أزمةُ النووي الإيراني: أيُّ مَسارٍ سنَشهَد
الدكتور ناصيف حتّي*
يَتَّسِمُ مَشهَدُ الملفِّ النووي الإيراني هذه الأيام بمزيدٍ من السخونةِ والتصعيد. وهو بالطبع يؤثّرُ ويتأثّرُ بالملفّات الساخنة الأُخرى والمُتزايدة في درجةِ سخونتها في المنطقة.
عادَ مُجدَّدًا وبقوّة الحديث عن احتمال العودة إلى ما يُسمى “نموذج الحرب”، في إشارةٍ إلى حرب الأيام الاثنَي عشر التي شنّتها إسرائيل بدعمٍ من الولايات المتحدة ضدّ إيران في الفترة الممتدة بين 13 و24 حزيران (يونيو) الماضي، بهدفِ تدمير البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني. وحتى اللحظة، لا تتوافرُ صورةٌ كاملة ودقيقة عن حجمِ الأضرار التي لحقت بالقدرة النووية الإيرانية، ولا عن المدة الزمنية اللازمة لإعادة بناء وتأهيل ما دمّرته الحرب الإسرائيلية. فمنذ سنوات، اعتمدت إسرائيل على أساليب مُتعدّدة لمنع إيران من تطوير قدراتها النووية، بدءًا من عمليات التخريب وصولًا إلى اغتيال علماءٍ نوويين. ويأتي ذلك في إطارِ التزامها الراسخ بمبدَإٍ استراتيجي شكّلَ أساسَ عقيدتها النووية منذ اليوم الأول، وهو “منع انتشار السلاح النووي في المنطقة بالقوة”، بما يضمن بقاءها الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، حتى لو كان الهدفُ من امتلاك القدرة النووية لدى أيِّ طرفٍ آخر يقتصرُ على الاستخدام المدني.
في هذا السياق، عادت الأطرافُ الأوروبية المُوقّعة على الاتفاق النووي لعام 2015 (فرنسا، بريطانيا، وألمانيا) –المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” أو “اتفاق 5+1″– لتؤكّد استعدادها للجوء إلى تفعيل ما يُعرف بآلية “الزناد”. وهذه الآلية تعني إعادة فَرضٍ حزمةٍ من العقوبات الدولية على إيران وفقًا لما ينصُّ عليه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 المرتبط بالاتفاقية، وذلك في حال أخلّت طهران بالتزاماتها.
المشهَدُ اليوم، يُمكنُ وصفه بالتصعيد (السياسي) الحاد بَعدَ الجمود المتوتّر في المفاوضات والحامل لمزيدٍ من التوتّرات بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث (المُشار إليها سابقًا) من جهةٍ أخرى رُغمَ استمرارِ التفاوض غير المباشر بشكلٍ خاص بين الأطراف المعنية.
الأمرُ ذاته يمتدُّ أيضًا إلى العلاقة المتوتّرة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية. ففي حين تُطالِبُ طهران بضرورةِ صياغةِ إطارٍ جديدٍ للتعاون مع الوكالة، يردّ المدير العام للوكالة، رافائيل غروسي، بتحذيراتٍ مُتكرّرة من أنَّ المجالَ المُتاح للديبلوماسية يضيقُ يومًا بعد يوم. ومن جانبها، كانت الوكالة قد كشفت في تقاريرها الأخيرة أنَّ مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب والذي وصل الى نسبة 60 في المئة (وبالتالي سهولة الوصول إلى ما يعرف بالعتبة النووية أو درجة تخصيب 90 في المئة) سيسمح بإنتاج 10 رؤوس نووية. بهذا المعطى، تُصبحُ إيران أقرب من أيِّ وقتٍ مضى إلى دخول “النادي النووي”، وهو الخيار الذي يُشار إليه غالبًا بـ”الخيار الكوري الشمالي”. ومع ازديادِ المؤشّرات، تتصاعدُ التقديرات بشأن احتمال لجوء إيران بالفعل إلى هذا الخيار.
خياراتٌ أو مساراتٌ ثلاثة تُوجَدُ اليوم على “المسرح الاستراتيجي الشرق أوسطي” في هذا الخصوص: أوّلًا، الاستمرار بالتفاوض بشكلٍ متقطّع ومباشر وغير مباشر، قبل بلوغ نهاية هذا الشهر حيث تدخلُ العقوبات حيّز التنفيذ، للوصول إلى صيغةِ تفاهُمٍ جديدة، وهو أمرٌ ليس من السهل التوصُّل إليه. ويعودُ التوتّر والتصعيد السياسي بأشكالٍ مختلفة ليحكم الوضع الغربي-الإيراني، ومع التوتر تأتي المواجهة غير المباشرة في الملفات الاقليمية الساخنة، والتي أشرنا إليها سابقًا كوسيلةٍ للتفاوض.
ثانيًا، قيامُ إسرائيل بدعمٍ من واشنطن بحربٍ جديدة على إيران تؤدّي إلى توتّراتٍ مفتوحة في الزمان والمكان الشرق أوسطي، بانتظار العودة غير السهلة بالطبع لإطلاقِ مسارٍ تفاوضي مستقبلي بصيغةٍ مختلفة، إن لم يكن بالشكل ففي المضمون مع مزيدٍ من التعقيدات التي تنتج عن حربٍ من هذا النوع. مفاوضاتٌ تستندُ إلى المعطيات والدروس المختلفة لتلك الحرب في ما لو حصلت، مع التذكير بالعقدة الجديدة التي أدخلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على طاولة المفاوضات، وقوامها الرفض الكُلّي لامتلاك إيران لأيِّ مخزونٍ من اليورانيوم على أراضيها حتى للاستعمال السلمي كما تنصُّ عليه القواعد والمبادىء المعمول بها في هذا المجال، واستبدال ذلك بقبولِ إيران بمركز تخصيبٍ إقليمي في الخليج تشارك فيه ولكن خارج أراضيها وهو أمرٌ مرفوض كُلّيًا من إيران.
ثالثًا، نجاحُ الوساطة الروسية-الصينية، أو الديبلوماسية الاستباقية ولو في اللحظة الأخيرة، للتمديد ستة أشهر، في إطار مرجعية قرار مجلس الأمن الدولي المُشار إليه سابقًا، قبل تفعيل “آلية الزناد” باعتبار أنَّ الوقت الجديد قد يسمح بالتوصُّلِ إلى تفاهُمٍ جديد. تفاهمٌ قد يستندُ إلى ما يُسمّيه البعض بالصفقة الكبرى التي قد تشمل إلى جانب الملف النووي بعضًا من الملفّات الإقليمية الأُخرى. الأمرُ الذي يعني أيضًا مشاركةَ أطرافٍ دولية واقليمية أُخرى بشكلٍ خاص معنية مباشرة بهذه الملفات، في تسهيلِ التوصُّل إلى تفاهُمٍ شاملٍ وواسعٍ يسمحُ بالعمل على تعزيزِ الاستقرار في الإقليم الذي يعيش على صفيحٍ ساخن ويزداد سخونةً كلّ يوم .
لا ندري ما هو الاحتمال، من الاحتمالات الثلاثة، هو الأكثر حظًّا في تشكيل المسار المستقبلي لهذا النزاع، لكنَّ المستقبلَ القريب سيحملُ المؤشِّرات إلى المسار الذي سيتمُّ اتباعه في شرقِ أوسطٍ حافلٍ بالتوتّرات والصراعات المختلفة الاشكال والتداعيات، والترابط المباشر وغير المباشر بينها.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).