آسيا، في الطريق إلى الإمساك بأقدار “أوراسيا” ورُبَّما بأقدار العالم، مُستقبَلاً!
الدكتور فيكتور الزمتر*
استضافت الصين، بين 31 آب (أغسطس) الفائت وأوَّل أيلول (سبتمبر) الجاري، قمَّة “مُنظَّمة شنغهاي للتعاون”، أرادت لها بكين أنْ تكونَ أهمَّ قمَّةٍ في تاريخ المُنظَّمة، كاتحادٍ إقليميٍّ سياسيٍّ أمنيٍّ واقتصاديٍّ. وتُوِّجت القمَّةُ بعرضٍ عسكريٍّ لافتٍ، أبهرَ الحاضرين، بقدر ما أقلقَ الغربَ وحلفاءه الآسيويين.
توقيتُ القمَّة تزامنَ مع ظروفٍ بالغة الدقَّة، تزدحمُ فيها الإنقسامات الدوليةَ، بين مُغَرِّبٍ ومُشَرِّقٍ، على وقع مأساتَيّ أوكرانيا، في قلب أوروبا، وفلسطين، في قلب العالم العربي، إضافةً إلى الملف النووي الإيراني وقضيةُ تايوان وبحر الصين. وكانت حربُ التعريفات الجمركية الغائبةَ الحاضرةَ في القمَّة، خالطةً أوراقَ التحالفات، وزارعةً الفُرقةَ ضمن العائلة السياسية الواحدة.
تشغلُ مساحةُ دُوَل “مُنظَّمة شنغهاي للتعاون”، المُتعدِّدة الموارد والأسواق، قرابةَ ثلث مساحة اليابسة، وأكثر من 60% من مساحة “أوراسيا”. ويُقاربُ عددُ سكانها نصفَ سكان العالم، يُنتجون رُبعَ الإنتاج العالمي، ويُحقِّقون نموًّا بمتوسط 5.4%، مع تسجيل التجارة البينية، 725 مليار دولار، عام 2024.
حملت القمَّةُ أكثر من رسالةٍ، بالشكل والمضمون، إذ لم تشأْ الصين أنْ تكونَ القمَّةُ مُجرَّدَ اجتماعٍ ديبلوماسيٍّ روتينيٍّ، تُتلى فيه الخُطبُ، قبل أنْ تقفلَ الوفودُ عائدةً إلى ديارها، بدون مُتابعة المُقرَّرات المُتَّخذة. فهي فُرصةٌ لمناقشة قضايا أمنيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ، على المستويين الإقليمي والدولي، ولاستشراف التوجّهات المُستقبلية للتعاون، على ضوء إرهاصات التحوُّلات في النظام العالمي الراهن.
في خطابه الإفتتاحي، مُتقمِّصًا بِزَيّ الزعيم “ماو تسي تونغ”، حدَّدَ الرئيسُ الصيني، نجمُ القمَّة ومُضيفُها، معالمَ جدول الأعمال، المُفضي إلى المُقرَّرات. فقد دعا إلى “الحوكمة العالمية”، من خلال إفساح المجال أمام دُوَل الجنوب العالمي، للعب دورٍ رياديٍّ في رسم مُستقبل النظام الدولي العتيد. وهذا استهدافٌ مُباشرٌ للهيمنة الآحادية على أقدار العالم، بقدر ما هو دعوةٌ للتعدُّدية الحقيقية، الرافضة “للهيمنة والإنقسام إلى تكتُّلاتٍ”.
جرى العملُ على تخصيص مُنظَّمة شنغهاي ببنكٍ جديدٍ للتنمية، يُغني أعضاءَها عن الإعتماد على المؤسَّسات المالية الغربية. وكشفت بكين عن عزمها إنشاء مركزٍ للتعاون في مجال الذكاء الإصطناعي، إلى جانب وضع خطةٍ عشريةٍ، لترسيخ التعاون ضمن دُوَل المُنظَّمة. واتُّفِقَ على دعم النظام التجاري، بقيادة “مُنظَّمة التجارة العالمية”، والدعوة إلى إلغاء الإجراءات الآحادية، التي تنتهكُ قواعدَها.
من حيثُ الشكل، كانت لافتة أجواءُ الحبور والإرتياح، التي بدت على وُجوه المُشاركين، لا سيَّما الثُلاثي الصيني الروسي الهندي، إضافةً إلى زعيم كوريا الشمالية. هذا الإرتياحُ من شأنه إغاظةُ الإدارة الأميركية، ويدفعُها للشكِّ بما يُحاكُ ضدَّ زعامتها الآحادية، واستهداف هيمنة عملتها على التبادُل التجاري الدولي.
مُنذُ سقوط الإتحاد السوڤياتي، تتفرَّدُ الولايات المُتحدةُ بزعامة العالم، وتدرسُ إداراتُها، الجمهوريةُ والديموقراطية على السواء، سُبُلَ إدامة هذه الزعامة، من خلال إعاقة توحيد “أوراسيا”، تحت زعامةٍ رائدة مُنافسةٍ”، تحسُّسًا مُبَكِّرًا من نُهوض الصين. وجاءت قمَّةُ “مُنظَّمة شنغهاي للتعاون” لتؤكِّدَ صحَّةَ التحسُّس الأميركي.
من المُبكر جدًا توقُّعُ الأُفولُ الوشيك للزمن الأميركي، وإن اعترى هيمنةَ واشنطن على أقدار العالم بعضُ الشحوب، نتيجة سياستها الفوقية. هذه الإشكاليةُ تبقى مسألةَ وقتٍ، قد يطولُ أو يقصرُ، قياسًا على تعاظُم المُعارضة للسياسة الأميركية الدولية، وعلى تماسُك وحدة دُوَل الجنوب، لا سيَّما الأعضاء في “مُنظَّمة شانغهاي للتعاون” ومُنظَّمة “BRICS”، العازمتين على عالمٍ مُتعدِّد الأقطاب والعُمُلات.
مسؤوليةُ الولايات المُتحدة واضحةٌ، في التحوُّلات الحاصلة على حساب رصيدها السياسي، بسبب سياسة التسلُّط والإستفراد والإستبعاد. تلك السياسةُ المُتغطرسةُ ألقت الدبَ الروسي والفيلَ الهندي في أحضان التنين الصيني، ولو ظرفيًا، بسبب التنافُس على زعامة آسيا الوسطى ومنطقة الهندو باسيفيك.
صحيحٌ أنَّ مجموعتَي “شنغهاي” و “BRICS” ليستا تحالفًا عسكريًا، إلّا إنَّهما أشبهُ بتحالُفٍ ناعمٍ، على قاعدة التعاون والشراكة، بلوغًا للتكامل الإقتصادي، الذي قد يفتحُ الطريقَ أمام التحالُف العسكري، متى اقتضت المصالحُ ذلك.
ومع ذلك، ثمَّة معوّقاتٌ كبيرةٌ دون بلوغ ديبلوماسية الصين الناعمة مقاصدها البعيدة. فالولاياتُ المُتحدة، رُغمَ ترهُّل حضورها، ما تزالُ على مِنعةٍ لا يُستهانُ بها وبتحالُفاتها، شرقًا وغربًا. إنَّ شعورَ اليابان والفليبين وڤيتنام وكوريا الجنوبية وأوستراليا بالإستهداف، سيدفعُها، أكثر وأكثر، إلى التدثُّر بالحماية الأميركية.
وحدُه المشرق العربي يبقى خارجًا عن مشهدية قمَّة مُنظَّمة شنغهاي، بالرُّغم من مُشاركة تركيا ومصر فيها. وقد يعودُ ذلك إلى فشل “مُنظَّمة شنغهاي” ونظيرتها مجموعة “BRICS” في إحداث خرق في تغلغُل النفوذ الأميركي بأقدار المشرق، الأمرُ الذي يُطلِقُ يدَ إسرائيل للعبث بالخرائط والحدود.
بالقدر ذاته، يُخشى أنْ تكونَ نُقطةُ ضعف “مُنظَّمة شنغهاي للتعاون” كامنةً بإجماع أعضائها على رفضٍ ظرفيٍّ للإملاءات الأميركية. لذلك، على الدُوَل الأعضاء مسؤوليةُ التأكيد على أنَّ المُنظَّمةَ ليست ضدَّ أحدٍ، بل لبناء الثقة والأمن والتكامل الإقتصادي، كرمى للسلام ولرفاه الشعوب. كما من مسؤولية الصين إبقاء المُنظَّمة راسيةً على التكافُل الإقتصادي، دحضًا مُسبقًا لمن يشكُّ بأنَّها عازمةٌ على استبدال زعامةٍ بأُخرى.
وما يزيدُ من هذه الشكوك، الخلفياتُ التاريخيةُ بين دول المُنظَّمة، وتحديدًا بين الصين والهند وروسيا. فلكلٍّ من هذه الدُوَل طموحاتٌ، تُشكِّلُ تحديًا لهيمنة أيٍّ منها على المُنظَّمة. من هنا، تُحسِنُ “مُنظَّمةُ شانغهاي للتعاون” فعلًا، إنْ ألزمت أعضاءَها بعدم الإنحياز، تظهيرًا لادِّعائها أنَّها حاميةُ السلام، من خلال التنمية والتعاون والتحاور.
طُموحُ الصين لقيادة العالم مشروعٌ ومُستحَقٌ، شرطَ أن تبقى ضمانةً لبناء عالمٍ قائمٍ على الشراكة والعدالة والإنسانية. فما حقَّقته الصينُ من ريادةٍ وتقدُّمٍ وحداثةٍ، لم يكنْ بحدِّ السيف ولا بالإستعمار، بل بالجهد والمُثابرة والعُمران، خلافًا لنشوء الأمبراطوريات الإستعمارية، على حساب خُبز ودماء الفقراء، والمُتدثِّرة، زورًا، بشعارات حقوق الإنسان!
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.