دولةُ السَيفِ المَكسور: إسرائيل بينَ القَتلِ والانقِسامِ والعُزلة
البروفِسور بيار الخوري*
منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948 ارتَكَزَ وجودُها على مُعادلةٍ مُعقَّدة: قوَّةٌ عسكرية مُتنامية، مُجتمعٌ داخلي مُتبايِن، ومُحيطٌ خارجي مُعادٍ. هذه العناصر الثلاثة ظلّت تتحرّكُ معًا على امتداد العقود، لكنها لم تُعَبِّر عن مجرَّدِ تحدّياتٍ ظرفية، بقدرِ ما تحوَّلت تدريجًا إلى مؤشّراتِ تفكُّكٍ بُنيوي يزدادُ وضوحًا مع مرورِ الزمن.
القوّة العسكرية كانت السمة الأبرز منذ البدايات. حربا 1948 و1967 منحتا إسرائيل صورة الجيش الذي لا يُقهَر، ورَسّختا ثقةً داخلية عالية بالمؤسسة الأمنية. لكن كل انتصارٍ عسكري حمل في طيّاته مأزقًا جديدًا: حرب 1967 وَسّعت الاحتلال وخلقت مُعضِلة ديموغرافية وسياسية؛ حربُ 1973 هزّت صورة الجيش وفتحت الباب أمامَ صعود التيارات اليمينية والدينية؛ الانسحابُ من لبنان في العام 2000 اعتُبِرَ هزيمة أمام “حزب الله”؛ حرب 2006 كشفت حدودَ الردع؛ وحروب غزة المتكررة بعد 2008 تحوّلت إلى استنزافٍ مُتكرِّر بلا نتائج سياسية. ذروةُ هذا المسار جاءت مع حرب غزة التي اندلعت أواخر 2023 وما زالت مستمرّة في خريف 2025، حيث أثبتت أنَّ إسرائيل تملك قدرة فائقة على التدمير لكنها عاجزة عن فرضِ تسوية أو إنهاء حركة “حماس” ناهيك عن تهجير غزة. وبين الزمنين، جاءت مواجهة 2024 مع “حزب الله” واغتيال زعيمه، السيّد حسن نصرالله، لتُؤكّد المُفارقة ذاتها: عمليةٌ عسكرية كبرى لم تُترجَم إلى إنجازٍ سياسي دائم، بل أظهرت محدودية القوة أمام تعقيدات المنطقة.
الانقسامُ الداخلي بدوره رافقَ الدولة العبرية منذ نشأتها. الفوارق بين الأشكناز والسفرديم، بين المُتَدَيِّنين والعلمانيين، وبين المُستَوطنين وسكان المدن، ظلّت خطوطًا فاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية. في التسعينيات الفائتة كشف اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين أنَّ الانقسامَ قد يتحوَّلُ إلى عنفٍ داخلي، وفي العقدِ الأخير تضاعفَ الشرخُ مع أزمة تعديل نظام وصلاحيات القضاء في العام 2023 التي قسّمت المجتمع إلى نصفين مُتواجِهَين حول هوية النظام نفسه. ومع تصاعُدِ نفوذ المستوطنين وازدياد نفوذ الأحزاب الدينية، تراجعت قدرة الدولة على إنتاجِ إجماعٍ وطني جامع، وباتت الهوية الإسرائيلية موضوعَ صراعٍ داخلي لا ينتهي.
أمّا العُزلة الخارجية فهي الوجه الثالث للمسار. في العقود الأولى كان الدعمُ الغربي، خصوصًا الأميركي، عُنصُرَ حمايةٍ أساسيًا، فيما مكّنت الانتصارات العسكرية إسرائيل من فرضِ نفسها في الإقليم. لكنَّ استمرارَ الاحتلال وتكرار الحروب جعلا صورتها تتآكل تدريجًا. أوروبا أصبحت أكثر انتقادًا، الرأيُ العام العالمي صارَ أكثر حساسيةً تجاه سياساتها، وحملاتُ المقاطعة الأكاديمية والشعبية توسّعت. تصلُّبُ إسرائيل في لبنان وسوريا ما بعد الأسد وحربُ غزة المستمرة عمّقا هذه العزلة، فرُغمَ أنَّ إسرائيل ما زالت تستندُ إلى مظلّة واشنطن، إلّا أنها تبدو أكثر اعتمادًا عليها وأقل قبولًا في محيطها والعالم.
اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود ونصف على التأسيس، تقف إسرائيل أمامَ مفارقة كبرى: دولةٌ تملك قوة عسكرية واقتصادًا متقدّمًا، لكنها تعيش انقسامًا داخليًا عميقًا وتجد نفسها في عُزلةٍ دولية متنامية. هذه العناصر الثلاثة، القوة والانقسام والعزلة، تشكّل معًا مؤشّرات تفكُّكٍ مُتراكمة، تجعلُ صورة الدولة الصلبة من الخارج تخفي واقعًا مأزومًا من الداخل، وتضعُ مستقبلها أمامَ سؤالٍ لم يَعُد مؤجَّلًا: إلى أيِّ حَدٍّ يُمكِنُ أن تصمدَ دولة قوية بالسلاح لكنها مُنقَسمةٌ في مجتمعها، مَكروهةٌ في محيطها وتزداد عُزلةً عبر العالم؟
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com