميركية!

*****

في تلك المرحلة، تداخلت عوامل سرِّية، واستخباراتية عديدة، حول الواقع الإيراني، والمواقف الضِمْنيَّة غير المعلنة للدول الغربية الرئيسة. فعلى سبيل المثال، ادَّعى ألكسندر دو مارانش (مدير الاستخبارات الفرنسية الخارجية) لاحقًا، بأنه حذَّرَ الشاه بأنَّ الرئيس الأميركي جيمي كارتر مُصَمِّمٌ على عزله. وقال دو مارانش، مُتذكّرًا، إنه أبلغ أسماء الأميركيين الذين “نيطت بهم مسؤولية الإشراف على إخراجه واستبداله”. وقال أيضًا، إنه أبلغ الشاه عن مشاركته في اجتماع موضوعه كيفية إدارة مغادرة الشاه، وتقرير مَن هي الجهة التي سوف تحلُّ محلَّه.

هذا التوجُّه الأميركي أكده أيضا الجنرال ويسلي كلارك، القائد الأعلى السابق لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، بقوله في مقابلة معه، إنَّ الرئيس كارتر أوفد الجنرال الجوي روبرت هوايزر إلى طهران مطلع كانون الثاني (يناير) 1979، لإقناع قادة الجيش الإيراني بعدم التدخل لدعم الشاه.

وقال الجنرال كلارك أيضًا، إن الجنرالات الإيرانيين حذّروا الأميركيين بوجوب التروِّي، لأنهم “يلعبون بالنار”، وبأنهم بذلك يسمحون بعودة الخميني. لكن الجنرال هوايزر أقنع زملاءه الإيرانيين بالتراجع، واستطاع منعهم من التدخل لمدة 60 يومًا (ما يعني أنَّ القادة العسكريين في إيران كانوا عازمين على القيام بانقلابٍ عسكري، كما كان يتوجَّس الخميني المُنتظِر في فرنسا). الرئيس كارتر نفسه أكد ذلك بقوله: “استطاع هوايزر أن يمنعَ الجنرالات الإيرانيين من محاولة الانقلاب”.

فماذا عن المقلب السوفياتي، وكيف عرفت موسكو بالنوايا الغربية في إيران؟

الضابط السابق في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي)، فلاديمير كوزيكين في مذكراته عن عمله في طهران أيام الشاه، وفي السنوات الأولى من عهد الجمهورية الإسلامية، اتّهمَ إدارة كارتر بتسهيل قيام الجمهورية الإسلامية، وقال إنَّ المحلّلين في الاستخبارات السوفياتية، وصلوا الى قناعة بأنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت تدعم الخميني، بما في ذلك تشجيع الإيرانيين الأميركيين على دعم الثورة الإسلامية.

إذا كان التحليل الاستخباراتي السوفياتي صحيحًا، ومن المرجح أن يكون كذلك، فإنه يُفسر قرار القيادة السوفياتية في العام 1979 بإرسال جيشها الى أفغانستان لدعم الحكم الشيوعي فيها بقيادة نجيب الله، خوفًا من تمدُّد الحركات الإسلامية المتطرّفة إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي وزعزعة استقرارها.

*****

من أبرز الإيرانيين الأميركيين الذين كانت للأجهزة الأميركية اتصالات سريَّة معهم، إبراهيم يزدي (يحمل أيضًا الجنسية الأميركية)، وقدعيَّنه الخميني وزيرًا للخارجية في أول حكومة بعد سقوط الشاه برئاسة مهدي بازركان. وكان أول نشاط له على المسرح العالمي بعد تسلمه وزارة الخارجية، حضوره في شهر أيلول (سبتمبر) 1979، مؤتمر قمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في العاصمة الكوبية هافانا، حيث أبلغ وزير الخارجية العراقي سعدون حمادي رغبته في مقابلة الرئيس صدام حسين الذي كان يرأس الوفد العراقي. لكن الرئيس العراقي تردّد في البداية، ثم عاد فوافق على مقابلة الوزير الإيراني، بناءً على مداخلة من جانب سفيره لدى الأمم المتحدة، الراحل صلاح عمر العلي، الذي قال لي، عندما زرته في نيويورك ربيع العام 1981، إنه سأل صدام: ما المانع من أن تستمع إليه وتعرف ما عنده أو ما وراءه؟ فوافق.

المرجّح أنَّ الأميركيين أبلغوه بأنَّ صدام حسين يستعدُّ لشنِّ حرب قريبة على إيران، قبل أن يستتبَّ نظامها الجديد، فكلّفه الخميني بأن يحاول طمأنة الرئيس العراقي كسبًا للوقت. لكن صدام حسين كان مصمِّمًا على الحرب، ولا أحد يستطيع ثنيه عنها، وهذا ما أكّده لي أيضاً صلاح عمر العلي.

الشخصُ الآخر المُقرَّب جدًا من الخميني، وكان ساعده الأيمن في باريس، صادق قطب زاده، الذي تولّى الشؤون الإعلامية للإمام الخميني منذ أن كان مرافقه في فرنسا، كانت له هو الآخر اتصالات مع إدارة كارتر. وأثناء وجوده في باريس جاء قطب زاده إلى لندن، وقامَ بزيارةٍ لنا في مجلة “الدستور” اللبنانية الصادرة من العاصمة البريطانية، وكنتُ يومها نائبًا لرئيس تحريرها. وقد استغربتُ تلك الزيارة، لأنَّ مجلة “الدستور” كانت لها ميولٌ عراقية معروفة، قبل رئاسة صدام حسين وبعدها، وفي بيروت كما في باريس ولندن لاحقًا.

في الاجتماع مع صاحب المجلة ورئيس تحريرها علي بلّوط، أبلغنا قطب زاده أنَّ الثورة الإيرانية سوف تعلن انتصارها قريبًا، وسيعود الإمام الخميني إلى طهران لقيادة البلاد، وأنَّ النظامَ الجديد يُريدُ أن يفتحَ صفحةً جديدة مع الدول العربية، مُشيرًا إلى أهمية التفات الإعلام العربي بإيجابية الى التحوُّلِ المُنتَظَر. وبعد رجوعه إلى إيران تولى إدارة الإذاعة والتلفزيون، ثم عُيِّن وزيرًا للخارجية، وفي السادس من نيسان (أبريل) 1982 جرى اعتقاله بتهمة الاشتراك بمؤامرة انقلابية للإطاحة بالنظام، فحوكم وأدين وأعدم. وفي غالب الظن، كانت التُهَمُ المُوَجَّهة إليه مُلفَّقة، أو مبالغًا فيها، وربما كان أنَّ الخميني خلال الحرب مع العراق، أرادَ أن ينهج منهجًا يقتضي تصفية بعض معاونيه السابقين، من الذين يعرف ارتباطهم السابق بأجهزةٍ أجنبية.

لكن تُهمةَ اتصال قطب زاده بالاستخبارات الأميركية، قد لا تكون بعيدة من الواقع، ومن المُستبعَدِ أن يكونَ قد أجرى تلك الاتصالات من غير علم الخميني، أو من وراء ظهره. وما يُثيرُ الحيرة في هذا الموضوع، أنَّ رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية الداخلية (DST) السابق إيف بونيه ، قرأ أمام قادة الغرب في مؤتمر غواديلوب (حيث سبق له أن كان حاكمًا لها)، رسالة بالفاكس من قطب زاده إلى الرؤساء الأربعة شكرهم فيها على دعمهم للمعارضة ضد الشاه.  وبعد عزل الشاه، التقى قطب زاده سرًّا مع رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض هاملتون جوردان، الذي ادّعى بأن قطب زاده فاتحه بإمكانية أن تقوم وكالة الاستخبارات المركزية باغتيال الشاه في منفاه الأولي في جمهورية بَنَما!

*****

بعدَ خروج الشاه من إيران في “إجازة”، كما سمَّاها كارتر، وَجدَ صعوبة في إيجادِ مكانٍ يقضي فيه تلك الإجازة، وقد اشتدَّ عليه المرض، فلجأ مؤقتاً إلى بَنَما، ثم الى المكسيك، على مقربة من الولايات المتحدة ظنًّا منه، ربما، بأنَّ كارتر سوف يأويه، كلاجئ سياسي، لكن الرئيس الأميركي لم يكن في هذا الوارد. ثم عاد كارتر فقبل بإدخاله الى الولايات المتحدة مؤقتًا للعلاج، بعد ضغوط شديدة مورست عليه من قبل هنري كيسنجر ودايفيد روكفلر.

وجد الأطباء أنَّ حالة الشاه لا شفاء منها، وأنَّ أيامه معدودة، فطلبت منه السلطات الأميركية أن يجدَ مكانًا آخر، فاختار أن يموت في مصر، وقبل أنور السادات استقباله. ولعلاقة الشاه الراحل بالرئيس المصري أنور السادات حيثيات وجيهة جعلته يتعامل معه بعد سقوطه تعاملًا لائقًا، كما سيلي في الحلقة المقبلة.

بخروج الشاه في “إجازته” الأخيرة، خلت الساحة للإمام الخميني، فعاد إلى طهران على متن طائرة فرنسية رافعًا راية النصر المؤزر، ومعه راية الجمهورية الإسلامية.

مات الشاه … عاش الإمام.

وانفتحت صفحة جديدة في تاريخ إيران والشرق الأوسط، فكانت، مع الأسف، صفحة دامية من الحروب المتواصلة حتى الساعة.

(الحلقة المقبلة: أهون الشرين… “الشيطان الأصغر”)

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى