بوتين على أعتابِ أزمةٍ اقتصاديّةٍ مُهينة
رحلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ألاسكا لم تكن مجرّدَ زيارةٍ ديبلوماسية، بل محاولة يائسة للهروب من قبضة العقوبات الغربية. ومع تفاقُم الأزمات داخل روسيا، يزداد الضغط الذي قد يُجبر الكرملين على تقديم تنازُلاتٍ غير مسبوقة.

أغاث ديماريس*
لا أحَدَ يَعلَمُ ما كانَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يَأمُلُ في تحقيقه عندما شرَعَ في رحلةٍ جوية مدتها تسع ساعات من موسكو إلى ألاسكا للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر الفائت. لكن من المؤكّد أنّهُ كان يسعى إلى تجنُّبِ العقوبات الإضافية على الاقتصاد الروسي التي هدّدَ بها ترامب بشكلٍ غامضٍ مرّاتٍ عدّة، وربما الحصول على تخفيفٍ للعقوبات الحالية أو حتى تحقيق بعض صفقات الاستثمار الأميركية المُربحة.
لدى بوتين كلُّ الأسباب للبحث عن شريانِ حياةٍ للاقتصاد الروسي. ففي الأسابيع الأخيرة، أظهرت سلسلةٌ من المؤشّرات أنَّ الاقتصادَ الروسي، المُستَنزَف بفعل الحرب على أوكرانيا والمُقيَّد بالعقوبات، يمرُّ بمرحلةِ تحوُّلٍ خطيرة. ولأوّل مرة منذ بداية الحرب، انكمشَ النشاطُ الاقتصادي غير العسكري، وبدأ المصرفيون يضعون خططًا لمواجهة أزمةٍ مالية، وزادَ القلقُ لدى شركات الطاقة من فقدانِ أكبر عميلٍ لها لصادرات النفط المنقولة بحرًا.
هناكَ تداعياتٌ مهمّة للمشاكل الاقتصادية المتفاقمة التي يواجهها بوتين على صانعي السياسات الغربيين مع بدء مفاوضاتهم مع موسكو حول مستقبل أوكرانيا. وخلافًا للانطباع الذي يحاول الزعيم الروسي الترويجَ له، فإنَّ الوقتَ ليس في صالحه. في الواقع، لا يزالُ الضغطُ الاقتصادي هو أفضل وسيلة ضغط يمتلكها مؤيدو أوكرانيا على الكرملين. ويبقى أن نرى ما إذا كانت أوروبا والولايات المتحدة ستختاران استخدام الورقة الاقتصادية التي لا تزال في جعبتهما.
يتطلّبُ فَهم الوضع الحقيقي للاقتصاد الروسي بحثًا دقيقًا. فعادةً ما يكون من غير المُجدي النظر إلى إحصاءاتِ النموِّ الرسمية، فهي مشكوكٌ فيها وتخضعُ لمُراجَعاتٍ مُتكرّرة. ومع ذلك، يتضمّنُ أحدثُ إصدارٍ للناتج المحلي الإجمالي معلومةً مهمّة: نجا الاقتصادُ بصعوبةٍ من ركودٍ تقني (يُعرّف بأنه انكماشٌ في الناتج المحلي الإجمالي لرُبعَين مُتتاليَين) في الربع الثاني، حيث بلغَ النموُّ المُعلَن عنه 0.1% فقط بعدَ انخفاضٍ بنسبة 0.6% في الربع الأول – وهو أول انخفاض من نوعه منذ بداية الحرب. وباستثناء القطاع العسكري المُزدهر، فإنَّ بقية الاقتصاد الروسي في حالةِ ركود.
تُبرِزُ نظرةٌ سريعة على قطاع السيارات الوَضعَ الكئيب للاقتصاد المدني. فمبيعات السيارات الجديدة، التي تُعدّ عادةً مؤشرًا موثوقًا إلى مزاجِ الأُسَر، انخفضت بنحو 30% خلال النصف الأول من العام مُقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وهي علامةٌ أكيدة على تدهور طلب المستهلكين. ويتجاوزُ انكماشُ النشاط التجاري شركاتَ صناعة السيارات بكثير. ففي تموز (يوليو)، بلغ مؤشر مديري المشتريات العالمي لوكالة “ستاندرد آند بورز” للصناعات التحويلية الروسية -الذي يتتبّع طلبات الشركات من مورديها، والذي يُشير فيه أي مستوى أقل من 50 إلى انكماش- 47 نقطة فقط، وهي أدنى قراءة له منذ آذار (مارس) 2022.
إنَّ المشاكل التي تواجهها الأسر والشركات الآن تُهدّدُ بالانتشار والتوسع إلى القطاع المصرفي الروسي، وهي علامةٌ مُقلقة للغاية لموسكو. يرتفع معدل التخلُّف عن سداد جميع القروض المُقدَّمة للأفراد (مثل الرهون العقارية وقروض السيارات وبطاقات الائتمان) بسرعة، حيث زادَ بنسبة 32% في بنك “VTB”، ثاني أكبر بنك في روسيا، منذ بداية هذا العام. ورُغمَ أن معدلات التخلُّف عن السداد تبدو ظاهريًا مُنخفضة، فإنها مُضلِّلة: ففي روسيا، غالبًا ما تتفاوضُ الأسر التي تُكافح لسداد قروضها على فترةِ سماحٍ مع بنوكها بدلًا من التخلّف عن السداد تمامًا.
وقد تنتقل العدوى قريبًا إلى قطاع العقارات أيضًا. ففي أيار (مايو)، حذّر البنك المركزي الروسي من أنَّ خطرَ انهيار سوق العقارات قد وصل إلى أعلى مستوى له منذ أن بدأ البنك مراقبتها قبل نحو عشر سنين. ولدى البنك المركزي أسبابٌ وجيهة للقلق من احتمال انفجار فقّاعة الإسكان. ففي العام المنتهي في تموز (يوليو)، ارتفعت أسعار العقارات للمنازل الجديدة بنحو الربع في وسط موسكو، أي ما يُقارب ثلاثة أضعاف معدل التضخُّم خلال الفترة نفسها، مما يُثير مخاوف من أنَّ هذه الزيادات قد لا تُحتَمَل. بالتوازي مع ذلك، تتعاقد الأُسَرُ الروسية على قروضٍ بمتوسّطٍ قياسيٍّ يبلغ 26 عامًا. في السياق الروسي، يُعدّ تمديد سداد القروض لهذه الفترات غير المسبوقة علامةً أكيدةً على تزايد المديونية والضغوط المالية.
ويشعرُ المصرفيون بالقلق أيضًا بشأن قروض الشركات المتزعزعة، حيث صرّح بعضهم لوكالة “بلومبيرغ” بأنهم ناقشوا خيارات الإنقاذ مع الحكومة الروسية. وأفاد البنك المركزي بأنَّ 13 من أصل 78 أكبر شركة روسية غير مصرفية لا تستطيع سداد ديونها – أي أكثر من ضعف الرقم المُسجّل في العام الماضي. ويتوقع البنك المركزي إضافة شركتيَن إضافيتَين إلى هذه القائمة في وقتٍ لاحق من هذا العام. ومع استبعاد انخفاض أسعار الفائدة كثيرًا عن مستواها الحالي البالغ 18% في ظلّ استمرار ارتفاع التضخّم، يصعبُ تخيّل كيف يُمكن للشركات خدمة الديون والبقاء واقفةً على قدميها في الوقت نفسه.
في ظلّ الضائقة المالية التي تعاني منها الأسر والشركات، انخفض صافي دخل بنك “VTB” من الفوائد بنحو النصف في النصف الأول من هذا العام مقارنةً بالعام السابق. ومن المرجح أن تَدُقَّ هذه البيانات ناقوسَ الخطر في الكرملين، إذ لم يَعُد لدى صانعي السياسات الروس ما يكفي من الموارد المالية لإعادة رسملة البنوك. وقد تكلّفت آخر عملية من هذا النوع مبالغ طائلة؛ ففي العام 2017، كلّفت إعادة رسملة ثلاثة بنوك صغيرة –”أوتكريتي”، و”بي آند أن”، و”برومسفياز بنك”- أكثر من 24 مليار دولار، أي ما يُقارب نصف حجم الاحتياطيات السائلة المتبقّية حاليًا في صندوق الرعاية الاجتماعية الوطني. ولا يُعَدُّ طَبعُ النقود خيارًا مطروحًا لأنه سيزيد من التضخّم. علاوةً على ذلك، فإنّ مجرّدَ التلميحات إلى أنّ القطاع المصرفي الروسي قد يمرُّ بمرحلةٍ صعبة ستكون بمثابة كارثة علاقات عامة لموسكو: فمثل هذا الوضع من شأنه أن يُقوِّضَ روايةَ الكرملين القائلة بأنّ العقوبات الغربية لا تؤثّر ولا تُجدي نفعًا.
كما تُشكّل العقوبات التي فرضها ترامب أخيرًا على دولٍ ثالثة مصدر قلق للكرملين. في آب (أغسطس)، فرضت إدارة ترامب تعريفة جمركية إضافية بنسبة 25% على الهند عقابًا لها على مشترياتها من النفط الروسي. ومنذ أن قلّصت الدول الأوروبية وارداتها من النفط الروسي ابتداءً من العام 2022، أصبحت الهند أكبر مشترٍ لشحنات النفط الروسي المنقولة بحرًا. وتستوعب مصافي النفط الهندية حوالي 1.8 مليون برميل يوميًا من الخام الروسي، مما يجعل قيمة السوق الهندية حوالي 40 مليار دولار سنويًا لشركات النفط الروسية.
حتى الآن، تُواصِلُ مصافي النفط الهندية استيرادَ النفط الروسي بخصمٍ بسيط. ومع ذلك، يُرجّحُ أن الكرملين يُخطّطُ لأسوَإِ سيناريو، وهو أن تُقدم نيودلهي على وقف هذه الواردات خوفًا من تصاعد نزاعها مع الولايات المتحدة. سيكون هذا بمثابة كابوسٍ لمُصدّري النفط الروسي. تبدو الصين، المشتري الرئيس الآخر للنفط الروسي، غير راغبة في زيادة وارداتها لتجنُّب الاعتماد المُفرِط على الشركات الروسية. ومع خروج الصين من المعادلة، يصعب تحديد بدائل رئيسة أخرى لشحنات النفط الروسي في حال فقدان شريان الحياة الهندي. مع تصعيد أوكرانيا لهجماتها بعيدة المدى على مصافي النفط وخطوط الأنابيب الروسية، ما أدّى إلى توقُّف ما يصل إلى 20% من إنتاج الوقود الروسي، فمن المحتمل أنَّ المسؤولين التنفيذيين في قطاع الطاقة الروسي لا ينامون بعمق هذه الأيام.
علاوةً على ذلك، يُواجِهُ قطاعُ النفط الروسي ضربتَين أُخرَيَين — وَضعٌ خطيرٌ لقطاعٍ يُوفّرُ عادةً حوالي ثلث ميزانية الكرملين وبالتالي يُعدّ بالغ الأهمية للمجهود الحربي. أوّلًا، انخفضَ سعرُ نفط الأورال الروسي المرجعي بأكثر من 20% منذ أن بلغ ذروته في أوائل كانون الثاني (يناير)، مما يُشكّل ضغطًا كبيرًا على عائدات النفط. ثانيًا، ارتفعت قيمة الروبل الروسي بنسبة 41% مقابل الدولار منذ بداية العام، مما يُثقل كاهل عائدات النفط عند تحويلها إلى العملة المحلية. وللمساعدة في تغذية خزائن الدولة الروسية، يُحاول البنك المركزي جاهدًا الحد من أيِّ ارتفاع إضافي في قيمة الروبل. وللحد من الطلب على الروبل، ألغى البنك الشهر الماضي القوانين التي كانت تُلزِمُ المُصدّرين الروس بإعادةِ أرباحهم بالعملة الأجنبية وتحويلها إلى الوطن.
ولحَلِّ مُعضِلةِ الكرملين المالية المُستَعصية، يلجأ الكرملين الآن إلى أساليب قديمة. تضاعفت قيمةُ الأصول الخاصة التي صادرتها الحكومة من الشركات والأفراد ثلاث مرات خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، لتصل الآن إلى 50 مليار دولار أميركي منذ بداية الحرب. وقد جرت عملية مصادرة مذهلة في حزيران (يونيو)، عندما قضت محكمة في موسكو بإمكانية تأميم الدولة الروسية لثاني أكبر مطار في روسيا، مطار دوموديدوفو في موسكو. ولدعم هذه القضية، جادل المدعي العام بأنَّ مالكي المطار يتآمرون ضد البلاد بحملهم جوازات سفر أجنبية. أثارت هذه الخطوة قلقًا في دوائر الأعمال الروسية، حيث تنتشر جوازات السفر الأوروبية والأميركية.
من الصعبِ التنبّؤ بأيِّ شكلٍ من الأشكال بشأن شكل ونتائج المفاوضات المحتملة بشأن مستقبل أوكرانيا. وبينما يتأمل الديبلوماسيون الغربيون الخطوات التالية، عليهم أن يتذكّروا أنَّ الضغط الاقتصادي ربما كان العامل الوحيد الذي دفع بوتين للسفر من موسكو إلى ألاسكا. الآن ليس الوقت المناسب لقادة الغرب لتقديم تنازُلات بشأن العقوبات ومنح بوتين متنفّسه الاقتصادي الذي يحتاجه بشدة. إذا تمكّنت أوروبا والولايات المتحدة من التحلّي بالصبر والتضامن في هذا الموضوع، فإنَّ خوفَ بوتين المتزايد من أزمة اقتصادية مُهينة قد يدفعه إلى طاولةِ المفاوضات.
- أغاث ديماريس هي كاتبة عمود في مجلة فورين بوليسي، وزميلة بارزة في السياسة الجيواقتصادية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومؤلفة كتاب “النتائج العكسية: كيف تُعيد العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأميركية”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.