أصيلة تُحَرِّضُ على النقاش: دورُ النُخَب العربية في المَهجَر!
محمّد قوّاص*
للمغرب تجربةٌ خاصة وربما فريدةٌ في المهجر. تبرزُ أسماءٌ من أصولٍ مغربية تقلّدت مناصبَ داخل البرلمانات والحكومات الأوروبية قلّما حقّقتها وجوهٌ من أصولٍ عربية. نشطَ المغاربة داخل الأحزاب، لا سيما الكبرى، في الدول الغربية، بما كشفَ عن تَوقٍ إلى اندماجِ المُهاجرين المغاربة داخل المجتمعات التي وفدوا إليها وانخراطهم المباشر داخل المؤسّسات الأهلية والنقابية والحزبية السياسية. بدا ذلك تَمَيُّزًا ملفتًا مُقارنةً بجدلٍ عقيمٍ لا ينتهي يشأن حلال وحرام الاندماج تناقشه فتاوى الدين واجتهاداتها، ومدى وطنيّة هذا الفعل من عدمه داخل سجالاتِ الهَويّة وعلاقة هامش الهجرة بمركز الوطن.
يَنظرُ المغرب إلى المهاجرين في الخارج بصفتهم في مركز المشهد الاجتماعي العام وليس على هامشه. يُشارِكُ مهاجرو المملكة في الانتخابات التشريعية التي، منذ التعديلات الدستورية التي أدخلها العاهل المغربي، الملك محمد السادس، في العام 2011، تُحدّدُ طبيعة المشهد الوزاري وتوجّهاته. والمهاجرون، بهذا المعنى، جُزءٌ من موارد المملكة من القوى العاملة حتى لو تغيَّرت جغرافية مكان العمل خارج الحدود. لكن اللافت أيضًا أنَّ المغاربة في الخارج ارتبطوا دائمًا وجدانيًا ببلدهم ورموزه وتقاليده وثقافته ويومياته، ولطالما تنتشرُ صور الملك محمد السادس وقبله والده الحسن الثاني في بيوت المغاربة في الخارج كتعبيرٍ حقيقي عن هذه العلاقة التي قلّما تجدها في بيوتِ مُهاجرين آخرين.
على هذا، يُمكِنُ فَهم أهمّية مسألة الهجرة في المغرب في ما سعت إحدى ندوات “موسم أصيلة الثقافي الدولي” في نسخته الخامسة والاربعين هذا العام إلى إثارته. أقبلت أصيلة، غير البعيدة من مدينة طنجة المُطلَّتَين على المحيط الأطلسي، على مسألةِ الهجرة بمعناها العربي العام مُتسائلةً عن دور النُخَب العربية في المهجر في مواجهة التحدّي والبحث عن الدور.
على مدى يومين (17-و18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري) تولّت مجموعةٌ من العاملين في الفكر والثقافة والسياسة والأكاديميا والإعلام الجدل والسجال في شأن ما تُمثّله الهجرة من جوانب وظواهر، وما تكشفه من امتيازات وميّزات. ثلاثُ جلساتٍ بدا فيها المشاركون باحثون عن حقائق استدرجهم إليها عمدة المدينة، وزير الثقافة والخارجية السابق، محمد بن عيسى. حَملَ الرجلُ المغرب في قلبة سفيرًا وبرلمانيًا ووزيرًا، وحمل أصيلة في يومياته فأخرجها من الظلِّ ووضعها منذ أربعة عقود تحت شمس مواسمها الثقافية السنوية في حضرة التاريخ وفضاء جغرافيا المكان.
جرى الجدلُ بشأن طبيعة الهجرة العربية وتفاوت تواريخها بين مشرقٍ ومغرب واختلاف جغرافياتها في قارات الكوكب. منهم مَن سلّط المجهر على ظروفِ الهجرة ومحفّزاتها. ومنهم من ألقى ضوءًا على تطوّرِ وربما تراجُعِ شروطِ الدول الحاضنة لتلك الهجرة. راجت التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا. باتت الهجرة والمهاجرين مادة استقطاب داخل البرامج السياسية للأحزاب مُخَصَّبة بأجواءٍ عدائية تجدُ لها مواطن في القوانين المُستَجِدّة.
في بعض الجدل، تحميل المهاجرين مسؤولية ضعف اندماجهم داخل مجتمعات بلدان المهجر وضعف انخراطهم داخل الهياكل النشطة لتلك البلدان. في المسؤولية المشتركة، عزل دول الاستقبال المهاجرين في مناطق أضحت كانتونات منفصلة. وفي المسؤولية أيضًا، عزل المهاجرين أنفسهم عن العالم عبر آليات مجتمعية ودينية وثقافية. ومع ذلك يبقى السؤال بشأن دور النخب في ضبط حركة الهجرة ومساراتها.
والهجرة بالمعنى المُطلَق ليست عيبًا أو عارًا أو علّة. هي من سنن عيش الإنسانية منذ الأزل. تنقّل البشر بحثًا عن الماء والكلأ، واستمرّوا في هذا الترحال سعيًا وراء الأفضل في الرزق والعلم والقِيَم. وسواء كانت الهجرة خيارًا أم منطقًا للانتقال إلى واقعٍ أفضل، فإنها باتت واقعًا لا نهاية له. ما زالت الأسباب التي دفعت الناس إلى مغادرة الوطن لتوسّلِ وطنٍ آخر متوفّرة وتتفاقم دوافعها على ما تفضحه “قوارب الموت” هذه الأيام. ومع ذلك فإنَّ تراجيديا الظاهرة تبقى نسبية وهامشية مُقارنةً بما حققته الهجرة من انجازاتٍ حضارية هائلة انتشلت جماعات من واقعٍ وقدّمت إلى العالم وجوهًا برعت في العلم والثقافة والأدب ودُنيا الأعمال والسياسة.
تولّى المتحدّثون والذين حضروا جلسات الندوة الثلاث تبادُل الرؤى والأفكار حول ظواهر الهجرة في الأميركتين، الشمالية والجنوبية، ومقارنتها بظروف الهجرة إلى أفريقيا وأوروبا وبعض مناطق آسيا. في البحث كثيرٌ من انجازاتٍ وأمثلةِ نجاح حملت سياسيين من أصولٍ عربية إلى تصدُّرِ الحُكم في بعض دول أميركا اللاتينية، وحملت رجالَ أعمالٍ إلى التأثير في اقتصاد وسياسات دول أفريقية. بدا من صدى النقاش أنَّ للهجرة دينامياتها الخاصة التي لا يُمكنُ ضبطها والسيطرة على حركيتها. بدا أيضا للنجاح كما للفشل حكايات فردية لا يمكن تعميمها أو جعلها أمثلة تُحتَذى أو وجب تجنبّها.
لاحظَ النقاشُ أنَّ تشوّها أصاب السمعة العربية بسبب ظواهر التطرّف والمغالاة وازدهار أنشطة الجماعات الإرهابية. قد يُفسّر ذلك ما كُشف عن تراجع أعداد الكتب المترجمة عن العربية سنويًا وانخفاض أعداد الأجانب المُقبلين على تعلُّمِ اللغة العربية. لاحظ أيضًا عودة الاهتمام بالشأن العربي بسبب الأسئلة التي أثارتها الحرب التي اندلعت منذ 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2023 في الشرق الأوسط داخل المجتمعات الغربية. وفيما الهجرة هي بُعدٌ إنسانيٌّ للوجود، فإنَّ طبيعةَ يوميّاتها ومساراتها تُحدّدها الصراعات الجيوستراتيجية و “لعبة الأمم”.
لم يغب هاجس “هجرة الأدمغة” عن الجدل. من داخل ذلك الهاجس تناسلَ توقٌ للبحث عن سُبُلِ استعادة الكفاءات وإعادة جذبها إلى أوطانها. وفيما يُرادُ لتلك الدينامية أن تكون ذات حوافز وطنية بالمعنى التبسيطي، غير أن “العقول” ترحلُ باتجاهِ فضاءاتٍ تحضُنُ تفعيلها وتُوَفّرُ بيئةً راعيةً لها، وليس منطقيًا إعادة استقطابها من دون توفير هذه الحواضن وتلك البيئات. وعلى الرُغمِ مما يأخذه نقاشُ الهجرة العربية من حَيّزٍ، بعضه مُقلِق، داخل البحوث العاملة على معالجة الظاهرة والاهتداء إلى فهمها، فإنها تُشكّلُ نسبةً صغيرة من عدد السكان في العالم العربي، وإن رفعت كوارث الحروب والقلاقل والفوضى في دولٍ مثل العراق وسوريا وليبيا والسودان ولبنان مثلًا من تدفّقاتها.
تُسدِلُ “أصيلة” ستارًا على نقاشِ مسألةِ الهجرة لترفعها أمام نقاشات أخرى في ندواتٍ أخرى حتى نهاية هذا الموسم. خارج قاعات النقاش تعيشُ المدينة احتفالها السنوي بالفن التشكيلي العالمي. هناك في تلك المدينة الوديعة تنتصب لوحاتٌ رَسَمَ خطوطها كبار الفنانين من داخل مشاغل تستضيفها دارات المدينة حاضنةً راعيةً ومحافظةً على تراث عمره من عمر الإطلالات الأولى للمواسم قبل عقود أربعة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas