لبنان وحَصرِيَّةُ السلاح: العَين بَصيرة واليدُ قصيرة!
الدكتور فيكتور الزمتر*
لم يَعُدْ الحديثُ على دخول المشرق العربي مرحلةَ العَبَث بحدود دُوٍله، من باب الخيال أو التنظير والتنميق، بل تكادُ ملامحُه تبدو ماثلةً للعيان، لا للعميان الذين حوَّلوا، بجهلهم، أرضَ الرسالات إلى بؤَرٍ للتباغُض والشرذمة!
لبنان جُزءٌ لا يتجزَّأُ من هذا المشرق، المُشكَّل من المستطيل الجغرافيّ المُمتدّ من جبال طوروس وزاغروس في الشمال إلى قناة السويس والبحر الأحمر جنوبًا، إلى شبه الجزيرة العربية شرقًا، والبحر المتوسط غربًا.
يواجهُ وطنُ الأرز، اليوم، إشكاليةَ حصر السلاح بيد القوى الأمنية الرسمية، الذي يرى البعضُ فيه تهديدًا جدّيًا للسلم الأهلي، بينما يعتبرُه البعضُ الآخر “هبةٌ إلهيَّةٌ … التخلّي عنه تخلٍّ عن التكليف الشرعي”. وعلى كُلِّ حالٍ، ليست الإشكاليةُ الراهنةُ الأُولى ولن تكونَ الأخيرةَ، بل هي، قطعًا، واحدةٌ من الإشكاليات المُتناسلة التي يضجُّ بها تاريخُ لبنان الحديث والمُعاصر. هذا الواقعُ يُوَثِّقُ ثابتةَ اضطراب لبنان السياسي، المُتناغم على وَقْع خَلَجات المُحيط والإقليم، والمُنزلق، أحيانًا، إلى انفلاتاتٍ أمنيّةٍ، لطالما تجاهلَ أُولو الألباب مخاطرَه على مُستقبلِ الكيان برُمَّته.
تزدحمُ الآراءُ والتحاليلُ في فكِّ طلاسم تَوالي الأزمات السياسية والخضّات الأمنية، المُسلَّطة على مصير الوطن الصغير، لكنَّها تبقى مُقتصرة على مُعاينة الإشكالية الآنية، وقاصرة عن شجاعة البوح بأصل البلاء، المُتَمَثِّل بانعدام الثقة بين مُكَوِّنات الوطن المُجتمعية.
وهذه مُعضِلَةٌ تعودُ جُذورُها إلى نشوء الكيان اللُّبناني، الذي استهلكَ عقدَين ونيِّف، قبل أنْ يُجمعَ التجاوبُ الشعوري مع الوحدة السورية، على التسليم بالإنتماء إليه، على قاعدة الميثاق الوطني، في العام 1943. وثابرَت تطوُّراتُ المُحيط والإقليم على دغدغة التجاوب الشعوري للُّبنانيين، في خمسينيات القرن الماضي، مع إفرازات حلف بغداد والمدّ الناصري، حتّى تُوِّجت بالثورة الأهلية في العام 1958. وأواخر الستينيات، وقعت صداماتٌ بين الجيش اللّبناني والفلسطينيين، أفضت إلى اتفاق القاهرة في العام 1969، الذي شرَّعَ الكفاح الفلسطيني من لبنان.
وكانت الطامةُ الكُبرى مع الإنفجار الكبير، الذي وقع بين العامين 1975 و1989، الذي تداخلَ فيه الإحتقان المطلبي الداخلي، على خلفية المُشاركة بالحكم، بتضارب مصالح المُحيط نتيجة انقسام اللُّبنانيين حول تزايد النفوذ الفلسطيني. حينها، نجحَ اتفاقُ الطائف بتسويةٍ، أوقفت الإقتتالَ مدخلًا مرحليًّا للحلِّ المرجوّ بإقامة دولة المواطن، لا دولة الطوائف، وبدولة المؤسَّسات، لا دولة المحسوبيات.
اليوم، يواجهُ لبنان مخاضًا جديدًا، يتراوحُ مآلُه بين مواجهةٍ داخليةٍ، أو استمرار الإستباحة الإسرائيلية، بعدما نجحَ العُدو، ليس فقط بإبعاد “حزب الله” عن أهله وتماسِه على الحدود، بل بعدما نجحَ بتجريده من البُعد الوطني، وبخلق شرخٍ مُعلنٍ بينه وبين السلطة الساعية إلى دولة سيّدة.
فالثُنائي الشيعي، “حزب الله” وحركة “أمل”، مَعنيان، منطقيًّا، بالتمسُّك بمُقاومة إسرائيل، دفاعًا عن بيئتهما اللَّصيقة. ومُطالبتُهما بانسحاب القوات الإسرائيلية من المواقع المُحتلة، وبوقف تعدِّياتها اليومية وإطلاق الأسرى، هي مُطالبةٌ من البداهة أنْ تتوافقَ مع مطالب الدولة. وبالمقابل، من واجب الدولة تجاه مواطنيها، إثباتُ قدرتها على تحمُّل تبعات الدفاع عن حياض الوطن، تبريرًا لحقِّها بحصر السلاح وقرار الحرب والسلم بمؤسَّساتها الدستورية.
بالمبدَإِ المُطلَق، وجهتا النظر تتكاملان في ما لو كان الردعُ المُتبادلُ بين لبنان وإسرائيل ما زالَ مُتوافرًا. إلّا أنَّ إبعاد “حزب الله” إلى شمال اللِّيطاني، وتجريده من أسلحته ومراكزه في الجنوب، جعلَه بوَضعٍ لا يُحسَدُ عليه، بدليل سكوته عن عمليات الإغتيال والتدمير اليومية، مُنذ الإتفاق على وقف إطلاق النار، يوم 27 تشرين الثاني (نوڤمبر) 2024. أمّا الدولةُ، فهمُّها مُنصَبٌّ على استجداء السيادة الكاملة، من الحاكم والحَكَم في آنٍ، مُرغَمةٌ على المُراهَنة على الديبلوماسية، في توقيتٍ يتصرَّفُ فيه بنيامين نتنياهو تصرُّف الآمر الناهي، في منطقةٍ أقصى مُناها حفظُ الرأس من غضبه.
فلبنان، المغلولُ اليدين، لم يجدْ مفرًّا من الموافقة على الورقة الأميركية، المُثلَّثة الأطراف، بالرُّغم من صمت سوريا ورفض إسرائيل. وعليه، يبدو العهدُ بحاجةٍ إلى أُعجوبةٍ تقيه الفتنةَ الداخليةَ وتحفظُ ماءَ الوجه، بعد الإقدام على قرارٍ مصيريٍّ بحصر السلاح.
لا شكَّ بأنَّ إفرازات عملية “طوفان الأقصى” بدَّلت قواعدَ اللُّعبة رأسًا على عقب، وسيَّدت إسرائيلَ على أقدار المنطقة. ففي فلسطين، اقتلاعٌ فجٌّ لأهل غزَّة، بالتوازي مع تسريع مُخطَّط ضمّ الضفة الغربية لقوام الكيان الإسرائيلي. وفي سوريا، تتسارع الخُطى لإقامة “ترتيباتٍ أمنيةٍ”، مدخلًا للّحاق “بالسلام الإبراهيمي”.
وفي لبنان، أسفرَ اتفاقُ وقف إطلاق النار عن احتلال إسرائيل لخمسة مواقع، قيل أنَّها أصبحت ثمانيةً مع مرور الوقت، والحبلُ على الجرّار. وفي ذروة التباهي بالإنتصار، لا تبدو إسرائيل بوارد الإنسحاب من هذه المواقع بدون ثمنٍ “إبراهيمي”، إنْ تعذَّرَ عليها تعديل اتفاقية “بوليه-نيوكومب” (Paulet- Newcombe)، المُوقَّعة في السابع من آذار (مارس) 1923، لترسيم الحدود بين الإنتدابين الفرنسي والإنكليزي، بما يُرغمُ لبنان على الإعترافَ بالحدود المفروضة عليه بحدِّ السيف.
الجديدُ بالأمر، الحديثُ على إقامة “منطقةٍ اقتصاديةٍ” عازلةٍ في الجنوب، أُسوةً بنظيرتها “ريڤييرا الشرق الأوسط” في غزَّة، وكلاهما واجهتان للتهجير القسري، تحت شعار “ومن الحُبِّ ما قتل”.
في ظلِّ هذه الظروف الضاغطة، تمسُّ الحاجةُ إلى الحكمة والرَويّة من قِبَل السلطة، وإلى التوادُد والتعاضد من قبل الشعب. إذ يتوجَّبُ على الحكومة اللُّبنانية ألَّا تعدمَ وسيلةً لإقناع الوسيط الأميركي بأنَّ ترجمةَ صدقيةَ دعم بلاده للبنان تكمنُ بالضغط على إسرائيل، أقلُّه، لإبداء استعدادها لتنفيذ المطلوب منها وِفقَ مُندرجات الورقة الأميركية، إنْ كانت واشنطن حريصةً، بالفعل، على تجنيب لبنان كأس الإنتحار، إلّا إذا كانَ المضمورُ تَجَرُّعَ الكأس المُرّة.
مُنذُ إبراهيم باشا (1789-1848)، ابن محمد علي باشا (1769-1849)، عزيز مصر، ولتاريخ اليوم، لم نتعبْ من التآمر على أنفسنا من خلال تآمرنا على الشريك، بدونِ أنْ نتَّعِظَ من مآسي استدراج التدخُّل الخارجي. واليوم، أكثر من أيّ يومٍ مضى، الوطنُ على طاولة المُقايضة، ما يقتضي تغليبَ الوحدة الوطنية على ما عداها، بدلًا من تغليب طائفة على باقي الطوائف، أو تغليب طوائف على طائفةٍ.
فلا وقت لترف المُكابرة أو الإنتقام في هذا التوقيت القاتل، حيثُ “العينُ بصيرةٌ، واليدُ قصيرةٌ”. فالحكمةُ تقضي بتمرير الظرف الضاغط مُوحَّدين بانتظار غدٍ أفضلَ، افتداءً للوطن المأزوم، إنْ كان لنا أنْ نتجنَّبَ قولَ الأميرة عائشة الحرة لابنها الأمير أبو عبد الله محمد الثانى عشر، المعروف بأبي عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة، وهو يبكي ضياع المُلك:
“إبكِ مثل النساءِ مُلكًا مُضاعًا لم تُحافظْ عليه مثلَ الرجال”
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.