قراءةٌ في الوَضعِ الدولي صيف 2025
يمرّ العالم في صيف 2025 بمرحلةٍ استثنائية تتّسِمُ بالاضطرابِ والتحوّل. قممٌ متتالية تُعقَدُ في عواصم كبرى، لكن بدل أن تبعث الطمأنينة، تزيد المشهد غموضًا وتعكس حجمَ الانقسام في النظام الدولي. صراعاتٌ مُحتدمة، وأزماتٌ مُتشابكة، وتحالُفاتٌ تُعيدُ رَسمَ ملامحها على وَقعِ حرب أوكرانيا المستمرّة، والسباق المحموم على النفوذ والموارد، وصعود النزعات القومية والشعبوية.
هذا البحث المكوّن من ثلاث حلقات يسعى إلى تقديمِ قراءةٍ مُعمّقة لمجريات الوضع الدولي في هذا الصيف الحاسم. وُتركّزُ الحلقة الأولى على المشهد الأطلسي: قمّتا ألاسكا وواشنطن، وموقع أوكرانيا في قلب المعادلة، والرهانات المتناقضة بين الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا.

(1)
قممٌ… قممٌ… قممٌ… عالمٌ ينهارُ وعالمٌ لم يَنهَض بَعد
الدكتور سعود المولى*
الشيءُ الجوهري من المشهد المسرحي في القمة التي انعقدت في ألاسكا بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في 15 آب (أغسطس) 2025، هو أنَّ هذه القمة كانت عبارة عن محادثاتٍ ثُنائية بين قوّتين عظميين حول مستقبل الحرب في بلدٍ ثالث هو أوكرانيا، ومن دون الطرف الرئيس في تلك الحرب أي الشريك الأوروبي؛ وأنها انتهت من دونِ أي اتفاقٍ واضح أو أيِّ تفاصيل حول إحرازها تقدُّمٍ ما.
قبل قمة ألاسكا مع ترامب، كان بوتين غيرَ مُهتَمٍ بأيِّ نوعٍ من الاتفاق. فقد سبق أن أرسلت روسيا في اجتماعات سابقة مع أميركا، عُقِدَت في إسطنبول، وفودًا منخفضة المستوى، غير مُخَوَّلة باتخاذِ أيِّ قرارات على الإطلاق. لكنَّ الوَضعَ اليوم تغيّر، إذ يبدو أنَّ ترامب وافق على طلب بوتين أن تُقدِّمَ كييف بعض التنازلات في الأراضي. أما بالنسبة إلى مسألة وقف الحرب أو توقيع اتفاق سلام يضمن وقفًا فوريًا للقتال، فلم يوافق عليه بوتين طالما كان يحقق انتصارات على الأرض.
لكنَّ المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف الذي شارك في القمة التي جمعت ترامب ببوتين، أعلن في 17 آب (أغسطس)، وقبيل القمة الأميركية-الأوروبية في البيت الأبيض، أنَّ موسكو قدّمت “تنازلات” بشأن مناطق أوكرانية سبقَ أن أعلنت ضمّها. وقال ويتكوف: “أنا متفائل بأننا سنتمكّن من العودة إلى الروس، والدفع قدمًا باتفاق السلام هذا وإنجازه لوضع حدٍّ للحرب”. وشدد ويتكوف على أنَّ ترامب اتفق مع بوتين على “ضماناتٍ أمنية متينة” لأوكرانيا، وصفها بأنها “تُغيّرُ المعادلة”.
التنازلات والضمانات التي تحدث عنها ويتكوف أثارت القلق والفزع في العواصم الأوروبية التي سارعت إلى المطالبة، مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، بضماناتٍ أمنية لأوكرانيا. هذه الضمانات التي تُطالب بها أوكرانيا كجُزءٍ من أيِّ تسوية مع روسيا، كانت المحور الأساس في اجتماع القادة الأوروبيين مع ترامب في البيت الأبيض في 18 آب (أغسطس)، والذي شارك فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته.
الأمرُ المهم في هذا الاجتماع كان التأكيد على أنَّ أوروبا ستظلُّ على موقفها في الدعم المطلق والحاسم لكييف في مواجهة الغزو الروسي، وأنَّ زيلنسكي يرفض تقديم تنازلات في الأراضي، على الأقل علنًا أو رسميًا. ويرى زيلنسكي أنه مع استمرار الدعم الأوروبي وخصوصًا بالسلاح -ودعم أميركا هو الأهم طبعًا- يمكن لأوكرانيا مقاومة روسيا وتأمين نهاية أفضل للصراع مما هو عليه الوضع اليوم. وكان ترامب تخلّى عقب القمة مع بوتين عن المطالبة بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وهو ما كان موقفه طوال الأشهر الماضية، وبات يعتبر أنَّ السبيلَ الأفضل هو العمل على إبرامِ اتفاقِ سلامٍ شامل يضعُ حدًا نهائيًا للحرب.
أبرزت قمة واشنطن الطارئة هذه وجود عقبة أخرى في وجه سلام دائم في أوكرانيا، هي التناقض في مواقف واهتمامات كل من أوروبا وأميركا حيال التسوية النهائية للحرب. وفي الأخير يتوقف الأمر كله على الضمانات التي تستعد أميركا وأوروبا تقديمها لحماية أمن أوكرانيا من أيِّ هجمات روسية لاحقة، في حال دخولها في مشروع تسوية، وهذا ما ألمح إليه ترامب بطرحه فكرة إرسال قوات أميركية إلى مناطق نزاع خارجية، ولو من غير تحديد لهذه المناطق.
ما هي الضمانات التي يمكن تقديمها لأوكرانيا؟
من أولويات أوكرانيا أن يكونَ لديها جيشٌ قوي بما يكفي للدفاع عن نفسها من الهجمات الروسية المستقبلية. صحيحٌ أنه كان هناك تقدُّمٌ ملحوظ في جانبٍ حاسم من المفاوضات: الضمانات الأمنية لأوكرانيا. لكن من المهم أن تشارك الولايات المتحدة في الضمانات الأمنية المستقبلية، خصوصًا أنه لم يمضِ وقت طويل منذ أن ألقى ترامب بالمسؤولية كاملة على أوروبا. لذا، يُشير ما حصل في قمة البيت الأبيض إلى تطوُّرٍ إيجابي.
في الإحاطة التي قدّمها زيلينسكي خارج البيت الأبيض باللغة الأوكرانية للصحافيين الأوكرانيين، أوضحَ أنَّ الأمرَ سيستغرق بعض الوقت لإنجاز تفاصيل أيِّ ترتيبٍ مستقبلي، حيث ستشاركُ دول عديدة في الضمانات الأمنية المستقبلية لأوكرانيا، ولكلٍّ منها قدرات مختلفة للمساعدة. إذ سيساعد بعضها أوكرانيا في تمويل احتياجاتها الأمنية، ويُمكِنُ للبعض الآخر تقديم المساعدة العسكرية. كما أكد زيلينسكي أنَّ تمويلَ ومساعدة الجيش الأوكراني سيكونان جُزءًا من أيِّ ترتيبٍ أمني مستقبلي. وسيشمل ذلك شراكات استراتيجية في التطوير والإنتاج، بالإضافة إلى المشتريات. وتشيرُ التقارير أيضًا إلى أنَّ الضمانات الأمنية ستشملُ شراء أوكرانيا لمعدات عسكرية أميركية بقيمة 90 مليار دولار من خلال حلفائها الأوروبيين. كما اقترح زيلينسكي إمكانية شراء الولايات المتحدة لطائرات بدون طيار أوكرانية الصنع في المستقبل.
ووفقًا للأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مارك روته، كان هناك أيضًا نقاشٌ حول ضمان أمني لأوكرانيا من نوع المادة 5، في إشارة إلى الجُزء من معاهدة “الناتو” الذي يُكرّسُ مبدأ الدفاع الجماعي لجميع الأعضاء.
لكن، وخلافًا للاعتقاد السائد، فإنَّ المادة 5 من اتفاقية حلف “الناتو” لا تُلزم أعضاء الحلف فعليًا بالتدخل العسكري الكامل في حالة تعرُّضِ أيِّ عضوٍ للهجوم. إنها تسمح لدول “الناتو” بتحديد نوع الدعم، إن وجد، الذي ستقدمه. ولن يكون هذا كافيًا لأوكرانيا. كما إنَّ أيَّ “ضمانات أمنية” أميركية لأوكرانيا -وأي نوع من “التعهُّد الدفاعي الجماعي” على غرار المادة الخامسة ل”الناتو”- سيرتبط بشرطٍ تمويلي ستتحمله أوروبا، كما جرت العادة في السياسات “الترامبية النموذجية” في هذا السياق.
لقد عرفت أوكرانيا في ما مضى ما هي نتيجة فشل أي اتفاق أمني. ففي مذكرة بودابست للضمانات الأمنية التي وُقِّعت في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1994 في بودابست بين أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة تعهدت الدول الثلاث الكبرى (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا) باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها على أراضيها، وحمايتها من أيِّ عدوانٍ خارجي، مقابل تخلّيها عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم. ولكن الذي وقع فعليًا أنَّ روسيا غزت أوكرانيا أول مرة في العام 2014 ، وأنها احتلت شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونيتسك ولوهانسك ، ثم شنت غزوًا شاملًا في العام 2022. بناءً على هذه السوابق، يصرُّ زيلنسكي والأوروبيون على أن يكون أيُّ ضمان أمني مستقبلي لأوكرانيا محدَّدًا وصارمًا.
وفي كلِّ الأحوال، لا يبدو أنَّ أوكرانيا ستوافق أبدًا على أيِّ اعترافٍ رسمي أو قانوني بضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم أو أيٍّ من المناطق الأربع الأخرى التي تحتلها روسيا جُزئيًا الآن – لوهانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون. لقد أصرَّ زيلينسكي على أنَّ أوكرانيا لن تتنازل عن أيِّ أراضٍ لروسيا في أيِّ اتفاق سلام. والحال أنه لا يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار بمفرده، إذ يتطلّبُ تغيير أي حدود إجراء استفتاء وتعديل الدستور. وهذا لن يكونَ سهلًا. أولًا، لإنها خطوة غير شعبية على الإطلاق. وثانيًا لأنَّ هذه الأراضي تتمتع بتحصينات عسكرية أوكرانية واسعة، والتخلّي عنها سيجعل أوكرانيا عُرضةً تمامًا للغزوات الروسية المستقبلية، وبالتالي لن تتمتع البلاد عمليًا بأيِّ حمايةٍ عسكرية على طول مناطق حدودها الشرقية. وفي الأخير فإنَّ هذا الأمر سيضع روسيا في وضعٍ مُميزٍ للغاية في الخطط المستقبلية لإعادة تنظيم صفوفها وشنِّ هجومٍ جديد. وحتى لو شعر زيلينسكي بأنه مُجبَرٌ على الموافقة على نوعٍ من الاحتلال المؤقت وتجميد الصراعٍ على طول خطوط المواجهة الحالية، فليس من المحتمل أن بإمكان أوكرانيا التخلي عن أيِّ أرضٍ لا تزال تحت سيطرتها.
كما يخشى الأوروبيون من إمكانية تحقيق وقف إطلاق نار ميداني لا يُصاحبه خطة سلام شاملة قدر الإمكان، تُقدم، من بين أمور أخرى، ضمانات أمنية قوية لكييف لردع بوتين عن شنِّ هجوم جديد. ويذكر الأوروبيون هنا أن اتفاقيات مينسك، التي كان من المفترض أن تُنهي القتال بين جمهوريتي دونباس الانفصاليتين، المدعومتين من موسكو، وكييف، فشلت في منع الغزو الروسي في 24 شباط (فبراير) 2022.
يخشى الأوروبيون أيضًا أن تقبلَ إدارة ترامب بتنازلات إقليمية كبيرة، مما يُرسّخ المكاسب التي حققتها القوات الروسية على الأرض. ولذلك يتضامنون في عدم السماح بالاعتراف النهائي بضمِّ الأراضي التي تحتلها روسيا أو بتقسيم البلاد. فالأمر يتعلق بالدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا، من دون استبعاد إعادة توحيدها في نهاية المطاف، كما كان الحال خلال حقبة الستار الحديدي في ألمانيا (جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديموقراطية). وبما أنَّ إدارة ترامب استبعدت مسبقًا عضوية أوكرانيا في حلف “الناتو”، فإنَّ الأوروبيين يُصرّون على “الضمانات الأمنية” التي يَعِدون بتقديمها لكييف، بدعمٍ أميركي إن أمكن، عند الضرورة. وبعيدًا من مصير أوكرانيا، يخشى الأوروبيون من عواقب أيِّ اتفاقٍ سيِّئ على البنية الأمنية للقارة الأوروبية. ويتعلق هذا تحديدًا بالقوات والأصول العسكرية المُتمركزة مسبقًا على الجناح الشرقي لأوروبا. يوجد حاليًا ثماني كتائب متعددة الجنسيات تحت لواء حلف شمال الأطلسي، في دول البلطيق الثلاث، في بولندا ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا والمجر، بقوات تتراوح بين 1000 و4500 جندي، حسب كل دولة. مع ذلك، ترغب روسيا في مناقشة وجود هذه القوات، وينبغي التذكير هنا أنه وفقًا للرواية الروسية، كان مبرر اندلاع الحرب ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 تعزيز وجود “الناتو” على الجناح الشرقي. يوجد حاليًا حوالي 100 ألف جندي أميركي في أوروبا، وقد يوافق ترامب سريعًا على خفض هذا الانتشار بنسبة 20% على الأقل. علاوة على ذلك، قد نشهد عودة ظهور “مبدأ بريجنيف 2.0″، أي مبدأ السيادة المحدودة في المناطق المجاورة لروسيا مباشرةً، مع إعادة بناء موقع دفاعي. وسيُسهّل ذلك صعود أحزاب شعبوية “مناهضة للنظام”، أو حتى مؤيدة لروسيا علنًا، ليس فقط في دول الاتحاد السوفياتي السابق، بل أيضًا في أوروبا الوسطى.
في حال التوصُّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، ما هي الضمانات الأمنية المطلوبة؟
بما أنَّ عضوية حلف شمال الأطلسي غير واردة في المدى القريب، فإنَّ الحلَّ الأفضل بالنسبة إلى أوكرانيا ربما يتمثّل في ضمانةٍ أمنية مدعومة بقوات أوروبية على الأرض. هناك سابقة: لقد وُضعت اتفاقية “برلين زائد” (Berlin Plus) المُبرَمة بين حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2002، من أجل السماح للاتحاد الأوروبي بالاستفادة من الأصول العسكرية لحلف “الناتو” في عملياته الخاصة في مجال حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي، بما يلبي الحاجة الأوروبية لقدرات عسكرية مستقلة.
ومنذ العام 2018، تقود المملكة المتحدة أيضًا قوة استطلاعية متعددة الجنسيات قوامها حوالي 10,000 جندي. وقد ناقش مسؤولون فرنسيون إنشاء قوة تدخل سريع مماثلة قوامها 10,000 جندي، ويمكن نشر كليهما لتأمين أوكرانيا. لكن الاتحاد الأوروبي سيحتاج إلى حشد ما لا يقل عن 30,000 جندي، بالإضافة إلى دعم لوجستي واستخباراتي أساسي من الولايات المتحدة، لإنشاءِ رادع موثوق. لذلك، هناك حديث عن “قوة طمأنة” أوروبية تعمل خلف القوات الأوكرانية على طول خط وقف إطلاق النار. وسيكون نشر هذه القوة مشروطًا بشبكة أمان يوفرها الأميركيون. ومن شأن هذه الشبكة (التي يُفترض أنها تؤمن غطاء جويًا) أن تُثبط أي محاولة من جانب روسيا لانتهاك اتفاقية السلام والدخول في صراع مع القوات الأوروبية المنتشرة في أوكرانيا.
لذلك لا يمكن أن يكون ذلك بواسطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بل بقوات تتكون من كتائب من دول أوروبية عدة، بما في ذلك دول غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي (أشارت بريطانيا العظمى بالفعل إلى أنها ستشارك في هذا الانتشار، وكذلك فرنسا والسويد وفنلندا). سيكون لهذه القوة أهمية ثلاثية:
- ستُرسل إشارة قوية إلى موسكو لثنيها عن استئناف الأعمال العدائية.
- ستشير إلى التضامن الأوروبي القوي مع أوكرانيا.
- سترسل رسالة واضحة إلى الأميركيين بأنَّ الأوروبيين يأخذون هذا الضمان الأمني على محمل الجد وأنهم مستعدّون للمخاطرة.
في الواقع، لا يمكن أن يكونَ هناك سلامٌ دائم في أوكرانيا من دون الأوروبيين. ولكن، بالإضافة إلى الضمانات الأمنية، تحتاج أوكرانيا إلى استثمارات أجنبية كبيرة لإعادة بناء اقتصادها وتحقيق الرخاء. وهنا تكمن فرصة للولايات المتحدة. وكما يعترف ترامب، فإنَّ أوكرانيا غنية بالمعادن الأساسية والأتربة النادرة التي تحتاجها أميركا، على الرُغم من أنَّ بعضها يقع في دونباس أو بالقرب منها. يعتقد ترامب أنه يجب أن يكون للولايات المتحدة حق الوصول إلى هذه الموارد، مع منع الصين وروسيا من القيام بذلك. ووفقًا لمنطقه المعاملاتي التجاري المعروف، يرى الرئيس الأميركي هذا كوسيلة للتعويض عن المساعدات العسكرية والمالية الأميركية لأوكرانيا. ينعكس نهج ترامب تجاه أفغانستان خلال فترة ولايته الأولى في نهجه اليوم تجاه أوكرانيا. كتذكير، تفاوضت إدارة ترامب على اتفاقية سلام أولية مع طالبان في الدوحة، مستبعدة الحكومة الأفغانية من المحادثات. في النهاية، أعطت الاتفاقية الأولوية لإنهاء الحرب بسرعة، مع تحديد موعد نهائي قصير الأجل للانسحاب الأميركي. احترمت إدارة بايدن الاتفاقية، حيث إنها أخرت الانسحاب الكامل لمدة أربعة أشهر فحسب.لا يريد ترامب جعل أوكرانيا تصبح أفغانستان جديدة له. لذلك هو مستعجل في محاولة إنهاء الحرب. لكن التوصل إلى اتفاق يتم التفاوض عليه على عجل على حساب حلفائه وشركائه سيكون خطأً فادحًا، إذ قد يُشجع هذا خصوم الولايات المتحدة، ويُفكك التحالف عبر الأطلسي، ويُصعّب التحول نحو آسيا، ويُظهر فشلًا ذريعًا للديبلوماسية الأميركية، ناهيك عن تقويض رغبة ترامب في الظهور بمظهر صانع السلام الأبرز. وقد صرح ترامب مرارًا بأنَّ عدم امتثال روسيا سيؤدي إلى اضطراب اقتصادي حاد في اقتصاد الحرب الروسي. ومن المرجح أن تستهدف العقوبات الأميركية، في حال تفعيلها، ما يُسمى بأسطول ناقلات النفط الروسي الذي يستخدمه الكرملين لبيع النفط بأسعار أعلى من الحد الأقصى للسعر الذي فرضته مجموعة السبع، وهو 60 دولارًا أميركيًا (45 جنيهًا إسترلينيًا) للبرميل (حاليًا). ويدرس الرئيس الأميركي أيضًا فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الواردات من الدول التي لا تزال تشتري النفط الروسي. وسيؤثر هذا بشكل خاص على الصين والهند، أكبر مستهلكي النفط الروسي. فإذا خفضت بكين ونيودلهي وارداتهما من النفط، فسيحرم ذلك اقتصاد الحرب الروسي من إيرادات ضرورية للغاية.
لكن هذا أمرٌ مستبعد. فهناك شكوكٌ جدية في إمكانية دفع الصين بسهولة إلى التوقف عن الاعتماد على إمدادات النفط الروسية. كما أشارت الهند إلى أنها لن ترضخ للضغوط الأميركية. وبينما تستمر المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين، انهارت المحادثات مع الهند في الوقت الحالي. ولكن، كمؤشر محتمل إلى عزم ترامب على زيادة الضغط على الكرملين وحلفائه المفترضين، فرض الرئيس الأميركي رسومًا جمركية إضافية بنسبة 25% على الواردات الهندية إلى الولايات المتحدة. ستُضاف هذه الرسوم إلى الرسوم الحالية البالغة 25%، وستدخل حيز التنفيذ في غضون ثلاثة أسابيع.
قد تواصل الصين والهند مقاومة الضغوط الأميركية علنًا. ولكن، نظرًا إلى أن مليارات الدولارات من التجارة على المحك، فقد تحاولان استخدام نفوذهما لدى بوتين لإقناعه بتقديم بعض التنازلات على الأقل، مما قد يؤدي إلى وقف إطلاق النار. قد يمنح هذا كلًا من ترامب وبوتين مخرجًا يحفظ ماء وجهيهما، وإن لم يكن مخرجًا يُقرّبهما كثيرًا من اتفاق سلام.
(الحلقة الثانية: أميركا والصين).
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.