غزّة بعد السنوار: الحاجةُ إلى وحدةٍ وطنيةٍ عاجلةٍ وفاعِلة

الدكتور سعود المولى*

أثارَ استشهادُ زعيم حركة “حماس” يحيى السنوار جُملةَ قضايا تتعلّقُ بكيفية مواجهة الحركة من بعده المرحلة المقبلة. وتبرزُ في هذا السياق أربع قضايا رئيسة مُتداخلة تُشكّلُ عصبَ الوضع الراهن في غزة وتُقرّر اتجاهاته.
1- مسألة الضربة الإسرائيلية المُتَوَقَّعة ضد إيران، وقد طال انتظارها، مع استمرارِ تأجيلها وسط ضجيج التهديد والوعيد. ويبدو أنَّ استشهاد السنوار طرحَ أمام الثنائي الأميركي-الإسرائيلي وضعًا جديدًا عبّر عنه اجتماعُ المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت)، الذي عُقد ليل الأحد 20 تشرين الأول (أكتوبر)، وانتهى من دون حسمٍ بشأن الهجوم المُرتقب على الجمهورية الإسلامية. وكان العالم يعيش منذ الأول من تشرين الأول (أكتوبر) على وَقعِ الكلام عن استعداداتٍ إسرائيلية لتوجيهِ ضربةٍ لإيران. وقد تصاعدَ هذا الاستنفار بعد استهدافِ مُسيّرة منزل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في قيساريا سارعت إسرائيل إلى اتهامِ إيران بإرسالها فيما نفت طهران ذلك مُحَمِّلةً مسؤوليتها ل”حزب الله”. لكنَّ الجديدَ هنا أنَّ اجتماع “الكابينت” انتهى من دونِ تفويضِ نتنياهو وغالانت بشأن الهجوم على إيران. ومع ذلك استمرت وسائل الإعلام الإسرائيلية ، ومنها صحيفة “يديعوت أحرونوت”، تنقل عن مسؤولين إسرائيليين أنَّ الهجومَ الإسرائيلي سيكون “كبيرًا في الأيام القريبة” المقبلة وفي الوقت نفسه استمرَّ الكلامُ الأميركي عن تزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة، خصوصًا بطاريات “ثاد”، التي بدأت الوصول إلى إسرائيل، “لمساعدتها على تعزيز الدفاعات الجوية الإسرائيلية”، على حِّد قول المتحدّث باسم البنتاغون الجنرال بات رايدر، الذي أكّدَ أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أذن بنشر البطاريات بتوجيه من الرئيس جو بايدن.
وقد توقّف المراقبون طويلًا عند ما شهده يوم السبت 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، من قضية تسريب وثائق أميركية سرية حول ما تقوم به حكومة نتنياهو من استعداداتٍ لضربةٍ واسعة ضد إيران، والتي تلقفتها مختلف وسائل الإعلام في العالم. وسرعان ما أعلنت إدارة بايدن بأنها طالبت “أف بي آي” والبنتاغون” التحقيق في كيفية حدوث تسريب “الوثائق” المُصَنَّفة سري جدًا، والجهة التي نفذته، بعدما أبدت “دهشتها” من الحدث الكبير، نظرًا لما ورد فيها من “تفاصيل دقيقة جدًا”. ووفقًا لوسائل إعلام أميركية، فإن من يحق له الاطلاع على الوثيقة هم أعضاء خلية “العيون الخمس”، أي الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، أوستراليا، كندا ونيوزيلندا. وهذا ما يطرح سؤالًا مُهمًّا يتعلّقُ بإمكانية أن يكون التسريب مقصودًا من جهاتٍ في إدارة بايدن تريد رَدعَ نتنياهو عن القيام بعمليته ضد إيران على أبواب الانتخابات الأميركية لما قد يكون لذلك من نتائج سلبية على حملة الديموقراطيين.
2- مسألة التفاوض والتسوية مع “حماس”: من نافلة القول إنَّ إسرائيل أجهضت كل محاولات إيجاد تسوية ووقفٍ لإطلاق النار في غزة. لقد التزمت “حماس” بتنفيذ بنود صفقة غزة في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 ، لكن إسرائيل أجهضتها؛ كما أجهضت لاحقًا، وبدعمٍ وتواطؤ أميركي دائمًا، لقاءات باريس 1 وباريس 2 ، في كانون الثاني (يناير) 2024 بين الوسطاء وإسرائيل. ثم تجدد التفاوض في آذار (مارس) 2024 وحصلت صفقة مقبولة من “حماس” في نيسان (أبريل). غير أنَّ كلَّ اتفاقٍ أو احتمالِ اتفاق كان يقابله قيام نتنياهو بمجازر تنسفه وتفرض واقعًا جديدًا. في 27 أيار (مايو) 2024 كان هناك مقترح اتفاق فكانت المجازر في مخيمات رفح . في 2 تموز (يوليو) حصل توافقٌ مُهمّ، لكن المجازر تكررت خصوصًا في مواصي خان يونس. وقد انتقل نتنياهو وحكومته منذ مطلع شهر تشرين الأول (أكتوبر) من المجازر المتنقلة في كل القطاع إلى فرض حصار شامل على شمال غزة وتنفيذ مجازر بشعة وتطهير إثني كما يحصل في جباليا البلد منذ 11 تشرين الأول (أكتوبر)… وحرب الإبادة الإجرامية التي تستمر بغطاءٍ أميركي وصمتٍ دولي، تهدف إلى تهجير السكان من جباليا وشمال غزة. لهذا السبب يمكن التأكيد على أنَّ نتنياهو لن يذهب إلى أي اتفاق أو صفقة وأنه يقوم بالمجازر لنسف التفاوض وفرض شروط جديدة في كل مرة، على الرُغم من انخراط “حماس” في كل المفاوضات والمبادرات التفاوضية لوقف النزيف. والحال أن نتنياهو يَجِدُ في الوضع الراهن فرصةً لتحقيق حلمه الذي أعلن عنه قبل أكثر من عشرين عامًا ويتمثّل في رؤية نفسه يقود العالم الغربي في مواجهة العالم الإسلامي، وهو منذ ذلك الحين يدعو إلى ضرب إيران ويعمل على استدراج الغرب إلى هذه المواجهة.
هذا في حين أكدت الحركة مرات ومرات على استعدادها للتنفيذ الفوري لاتفاق وقف إطلاق النار على أساس إعلان الرئيس بايدن في 31 أيار (مايو) وقرار مجلس الأمن رقم 2735، وما تمَّ التوافق عليه سابقًا خصوصًا توافقات 2 تموز (يوليو)، من دون وضع أيِّ مطالب جديدة، ورفضها لأيِّ شروط مستجدة على هذا الاتفاق من قبل أي طرف” . بالمقابل يستمر نتنياهو في تصعيد حربه على غزة ولبنان، ويعمل على توسيعها إلى إيران، مطمئنًا إلى دعم الإدارة الأميركية والصمت العربي والأوروبي وعجز المجتمع الدولي. وبعد استشهاد السنوار نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عن مسؤول رفيع قوله إنه لن يكون هناك تقدّمٌ في مفاوضات الأسرى المحتجزين بغزة قبل الانتهاء من الرد على إيران. وقد أعاد رئيس حركة “حماس” في غزة خليل الحية تأكيد موقف الحركة بأنها “لا ترفض أي شيء يخدم الفلسطينيين، وتطالب بوقف العدوان وتبادل الأسرى”… وأن “العالم كله يعرف أن نتنياهو هو من لا يريد وقف الحرب، ويعرف أن الاتفاق جاهزٌ أصلًا ومرهون بوقف العدوان من أجل تنفيذه”. هذا ودعا المستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في بيان مشترك عقب اجتماعهم في برلين، الجمعة 18 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى “الحاجة الفورية لإعادة المحتجزين الإسرائيليين إلى عائلاتهم، وإنهاء الحرب في غزة ، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين” في القطاع الفلسطيني. وذكر البيان المشترك، الذي أورده البيت الأبيض، أنَّ القادة الأربعة، بحثوا الأوضاع في الشرق الأوسط، وخصوصًا تداعيات اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” يحيى السنوار، والذي حمّلوه مسؤولية هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وجدّد القادة الأربعة “إدانتهم للهجوم الإيراني على إسرائيل”، والذي وصفوه بـ”التصعيدي”، وأشاروا إلى تنسيق جهودهم من أجل “محاسبة إيران ومنع المزيد من التصعيد”. وقال الرئيس الأميركي في تصريحات للصحافيين في برلين، إنَّ “هناك إمكانية للعمل على وقف إطلاق النار في لبنان، ولكن الأمر أكثر صعوبة في غزة”.
3- الوضع الميداني في غزة (عسكريًا وخدماتيًا): لم يستطع الجيش الإسرائيلي القضاء على جسم المقاومة رُغمَ كل المجازر الوحشية اليومية في كل القطاع. ولا تزال المقاومة تُعلن وتُظهر أنها قادرة على الاستمرار في حرب استنزاف طويلة من خلال تكتيكاتها المتمثلة في الاقتصاد بالقوى وعدم الاصطدام المباشر لتوفير الكادر والمقدرات وإنزال أكبر الخسائر بالعدو في حرب عصابات متحركة. وقد تصاعدت عمليات المقاومة في غزة وبالأخص في جباليا، لعل أبرزها كان مقتل قائد اللواء 401 العقيد إحسان دكسا، وإصابة ضابط آخر بجروح خطيرة، في معركة داخل مخيم جباليا شمالي القطاع، وذلك عقب تفجير دبابتهما بعبوة ناسفة. ويواصل جيش الاحتلال توسيع عمليات الإبادة والتدمير في منطقة مخيم جباليا، في وقتٍ يستمرّ فيه الحصار الإسرائيلي لمناطق شمال غزة. وجاء تصعيد إسرائيل لعملياتها في جباليا بعد يوم من إعلانها اغتيال يحيى السنوار. ويزعم الجيش الإسرائيلي أن عمليته في جباليا تهدف إلى منع عناصر “حماس” من إعادة تنظيم صفوفهم.
لكنَّ الوضعَ الإنساني الميداني يتفاقم خطورة. ولعلَّ ما واجهه ويواجهه الناس في غزة هو من أصعب الأوضاع التي شهدتها الحروب في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. صحيح أنَّ المقاومة والشعب الفلسطيني لم تُفاجئهم وحشية العدو فهذا معروف ومشهود في كل مراحل التاريخ الحديث والمعاصر وعبر كل المقاومات التي حصلت ضد الاستعمار والاحتلال، إلّا أنهم فاجأهم الصمت العربي والتواطؤ الدولي حتى على مستوى تلبية الحاجات الإنسانية الأساسية. فالجيش الإسرائيلي الذي فشل في تدمير قوة المقاومة لجأ إلى الحصار والتجويع والقتل لكسر إرادة الناس. وأخيرًا أعلنت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز “أنَّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية مروّعة في غزة وتذبح الفلسطينيين يوميًا في ظل دعم مطلق من دول غربية”. في حين كشفت مسؤولة الإعلام في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إيناس حمدان أنَّ إسرائيل رفضت طلبًا عاجلًا تقدّمت به الوكالة لإجلاء العالقين تحت الأنقاض جراء الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال شمال قطاع غزة. وقال سكان لـ”رويترز”، إنَّ القوات الإسرائيلية عزلت بشكل فعلي بلدات بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا في أقصى شمال القطاع عن مدينة غزة، ومنعت حركة السكان باستثناء الأسر التي تستجيب لأوامر الإخلاء، وتغادر البلدات الثلاث. وقال سكان هذه البلدات إن خدمات الاتصالات والإنترنت انقطعت، ما أدى إلى تعطيل عمليات الإنقاذ التي تقوم بها فرق الإسعاف، وقدرة الأشخاص المتضررين من الهجمات الإسرائيلية على طلب المساعدة. وأطلق مسؤولو الصحة في غزة نداء لإرسال الوقود والإمدادات الطبية والطعام على الفور، إلى ثلاثة مستشفيات في شمال غزة مكدسة بالمرضى والمصابين .
4- الحوار الفلسطيني والوحدة الوطنية: على مقلبٍ آخر عاد الحوار الفلسطيني إلى الواجهة من خلال اللقاء الذي عقد في القاهرة (في 9 و10 تشرين الأول/أكتوبر) بين حركتَي “حماس” و”فتح” والذي ترأسه كلٌّ من خليل الحية عن حركة “حماس”، ومحمود العالول عن حركة “فتح”. والجديد هو ما أكده خالد مشعل من أنَّ “الخيار النموذجي الذي وافقت عليه “حماس” حكومة وفاق وطني تشمل غزة والضفة وبالتالي تدير الوضع الفلسطيني في غزة والضفة”، موضحًا أنّ “المقصود بالوفاق الوطني ليس مشاركة وزراء من الفصائل، إنما وزراء تكنوقراط ولكن بتوافق الفصائل”.
من جهتها، طرحت حركة “فتح” “خطة واحدة تتحدث عن “تشكيل لجنة مهنية من 10 إلى 15 شخصية مُتخصّصين في ملفاتٍ عدة تأخذ على عاتقها الإشراف على إعادة الأوضاع في غزة، ومن ضمنها الجهاز الشرطي، والسيطرة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وتنفيذ مهام التعليم والصحة وكل الملفات العالقة”. أما “حماس” فطلبت “تشكيل حكومة تكنوقراط بدلًا من هذه اللجنة تكون مسؤولة عن غزة والضفة حتى لا يتم فصلهما كما يرغب الاحتلال، وتأخذ على عاتقها كل ما هو منوط باللجنة، بجانب تشكيل إطار سياسي (لمنظمة التحرير الفلسطينية التي ترأسها “فتح”) بناءً على اجتماعات العلمين في تموز (يوليو) 2023، واتفاق بكين لضم كل الفصائل للإطار”
ويبدو أنه كانت هناك ورقة مصرية أدخلت عليها حركة “حماس” بعض التعديلات، تقوم على إدارةٍ وطنية محلية في غزة من شخصيات تكنوقراط يتولون إدارة شأن القطاع ما بعد وقف إطلاق النار بالتوافق مع السلطة الفلسطينية في رام الله. ولم يصدر عن القاهرة أو حركتَي “حماس” أو “فتح” تفاصيل بشأن مخرجات اللقاء، لكن الذي رشح في أروقة اللقاء أنَّ ثمة توافقًا كبيرًا بين رؤية قيادة الحركتين في تشخيص الأزمة، وضرورة وقف الحرب وإغاثة الشعب الفلسطيني، وإعادة ترتيب البيت الوطني الفلسطيني وتحقيق وحدته. وهذا ما أعلنه القيادي في حركة “حماس” أسامة حمدان قائلًا إنَّ “الحركة توصّلت إلى تبنّي واحد من خيارين: إما حكومة وفاق أو هيئة إدارية تحت إشراف الحكومة الفلسطينية.”
الوضع الراهن في غزة يحتاج إلى الجرأة في اتخاذ خطوات عملية وتطبيقها على أرض الواقع. والمكسب الرئيس من لقاءات الحوار أنَّ جميعَ الأطراف تؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي المرجعية التي يجب أن تشمل كل الفصائل الفلسطينية. ففي الأخير ليس هناك من شك في أنَّ الوحدة الوطنية الفلسطينية هي خشبة الخلاص الوحيدة، التي تكفل الخروج من هذه المحنة وتحقيق الاستقرار والعدالة للشعب الفلسطيني.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى